أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا ومؤسّسة الأفق للثقافة والفنون أمسيةً شعريّة للشاعر إياس يوسف ناصر، احتفاءً بديوانه “قبلة بكامل شهرزادها”، وذلك بتاريخ 17-12-2015 في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، وسط حضور من الأصدقاء والأدباء والأقرباء، وقد تولّت عرافة الأمسية خلود فوراني سرية، ورحّب المحامي فؤاد نقارة “رئيس نادي حيفا الثقافيّ” بالحضور، وقدّم الكاتب عفيف شليوط مدير مؤسّسة الأفق للثقافة والفنون كلمة، عن مؤسّسته وعن تجربته مع المحتفى به، وقدّم الكاتب يوسف ناصر (والد الشاعر إياس ناصر) كلمة شكر لنادي حيفا الثقافيّ ولمُنظمي الأمسية وللحضور، ثمّ قدّم المُحتفى به إياس عددًا من نصوصِهِ الشعريّة، وتخللت الأمسية مداخلة فنيّة لكلّ مِن: الفنانة روزانبولس وعازف العود الفنان سمير مخول، وفي ختام الأمسية شكرّ الشاعر إياس الحضور، وتمّ توقيع ديوانه والتقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة عريفة الأمسية خلود فوراني سرية: مساؤكم نديٌّ بنور حيفا والكلمة. مساءٌ يليقُ مقامًا ووفاءً بشاعرنا الجليليّ، وقد قادتهُ خطاهُ إلينا، حاملًا في جعبتهِ عملًا إبداعيًّا جديدًا.
(قبلة بكامل شهرزادها) تجمعُنا هذا المساء، وشهرزاد بكامل عنفوانها تحملنا على جناح يمامة إلى حيث يطيبُ البقاء، وإياس نلصر في إبداعه الجديد فارسٌ قادمٌ على صهوةِ الشعر، فيضٌ رهينُ المشاعر والحواسّ، عباراتُهُ شاردةٌ من زمن إبداع قد سقط منه الإبداع.
اعذروني ففي حضرة إياس يستحيلُ أن أقفَ على الحياد! فأنّى لي الحياد وأنا امرأة مسكونة بالشعر؟! منذ طفولتهِ الشعريّةِ كان إياس يُجالسُ السموأل، والمُهلهلَ، والنابغة الذبياني والأعشى، فهطلت أمطارُ القصائد من بين أناملهِ شعرًا عذبًا. عِشقُهُ الأزليُّ للغة العربيّةِ كان سببًا في تفوّقِهِ الأكاديميّ، ونيلِهِ تسع جوائز تفوّقٍ، من بينها جائزة رئيس الجامعة العبريّة في دراسته للقبالثاني في الأدب العربيّ والأدب المقارن.
خلالَ دراستهِ الجامعيّةِ وبدافع انتمائهِ الصادق للهُويّةِ القوميّة، أسّسَ جمعيّة النبراس للغة العربيّة، حيث وضعت الجمعيّةُ نُصبَ عينيْها الحفاظ على اللغة، واستنهاضَ الهِمم البليدة، وصهْرَ حاجز الجليد بين الطالب ولغته العربيّة.
يعملُ محاضرًا للغة العربيّةِ في الجامعة العبريّة في القدس زهرة المدائن، وهو بصددِ إتمام رسالة الدكتوراه في الشعر الجاهليّ. يُؤمن إياس أنّ وظيفتَهُ كشاعر أن يَنقلَ المَشهدَ الشعبيّ الكبير. هذا ما فعلهُ خلالَ أربعة عشر عامًا من نظم الشعر، وبدا في أسمى تجلّياتهِ في مجموعتيْهِ الشعريّتيْن “قمح في كفّ أنثى”، عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، وعن مكتبة كلّ شيءلصاحبها صالح عباسي عام 2012، والذي احتفينا به تحت قبّة هذا الصّرح الثقافيّ، ومن على هذه المنصّة قبل ثلاثة أعوام، وبــ “قبلة بكامل شهرزادها” عن مؤسّسة الأفق اليوم، ولا يَخفى على أحد التقدّمُ والتميّز الملحوظان في “قبلة بكامل شهرزادها”، مقارنةً مع مجموعتهِ الأولى.
لمَن يقرؤون شعر إياس ناصر: لا تعذبوا أنفسَكم في تصنيفه! هو شاعرٌ خارج التصنيف، فلا هو تقليديّ ولا حداثويّ، ولا هو كلاسيكيّ ولا رومانسيّ، ولا رمزيٌّ ولا ماضويٌّ ولا مستقبليّ، إنّه هذا المزيج! “مزيج حريّة” ومزيج حضاريّ من الماء والنار والكبرياء.
لقد حظيت مؤسسة الأفق للثقافة والفنون بمديرها الأستاذ الكاتب عفيف شليوط، بشرف إصدار المجموعة الشعريّة الثانية، ولا غرابة في خضوع الكلماتِ وانحناءِ الورق لعائلة الأستاذ يوسف ناصر(ابو غياث)، وقد ملكَ الوالدُ ناصية اللغة وحملَ رايتَها، فرضعَ الأبناءُ حليبَ الإبداع، وما كان لهذه الكوكبة أن تسمو وترقى (كوكبة أبنائه غياث، جرير، عروة، قيس وإياس)، دوندرب الآلام التي سارَ عليها مبدعُ هذه الكوكبة، سادن اللغة العربيّة الشاعر والمُربّي يوسف ناصر، كيف لا وهو القائل: “ما سقطت أمّةٌ إلّا بعد أن سقطت لغتها مِن ألسنتها”. بارك الله تلك العلاقة الأدبيّة الحميمة في الوقوف دائمًا على أسرار اللغة العربيّة وخصائصها، وما زال الأستاذ يوسف مع شريكته ورفيقة دربه الكنفَ الذي احتضن الأبناءَ، فنبتت الفروعُ على جذورهالعميقة.
أدعوكم أعزائي لامتطاء حصان الشعر، في رحلةٍ شعريّةٍ ومفرداتٍ تقطرُ برحيق الإبداع من فضاء “قبلة بكامل شهرزادها” بصوت وأداء الشاعر، فأنا كلّما سمعت إياس يلقي شعره أيأس مِن مفرداتي! فهو رائع، لدرجة أنّني حين أفكّرُ بروعته ألهث، وتلهث لغتي وتلهث مفرداتي.
ولأنّ الموسيقا أسمى من أن تكون للهو والعبث، ولأن الموسيقا تطهيرٌ للنفس وراحةِ للقلب، تُطلّ علينا صاحبة الخامة الصوتيّة المميّزة ابنة كفر ياسيف المنارة الفنانة روزان بولس، يُرافقها بالعزف على آلة العود ابن قرية البقيعة، بينابيعها الرقراقة التي تروي زيتون الأجداد الفنان القدير سمير مخول، وموسيقاه الباعثة في النفوس راحة وجمالا وسكينة.
ولأنّ الشّعرَ هو كلمة السّرّ، حيث أمامه تتفتّحُ كلُّ الأبواب، فإنّ أبجديّتي تخونُني حين أودّ أن أشكر، وإنّ ثماني وعشرين حرفا من الأبجديّة العربيّة، لا تكفي لتغطي بوصةً واحدةً من مساحة شِعرك إياس! وأخيرًا، لا يسعني إلّا أن أدعو لك وأقول: سلمت يمينُكَ وبنات شفاهك، وسلم يراعُك وتِبرُكَ ومدادُ قلمك. لك العلاء.
واسمحوا لي أن أشكرَ كل مَن دُعِي فلبّى، ومَن اختصرَ المسافاتِ وحضرَ، وأقدّمُ خالصَ الشكر والعرفان لنادي حيفا الثقافيّ، وأخصّ بالذكر زميلي رئيس النادي المحامي فؤاد نقارة، المُحرّك الرئيس للنشاطات الثقافيّة المُبارَكة هذه، والتي ما كانت لتُعقدُ لولا الرعاية السخيّة للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ الممثل بالأستاذ جريس خوري معنا، فألف ألف شكر لهم. شكرًاللمشاركين، للفنانين ولمّن حضر ونظّم ومن المجهود ما اختصر، الأخ فضل الله مجدلاني، لكم جميعًا نحن ممتنّون ولآيات حضوركم مقدّرون.
قلبي شراع/ إياس ناصر
قلبي شراعٌ ببحرِ الحبِّ يا وطني/ فهل تخافُ عليَّ الموجَ والرّيحا؟!
إنّي ابنُ حيفا وطنطورا وناصرةٍ / وعيلبونٍ.. وسحماتا.. وترشيحا
إنّي الجليليُّ… عنقودٌ بداليةٍ / ووردةٌ فتّحَتْ في الصّخرِ تفتيحا!
يا أجملَ الحبِّ، كم أهواكَ يا وطني / يا من بجسمي سكنتَ القلبَ والرّوحا
فهل تخافُ؟! وعندي ألفُ أغنيةٍ / أبقتْ لأجلِكَ بابَ الحبِّ مفتوحا!
فليبقَ حبُّكَ… آياتٍ أرتِّلُها / في سورةِ القلبِ تقديسًا وتسبيحا
عين كـــارم/ إياس ناصر
يا عينَ كارمَ… إنّي أَعرفُ السَّبَبا / فلا تزيدي عليَّ اللّومَ والعَتَبا…
ستّونَ عامًا… ولم أعثرْ على لغةٍ / تحكي كعينيكِ عن بيتٍ لنا سُلِبا!
وعن حقولٍ من الزّيتونِ نَقطِفُها / وعن نسيمٍ يناغي التّينَ والعِنَبا
ستّونَ عامًا… ولم أنظرْ إلى حجرٍ / إلّا أعادَ إلى عينيَّ من ذَهَبا
ستّونَ عامًا… وأطلالٌ أسائلُها / مثلَ امرئِ القيسِ، عمّن غابَ واغتربا
ستّونَ عامًا… وقنديلي يرافقُني / يُضيءُ وَجْدًا.. عساني ألتقي العربا!!
***
ما زالَ يسألُني عن بيتِهِ رجلٌ / وعن تلالٍ تنادي الشّمسَ والشُّهُبا
يومَ التقينا رأيتُ الرّيحَ تَـحمِلُهُ / والشّوقَ يَـجلِدُ فيهِ القلبَ والهُدُبا
والذّكرياتُ.. يماماتٌ يُطيِّرُها / فتَحملُ العُمْرَ في مِنقارِها حِقَبا..
“من أينَ أنتَ؟!” أجابَ الدّمعُ في فمِهِ: / “من عينِ كارمَ لا زهوًا ولا عجبا!”
واسترسلَ العمُّ في إخبارِ قصّتِهِ / وراحَ يحكي… كطفلٍ ضيَّعَ اللُّعَبا
“قد جئتُ يومًا إلى بيتي بقريتِنا/ قرعتُ بابي.. فهبَّ الصّوتُ مُلتَهِبا
من أنتَ؟! من أنتَ؟! هيّا اذهبْ ولا تُرِني/ غرابَ وجهِكَ… إنّي أكرهُ الكَذِبا!
فعدتُ أَحملُ أوطاني على كتفي / وأَحملُ البيتَ والقرميدَ والقُبَبا
ولا أزالُ لهذا اليومِ أَحملُها / وأشربُ الشّمسَ والأمطارَ والسُّحُبا
حتّى غَدَوتُ غريبًا فيكَ يا وطني / بيتي قريبٌ… ولكنْ لستُ مقترِبا!
فيا لَحجمِ مآسينا ونكبتِنا / حتّى بأرضي أعيشُ العُمْرَ مغتربا!”
***
يا عينَ مريمْ.. ألم تبكي على وطني؟! / كما بكيتِ على الفادي الذي صُلِبا!
هل حكمةُ اللهِ.. أن يغتالَنا قَدَرٌ / وأن نرى قَدَرًا في كلِّ ما خَرِبا؟!
أقدارُنا… مثلُ مكتوبٍ يطمئنُنا / لو أُعطِيَ النّصرُ للمغلوبِ ما غُلِبا!
أقدارُنا البنجُ في شريانِ صرختِنا / وكذبةٌ حوّلتْ أحزانَنا خَشَبا
أقدارُنا… أن نعاني كلَّ ثانيةٍ / ونشكُرَ اللهَ ما أعطى وما وَهَبا!!
لا عدلَ في الأرضِ إلّا حينَ نُوجِدُهُ / ولا كرامةَ للإنسانِ ما اغتُصبا
لو كان للهِ وجهٌ والتقى وطني / لمسَّحَ الدّمعَ عن عينيهِ والتّعَبا…
يا عينَ كارمَ… يا سيفًا بذاكرتي / ويا حصانًا جميلًا ضاعَ وانقلبا
قرأتُ وجهَكِ في أيّامِ صُحْبتِنا / حتّى اختصرتُ بهِ التّاريخَ والكُتُبا
وقمتُ أكتُبُ في عينيكِ من أدبي / فصارَ وجهُكِ عنّي يَكتُبُ الأدبا
إنّ البيوتَ، وإنْ أصحابُها رَحَلوا / تبقى الحجارةُ عنهُمْ خيرَ ما كُتِبا
ونحن نبقى كوجهِ الشّمسِ في وطني / من جاءَ يَطردُنا، فليحترقْ غَضَبا!
كلُّ الدّروبِ إلى روما مؤدّيةٌ / صَحِّحْ كلامَكَ.. وانظرْ فيهِ محتسِبا!
كلُّ الدّروبِ إلى أرضي مؤدّيةٌ / باقونَ فيها… نَلُمُّ الدّهرَ والحِقَبا…