استضافَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطني/ حيفا العبوةَ النازفة/ الطبعة الثانية مِن رواية الشاعر الأديب فهيم أبو ركن، وسط حضورٍ من الكُتّابِ والشعراءِ والمثقفين والذوّاقينَ والأصدقاء مِن مُختلف أرجاء الجليل، وذلك بتاريخ 3-12-2015 في قاعة كنيسة مار يوحنا في حيفا، وقد افتتح اللقاءَ المُضيفُ المحامي فؤاد نقارة بترحيب بالضيوف، وأدار الأمسية الشاعر فؤاد وهبة، وكانت مداخلات لكلّ من: دكتور هشام روحانا، والكاتب جودت عيد، والكاتبة هيام قبلان، والمحامي حسن عبادي، ومداخلة زجلية للشاعر حسام برانسي، وتخلل الأمسية معزوفة موسيقية على العود للفنان وفيق حديد، واختتم اللقاء المحتفى به فهيم أبو ركن، فشكر الحضور وكلّ المساهمين في إنجاح اللقاء، ثمّ ألقى قصيدتين، وتمّ التقاط الصور التذكارية أثناء توقيع روايته (العبوة النازفة).
مداخلة جودت عيد: “عندما تُشرقُ شمسُ المَحبّة في آفاق نفوسِنا، تظهرُ الإنسانيّةُ في أعمالِنا”، هكذا يبدأ الكاتبُ فهيم أبو ركن إهداءَ روايته “العبوة النازفة”، ويَضعُنا أمامَ فلسفة حكيمةٍ، تدعو إلى سلام النفس والإنسان من خلال مَحبّته، الأمر الذي جعلهُ المؤلفُ يَتعارضُ بشكلٍ ذكي مع المفهوم الذي يحمله عنوان الرواية. منذ البدايةِ يأخذك إلى حالةِ تفجير، وتُصدَمُ كقارئ باستعمال كلمة “نازفة” بدل ناسفة، وبشكل فكريٍّ ترى الأبعاد التي ينوي الكاتبُ طرْحَها في روايته، حين أنسن العبوة لتنزفَ، وتطرحَ في نفس القارئ الاستفهاماتِ حولَ المضمون الذي يُجسّدُ تلك “العبوة النازفة” من خلال البطل “أديب”، ومِن خلال الحالةِ التي يَعرضُها على الصّعيدِ الاجتماعيّ والسياسيّ وحتى الشخصيّ، والتي تُشكّلُ قنبلة موقوتة. يؤنسن العبوة، وما عليك إلّا أن تقلِبَ الصفحة، لتعرف تمامًا ما هو دوْر الإنسان، وما هو طرْحُ الكاتبِ للفِكرِ الإنسانيّ، حين يَرفعُ إهداءَهُ إلى كلّ مَن يَدعو إلى المَحبّةِ والإنسانيّة.
قد تبدو تلكَ المُصطلحاتُ وكأنّها ساذجةٌ في زمن الحروب والكراهيّةِ والحقدِ وسهولةِ موْتِ الإنسان، لكنّهُ يُجسّدُ هذا الفكرَ من خلال مفارقةٍ إنسانيّةٍ على ظهر سفينة. لماذا اختار فهيم أبو ركن السفينة موقعًا لأحداث الرواية؟ هل يقول لنا: “حسنًا.. سآخذكم إلى منطقةٍ محايدةٍ وهناك أروي لكم الحكاية، أم أنّه في مناطق معيّنة تختفي الفوارق بين الناس؟ والبحر هو المكان الأوسعُ ليحملَ كلَّ أنواع البشر والأفكار والمشاكل والرغبات والأيديولجيات، على ظهر قارب واحدٍ، ليعكس الفكرة؛ “جميعُنا على نفس القارب”، في نهايةِ المطافِ لنا بداية ولنا طريق ولنا موعد ولنا مرفأ ولنا سَفر!
إنّ هذه الروايةِ هي رواية استفهامٍ، تبدأ باستفهامٍ وتنتهي بذلك، وتتضمّنُ حالاتِ استفهامٍ لا تنتهي خلالَ النصّ، في كلّ مكانٍ وزاويةٍ وفي كلّ فرصةٍ يَطرحُ علاماتِ استفهامٍ مِن خلال البطل، استفهامٍ فلسفيّ، واستفهامٍ حولَ الهُويّة، الكيانِ، العدلِ، السلام، الحقّ، الوطن، وكأنّهُ يأخذ زوايا عدّةً مِن استفهاماتِ مجتمعِنا وشبابنا، والتيه الذي نعيشُهُ، وانعدام الإجابات مِن جهة أخرى. يَعكس قضايا حياتيّةً شائكة، وحالاتٍ اجتماعيّة، وتضارُبًا فكريًّا وعدمَ استقرارٍ بين أفراد المجتمع الواحد، كونَهُ أقليّةً داخلَ أقليّةٍ في دولةٍ دينيّةٍ وعلمانيّةٍ في آنٍ واحد، لها أجندتها التي تبعثُ نوعًا مِن الشتات في نفوس الناس، بالذات حين انعدام قياداتٍ وفكرٍ يتماشى مع حاجات وتطلعات الشباب، وهو يُمحورُ كلّ أحداثِ روايته حول وضع الشباب، وإلى أين يتّجهونَ في خضمّ تلك المعارك والتضاربات النفسيّة والاجتماعيّة، والقوميّة والدينيّة، وعلى لسانِهم يَعرضُ أفكارَهُ وأفكارَ المجتمع، وما يَجولُ في خاطرِهِ وما يَعرضُهُ المجتمعُ كصُورٍ لوصْفِ حالةِ الشتاتِ، الشرذمة، النفاق، الوجع، والانتقام الشخصيّ الذي يُبلورُ تصرّفاتِ وسلوكيّاتِ الإنسان. حبذا لو أسهَبَ المؤلفُ في بعض تلك الحالاتِ، إذ تشعرُ وكأنّهُ يُحاولُ أن يَطرحَ كلَّ ما يَحملُهُ هذا المجتمع مِن مشاكلَ وقضايا مُعلقة، وفي صراعٍ مع الكلمة والزمن، ليعرضَ أكثرَ ما يمكن من تلك الحالاتِ، وينجحُ الكاتبُ في إدخال القارئ إلى ذاتِ الحالةِ التي يحاولُ أن يُصوّرَها، وهي الشتات وعدم الوضوح، فكلُّ قضيّةٍ طرحَها يمكن أنْ تقومَ عليها روايةٌ مستقلة، وقد يكونُ عمدًا طرَحَ هذا الكَمَّ، ليُدركَ القارئُ حجمَ التيهِ مِن جهةٍ، وحجمَ القضايا المُعلقةِ التي تغيبُ عن أذهان مُجتمعِنا، قيادةً ورجال تربيةٍ وتنشئة!
يَتحلّى الكاتبُ بتلك المسؤوليّة وفي قلبهِ غصّة، ويُساهمُ في تعريفِ الوضع، ويُحاولُ أن يَشملَ كلّ الاتّجاهاتِ مِن منطلقِ واجبٍ أدبيٍّ يتحمّلهُ، ويرنو مِن خلالِهِ إلى الأفضل، إذ نعرفُ في العلوم الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ وبشكلٍ عامّ، أنّهُ مِن الأسهلِ أن نُعالجَ مسألةً حين نعرفُها، ومِن الأسهل أن نحُلّ مشكلةً حين نطرحُ كلَّ مُركّباتِها مِن عدّةِ زوايا وجوانب. هل حقا أصبحت غريبًا؟ حول هذا الاستفهام يُبحر “أديب” مع الكاتب في محاولةٍ ليجدَ نفسَهُ، ليُدركَ ذاتَهُ حتى وإن اكتشفَ، لأنّهُ يَقبعُ تحتَ التعريف “غريب”، ولكن على الأقلّ يوجدُ تعريف. خلالَ النّصّ يُشركُنا الكاتبُ بمدى محبّتهِ، ويتحدّث مرارًا عن البيئة التي يعيشها، عن البلد عسفيا، عن الكرمل وبحر حيفا، وعن العائلةِ والأصحاب، ويَعكسُ حالة مُجتمعيّة جميلة للوفاق والتآخي والمحبّة التي تغيّرت، وصارت شيئا يَشتاقُ إليهِ بفعل قوّةِ الحياة وانشغال الناس مِن جهة، ولكن من جهة أخرى بسبب غياب المَحبّة، في ظلّ الكُرهِ المُتزايدِ والانتقام الشخصيّ، تحت طائلةِ المشاكل الاقتصاديّة والسياسيّةِ والاجتماعيّة، كما أعطانا صورة حولَ أصدقائِهِ الذين راحوا كلٌّ إلى سبيلهِ، وفقَ الظروفِ المختلفةِ، ورغمَ ذلك، يُشدّدُ على شوقِهِ إلى أصحابهِ وبيتِهِ وأمّهِ وأبيهِ وبيئتهِ كمكان، ليضعَ رأسَهُ بأمان، ويغفو في راحةٍ لا يعرفها إلّا في وطنٍ خاصٍّ بهِ، بناهُ في نفسِهِ ووجدانهِ.
من السّهلِ الكتابة عن تلك الرواية، لأنّها تُعايشُ تَفاصيلنا وشتاتنا وحالاتِنا المُتغيّرة، وصراعاتنا التي صوّرَها الكاتبُ مِن خلال علاقةِ الشاب “أديب” مع أهله وأصحابه، ومع محبوبته التي لم يستطع الارتباط بها بسبب العادات الاجتماعية التي أتت كأنها “القشة التي كسرت ظهر البعير”، فلا مجتمعٌ مُتفهّمٌ داعمٌ، ولا سُلطة داعمة، ولا توجيهٌ للتخبّطاتِ العديدة، فيجد “أديب” مَسارَ السفر والهجرة هي الملاذ الأفضل، رغمَ الوجع الذي عبّرَ عنهُ مِن خلال مشاعر “أديب” في مراحل الرواية منذ بدايتها، حيث راحَ يَرقبُ أضواءَ المدينةِ المتباعدة مع ابتعادِ السفينة، وشوقه وذكرياته التي كانت تقفز إليه في كلّ مناسبة، وفي كلّ زاويةٍ عايشها على ظهر السفينة.
مِن خلال العبوةِ الناسفةِ التي حضّرَها ذلكَ الرّجلُ صديقُ والدِه، والذي تعرّفَ إليهِ على ظهرِ السفينة، يَعرضُ العبوةَ النازفة التي هي “نحن”، بكلّ أطيافِنا وأفكارنا وقناعاتِنا، ويُحاولُ أن يُمثلَ نظريّة “كلنا في نفس القارب”، ولكن كلٌّ يتعاملُ معَ الموضوع بشكل مختلف! ولكنّه يُشدّدُ في دعوتِهِ إلى تقديس قيمةِ الحياة، مُشيرًا إلى أهمّيّةِ حياةِ كلّ إنسان، وإلى أنّ كلَّ مُسافرٍ بحَدِّ ذاتِهِ هو حياةٌ كاملة، وعوالمُ مختلفة يَحملها ويُكوّنُها في نفسِه، كما أنّه يَدخلُ إلى أعماق الرؤيةِ الموضوعيّةِ، إلى جانب إظهارِ تخبّطٍ فكريٍّ يُشرّعُ ويُشرْعنُ سلوكًا أو موقفا أو عقيدة مِن جهة، ويُحللها بعرضٍ واقعيٍّ موضوعيٍّ منطقيٍّ من جهة أخرى.
بالفعل دماغ الانسان عبوة نازفة ناسفة، وقد يكون عبوة فيها سكاكر الفرح .. للكاتب قولٌ بارزٌ في هذا السياق، حين يُبرزُ مدى الخسارة الكبرى للجميع، في حالِ اتّخاذِ موقفٍ مُتطرّفٍ وسلوكٍ مُتزمّتٍ رافضٍ وعدائيّ، ويُحاولُ طوالَ الوقتِ أنْ يُعطيَ جانبًا آخرَ مُعتدِلا، مُسالِمًا ومُتفهّمًا قدْرَ المُستطاع، وذلكَ لقوّة الحياةِ وخصوصيّتِها، فيقولُ ص28: “أيُّ هوْلٍ هو هذا الإنسان الضعيف القويّ، إنّه وعاءٌ للمُتناقضات، إنّهُ موطنُ الحقّ وبؤرةُ الشّكّ! هذا الإنسانُ المُبهَمُ الغامضُ، يكون ضعيفا أحيانًا، فشوْكةٌ صغيرةٌ تشلّهُ وتُقعِدُهُ، وأحيانا أخرى يكونُ قويّا، فيُحرّكُ الجبالَ ويَصنعُ ما يُشبهُ المُعجزات”.
يَتطرّقُ في روايتِهِ إلى قضايا هامّةٍ كقضيّة الهُويّة، والتي يَطرحُها بشكل واضح وصريح؛ إن كنتَ درزيًّا، عربيّا، فلسطينيّا، إسرائيليّا، مسلمًا أو مسيحيّا.. وككلّ أقليّةٍ يَطرحُ تساؤلًا حولَ دوائرِ الانتماء، ويَعرضُ كلَّ الأفكارِ والتخبّطاتِ التي تدورُ في أذهان الناس، في مجتمع مُتخبّطٍ دونَ وضوح في الهُويّةِ والنّهج والسلوك، ويحاولُ أن يَتطرّقَ إلى كلّ الظواهر التي تغذي كلَّ توجُّهٍ أو انتماءٍ أو هُويّة على لسان الناس، من خلال الحوار الذي يدور بين “أديب” وأصدقائِهِ، وبالتالي محاولة لتوضيح مَن هو درزيّ، وفقَ نظريّةٍ موضوعيّةٍ يَطرحُها في الرواية.
كما اقتبس سقراط ليُجيبَ على حالةٍ مِنَ التيهِ في نهايةِ الأمر: “لا أعرفُ سوى شيءٍ واحدٍ، وهو أنّني لا أعرفُ شيئا!”، وهذا قد يَحثنا مِن خلال نظرةٍ فلسفيّةٍ على البحث عن كنهِ وجودِنا. الرواية زاخرة بعناصرَ مُشوّقةٍ ومَواطِنَ استفهامٍ عديدة، لم يُفصِحْ لنا عن سبب إشكاليّةٍ ارتباط “أديب” بمحبوبتهِ، إلّا بعدَ الكثير مِن الصفحاتِ والقراءة. (ص86). ولا ندري ما سببُ ذلك، ولكنّه ساهمَ في تقويةِ عنصر التشويقِ والترقّب. هناكض فقراتٌ قليلة في الرواية أكثرَ مباشرَةً بشكل واضح، قد تكونُ أسلوبًا، وقد تكونُ وسيلة لنقل صورةٍ واضحةٍ دون الغوْص بالرمزيّة، وأنا أحترمُ ذلك بالذات، وإنّ الرواية تحملُ في طيّاتِها رموزًا يجدرُ التوقفُ عندها، مثل السفينة ماذا تعني، هل هي توحي إلى الطوفان وما تحمله مِن خير لمواصلةِ واستمرار البشريّة، بينما تعني العبوة الشّرَّ المُختبئ، والذي يُهدّدُ كينونة ومصيرَ البشريّة؟
كذلك ثمّةَ استعمالٍ ذكيٍّ للأسماءِ ودلالاتِها ورمزيّتِها، فقد اختارَ المؤلفُ للشخصيّاتِ أسماءً موحِية ليستْ بالصدفة؛ اسم البطل “أديب عبد الله محمد” والصبيّة “أحلام”، ووالدها “محمد عبد السلام عادل”. الرواية تمتلئ بوصف الطبيعة والشغف الكبير بها، والنوستالجيا والاشتياق لحالة الجمال، والحبّ، والعائلة، والحنين إلى الوطن مِن عُمق الإجحاف والوجع. لفت انتباهي جدّا الاستعمال الفرودياني ص53 في الاستفهام الذي طرحَهُ الكاتب: “هل مصيرُ الإنسان هو عربة، والقدَرُ هو الجوادُ الذي يَجُرُّها؟ ألا يوجدُ فارسٌ يُوجّهُ هذا الجواد، ويستطيعُ أن يتحكّمَ بسيْرهِ ومَساره؟” وهذه حالة لديناميكيّةِ الصراعِ بين الأنا والأنا الأعلى والأبد- الغرائز التي يُوظفها بشكل استفهاميّ جميل.
وأخيرًا، يمكن أن نُجْمِلَ، بأنّ الكاتبَ يَستغلُّ مِنصّة الرواية، ليَعرضَ مشاكلَ المجتمع الدرزيِّ كأقليّةٍ داخلَ إسرائيل، وكباقي الأقليّاتِ تُواجهُ الإشكاليّاتِ حولَ الهُويّة، العائليّة، المحسوبيّات، الإجحاف، القوميّة والروابط مع المجتمع العربي، وغيرها ص57 خاصّة وخلال الرواية عامّة.
إنّ الاستفهامَ والحوارَ خلال الرواية المصحوب برمزيّةٍ مُطلقةٍ تحمِلنا إلى التفكير بعُمقٍ مرّة أخرى، في مصير السفينة والركاب، ويضعُ الكاتبُ أمامَنا معضلة أخلاقيّة يجبُ حلّها، وتتسلسلُ الأحداث حتى النهاية في الاستفهام الفلسفيّ الكبير الذي تدورُ حوله الرواية، وهو الهدفُ مِن الحياة وماهيّتها وماهيّة الإنسان. ويُنهي روايته بشيء من قناعة “أديب”، حول عبثيّة الدفاع عن موقفه، ثمّ تتغير هذه القناعة بشكل سريع إلى أهمّيّة الدفاع عن موقفه وعن نفسه. ويصلُ إلى وصفٍ لحالة الاتهام، وعدم الثقة، والأفكار المسبقة، وحالة الفقدان، وحالة الشوق إلى الوطن المتمثل بكرمله، في ص122-123، ليُنهي روايته بشيء من مفاجئة وشيء من غضب وتيه، ولكن مع شيء كبير من إصرار ومحبة وتفاؤل. شكرا للكاتب فهيم أبو ركن، دمت للقلم والفكر الحرّ، والموقف الإنسانيّ المطلق، ودمت لنا ولأهلك وبلدك وكرملك بكلّ خير وفرح وتألق.
مداخلة هيام قبلان: يفتتحُ الكاتبُ روايته بالمكان على ظهر سفينة في البحر، والتي دارت فيها معظمُ أحداثِ الرواية، وبتساؤل يُعتبرُ فاتحة لقضيّة هامّة، “هل حقا أصبحت غريبا”؟ ومِن هنا سأبدأ: موضوع الغربة الذي أصبحَ هاجسًا يوميّا للإنسان، يعودُ ويتكرّرُ في الأحداث والمشاهد من أوّل الرواية إلى نهايتها: غربة المكان، وغربة الذات، والبحث عن الهُويّة. قضيّة الغربة التي ركّز عليها في عدّة مَشاهد، ومن خلال السردِ الروائيّ نلمسُها في عدّة جوانب منها: 1- موضوع الهجرة. 2- العودة إلى الماضي والحنين الى القرية. 3- النزعة الفلسفيّة في حوار الذات” المونولوج”. 4- الموروث الشعبيّ وتأثيره على نفسيّة الشخصيّات.
أسبابُ الهجرة للشباب من أوطانهم كثيرة، ومِن خلال أحداث الرواية نستطيع أن نلخّصَها بما يلي: 1- البحث عن فرص للعمل خارج الوطن. 2- الهروب من المشاكل ومن المجتمع التقليدي. 3- رفض الأهل زواج “أديب” من حبيبته. 4- البحث عن الذات في ظلّ ظروف صعبة وقاهرة.
همومُ الشباب في مجتمعنا العربيّ يَطرحُ في الرواية بأسلوبٍ سلس، جسّدهُ الكاتبُ بكلّ إحساس، لفقدانهِ أصدقاء له فرّقت بينه وبينهم الحياة. وجاءَ على لسان بطل الرواية “أديب”: “عباس”؛ أصيبَ بحادث في رأسه وظهره أثناء الخدمة الإجباريّة. و”جميل فارس”؛ سافرَ إلى أمريكا، ليجدَ لنفسه عملا وليهربَ مِن القلق والتوتر. و”عادل”؛ سافر إلى رومانيا ليتعلم طبّ الأسنان. و”علي” ما زال متمسّكا بآرائه التي سببت طرده من العمل عدّة مرّات. و”عامر”؛ رحلَ عن القرية إلى مدينة إيلات ليوفّر لقمة العيش لإخوته الأيتام. و”هاني”؛ يعملُ في الحقل من الصباح إلى المساء. هنا، يُعبّرُ الكاتبُ عن مشاعرَ وقضايا الشباب، ويُلقي الضوءَ على تخبّطِ الشباب سياسيًّا واجتماعيّا واقتصاديّا، وتأثير الغرب والتطرّف الدينيّ عليهم.
النزعة الفلسفيّة واضحة بأسلوب الكاتب، وترتبط بقضيّةِ الهجرة وبمفهوم فلسفيّ للحكيم “سقراط”، بالبحثِ الدائم عن الحقيقة، والاستقرار، ومعرفة الذات أوّلًا، وسرّ أعماق النفس، حتى يكشف الإنسان سرّ الوجود. “ص32″، وقد ربط بين فلسفة سقراط وبين الموروث الشعبيّ، وتأثيره على المجتمع، وانعكاساته على الصراع الداخليّ للشباب، بين الحفاظ على الموروث الشعبيّ الذي تناقلته الأجيال مِن حكايا شعبيّةٍ ومُعتقدات قديمة، وبين الفلسفة التي تعتمد على التساؤل، وتؤدّي دوْرَها الفاعلَ بتغيير مفاهيم وأفكار، فيلجأ “أديب” بطلُ الرواية إلى البحث عن نفسه الضائعة، من خلال عمليّةِ استرجاع، وبوَصفٍ دقيق لأمّهِ وبيته، وللطعام الذي هو جزءٌ مِن تراثِهِ وطبيعةِ حياتهِ وعلاقتهِ بالأرض والجذور، ومن خلال حوارهِ مع أصدقائهِ في حيفا، عن تعريفهِ الهُويّة بتشتُّتٍ وضياعٍ وبحثٍ عن الأنا المفقودة، هل هو درزيّ عربيّ، درزي فلسطينيّ، درزيّ إسرائيليّ، هل هو عربيّ أم فلسطينيّ؟ قضيّة الهُويّة شغلت “أديب” الذي حلم بالمساواة بين الناس أمام الله، والتسامح بين البشر، وقد بدا واضحًا بحواره مع الأصدقاء، أنّه يرفضُ الطائفيّة والعنصريّة والتقسيم إلى فئات، والقتلَ والإرهابَ بتطرُّقهِ إلى قضيّة الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ في عدّةِ مشاهد من الرواية، فنلمسُ أنّ الصراعَ الداخليّ قد بدأ ص45 ، حين اكتشفَ أنّ على ظهر السفينة توجدُ قنبلة، قد تؤدّي إلى نسفِ السفينة برُكّابها، وذلك بعد أن سمعَ بالصدفةِ الحوارَ الذي دار بين “أحلام” ووالدها “محمد”، الذي خطّط لنسفِ السفينة وتفجير القنبلة، ومن هنا يبدأ “التصاعد الدراميّ” للأحداث من ص45، صراع البطل “أديب” هل يسكت فيكون شريكًا في العمليّة مع الرجل، أو يُفشي السّرَّ لضابط الأمن في السفينة؟
يلمس القارئ التطوّر في الصّراع “conflict” أيضًا في شخصيّة “أحلام”، التي تحاولُ أن تثني والدَها عن تركيب القنبلة وتوقيتِها، وذلك بنقاشِها معه. وبالنسبة لشخصيّة البطل “أديب” من الممكن القول أنّه تنطبقُ عليهِ صفة “البطل الإشكاليّ”، والذي يبحث عن قيم في مجتمع متخبّط آيل للسقوط، ضاغطٍ ومضغوط، يبحث عن حياة أفضلَ لتحقيق الحلم داخل بيئة أنقى، وعالم يسودُهُ السلامُ والمحبّة والراحة، وإذا اعتبرنا توظيفَ الحلم إحدى أهمّ مميّزات الواقعيّة السحريّة، فـ “أديب” يحلمُ بمجتمع مُنصِفٍ للفرد، يحترمُ خصوصيّتهُ الطبقيّة والطائفيّة والعقائديّة، وكأنّ الحلمَ أسطورة للفرد، والأسطورة كما هو معروفٌ، هي حلم الجماعة أيضًا، فحلم البطل “أديب” يجمعُ ما بين اليقظة والنوم، برغبةٍ جامحةٍ في التجاوز لمعانقةِ الممكن، كمَخرَج مِن حالة النقص والحرمان بفقدانه حُبّهِ الأوّل وفرصة العمل، فنرى في شخصيّته آثارَ الفاجعةِ في زمن الحلم، حين يصطدم بالخيبة لأوّل تجربة له مع الحبّ والسفر بانكسار الأمل، وكأنّه بنى قصورًا من رمال، فيعكفُ على حلم اليقظة ليبحر في لجّة هذا العالم المجهول، والذي سيصبح بالنسبة له بديلا لذكرياته التي تركَها في قريته، لتحطيم سياج الغربة والسير نحو فضاء الموت الورديّ مِن حلم وجنون وهذيان، يصلُ بهِ إلى تعويض القلق برغبته بالتحرّر واحتمال وقوعه، ببناءِ جسر قادرٍ على إيصال المتعةِ للآخر وتوقيف الألم مؤقتا، كي يخوضَ رهانَ انتصارهِ على تحقيق الحلم الجماعيّ وليس الفرديّ!
الأحداث في الرواية متنامية، وظّفَ فهيم أسلوبَه الساخرَ في بعض المواقف، والذي اعتمدَ فيه على السردِ الحكائيّ والرمز، بما يَحمله مِن أبعادٍ مِن عنوان الرواية، والتي تتحوّلُ من عبوة ناسفةٍ إلى نازفةٍ، بكلّ أحاسيس ومشاعر الكاتب ،لخلق جوّ مشحون بالصراع بين قوى الخير والشّر، بين القتل والتضحية وبين الصمت والصرخة، والضمير وفقدان الأخلاق، وأشير إلى بعض الرموز التي وظّفت بكلّ إتقان وذكاء، بما تحمله مِن دلالاتٍ مختلفة يراها قارئٌ متبصّرٌ ولا يتوقف عندَها آخر، أمّا في عمليّة النقد، فلكلّ ناقدٍ اقتناصُ البُعد من وراء الرمز وما يهدفُ إليه، نرى أنّ الكاتب قصد أن يكون المكان لأحداث الرواية البحر على ظهر سفينة، البحر الذي يرمز إلى الغموض والأسرار والمجهول, أمّا البُعد لهذا الرمز فليس جغرافيّا فقط، بل فلسفيّا في سبر أغوار أعماق البحر كما أغوار النفس، والبحث عن عالم جديد ينشدُ فيه الإنسانُ استقرارَهُ ويُحقق حلمَه.
السفينة: ترمز للهجرة والسفر والرحيل والفراق واللقاء، والبُعد المجازيّ الجميلُ الذي قصدَهُ في الرواية، عن علاقة الطوفان بتطهير العالم وخلقه من جديد من خلال “سفينة نوح”، وهذا ممّا لا شكّ فيه، بوجود رابط بين العبوة النازفة وبين صراع الخير والشرّ، من أجل تحقيق عالم أفضل وأجمل، خالٍ من القتل وسفك الدماء، وقد تطرّقَ الكاتبُ إلى العلاقة ما بين اليابسة والبحر كرمز للجسد والروح، بين غرائز الجسد وقيم الروح، بين النزف والنسف، بين الآمال المعلّقة على شراع السفينة، وبين القنبلة التي إن انفجرت، ستؤدّي إلى قتل أبرياء هم ضحيّة للتخطيط لعمليّة انتقام من الأب محمّد، الذي اعتبرها عمليّة فدائيّة وليست إرهابيّة، بل هي مهمّة مقدّسة بعد أن ذهب دم ابنه هدرًا، وبعد موت زوجته حسرة عليه، وأرضه التي سُلبتْ بقوّة السلاح ودعم القانون المزيّف، وص102 أختتم بالشكل الدائريّ للسرد الذي بدأه الكاتب بالغربة لينتهي بالإنسان إلى غربة: “كيف لا أشعر بالغربة، ونحن في هذا العالم نترك الحيوان يتأصّل فينا ويصبحُ بطلا، ونترك الإنسان الذي في أعماقنا، ليُمسي حَمَلًا ضعيفا لا حولَ له ولا قوّة، يُذبحُ بسهولة ووحشيّةٍ دون رادع أو تأنيب ضمير”!
مِن هنا تنبثقُ قضيّة “الانتماء” وأزمة الهُويّة، حين تبدو غربة الإنسان الحقيقيّة داخلَ وطنِهِ، بالاضافة إلى حالةِ الاغتراب خارجَ الوطن، والتأقلم مع العالم الآخر المُختلفِ الذي يَزيدُ من مشاعر القلق والضياع والخوف من الآتي، وكي لا أنسى غربة المرأة التي قد تكون مُضاعَفة، ففي الرواية تخضع حبيبة “أديب” لقهرٍ اجتماعيّ عامّ، واضطهادٍ من العائلة باختيار الزوج المفروض عليها، والذي رتّبَ أن يكون على حسابها منذ الطفولة، فهي كائن مطيعٌ ترضخ للقانون العائليّ، وللمجتمع الذي يُسقطها في عمليّة نسيان الذات من أجل الآخر، ليعكسَ لنا الذات المتشظية كورقة خريف لا تحتمل المغامرة والظروف، فنجدُ أنّ الرّجلَ هو الآخر، يعيشُ في أزمةٍ لا تقلّ عن المرأة، بفقدانهِ انتمائهِ إلى المكان الذي يُحبّ، والأنثى التي أحبّ ذات يوم في واقع بسيط رسمته الأقدار والقوانين، لترمي به فوق صورةٍ لوطن سَرعان ما ينكسرُ في مخيلته، فكيفَ به يعودُ إليه؟ أترككم لتغوصوا في لجة هذا العالم العجيب الذي طرحه الأديب فهيم وبتساؤل: هل ينجو “أديب” من الموت، أم سيكون ضحيّة؟ ما هي نهاية هذه الرحلة النازفة، وإلى أين ستأخذنا؟
مداخلة حسن عبادي: وجهتي النقديّة هي النقد بموجب المدرسة الانطباعيّة، بمنظار القارئ العاديّ وانطباعاته، وأنا أمثّل هذا القارئ، وقد قرأت رواية فهيم للمرّة الثانية، وهذا دليل على أنّه شدّني وشوّقني لطريقةِ عرضِهِ وموضوعهِ، وتجدر الملاحظة في هذا السياق، أنّ المطالعة هي عادة تُكتَسب منذ الصغر، وتشكّلُ جزءًا مِن ثقافة الشعوب، فهي سمة مِن سمات الشعوب الأوروبيّة بشكل عام، فيقرؤون في الميترو والباص والحديقة العامّة، ويرتادون المكتبات العامّة المتواجدة في الأحياء والمناطق السكنية وفي المقاهي، بحيث يكون الكتاب بمتناول الجميع، فيولدُ حبُّ المطالعة في الأسرة، أوّلًا، وينمو في المدرسة، ويصبحُ عادةً مُكتسبَة.
مسرحُ أحداثِ الرواية هو سفينةٌ مُبحرة من حيفا، على مَتنِها “أديب” مُسافرٌ مِن قريةِ عسفيا، تاركًا حبيبته التي صدمته بقبولِها الزواج من ابن عمّها، ليجدَ نفسَهُ غريبًا (ص27)، فيُعاني صراعَ الهُويّة لشابٍّ عربيٍّ مُسلمٍ درزيّ، وكذلك محمّد عبد السلام عادل الفلسطينيّ المُشرَّد الذي سُلبَ كلّ شيء (ضحيّة النكبة وإفرازاتها)، وعائلته المُكوّنة مِن صورةِ ابنتِه “أحلام”، ووَلدِهِ الشهيدِ التي تُواكبُهُ، وزوجته المتوفاة على الحاجز حسرةً على فقدان ابنها الشهيد، وحرمانها من العلاج من قِبل السلطة، الذي يتولى مهمّة تفجير الباخرة بواسطة قنبلة موقوتة.
يلتقي “أديب” و”أحلام” في موقفهما ورؤيتهما للتفجيراتِ التي تستهدفُ المَدنيّينَ الموْجودين في مكانٍ ما مُصادفةً، بلا سبب أو علاقةٍ بمُهاجمتِهم، تدفعُ القارئَ للتماهي مع الضحايا، لأنّ كلّ إنسان يُمكنه تخيّل نفسِهِ مكانَهم، وهذا لا يعني أنّ اعتناقَ دينٍ أو مذهب، أو حمْلَ جنسيّةٍ أو تأييدَ موقفٍ سياسيّ هي أسبابٌ كافية للتعرّض للاستهداف، فالقتلُ على خلفيّةِ الاختلاف الفكريِّ أو الدينيِّ أو السياسيّ جريمة غيرُ عشوائيّة ضدّ الإنسانْ، واستهداف المدنيّين المجتمعين في مكان ما، سواء أُجريَ الاستهداف بطائرةٍ تقصِف ولا تُميّز بين وجوههم وغاياتهم، أم بتفجير حزام ناسف، أم بسيّارة مُفخخة، أم بقنبلةٍ موقوتةٍ، هو مصدرُ التعاطف مع الضحايا، وهنا تبرز الحاجة لتحديد موقف من استهداف المدنيين، الذي يقوم به أفراد بمبادرةٍ خاصّة أو بأمر من تنظيم، بحيث لا يتهرّبُ الإنسان من إدانةِ الجريمة، بتفسيراتٍ أقرب إلى التبرير منها إلى الإدانة، و”أديب” يتفّق مع “أحلام”، كلّ على حدةٍ وبطريقته الخاصّة، بأنّه يجبُ إفشالُ خطّة الأب ومنعه من تفجير العبوة، فـ “أحلام”بمساعدة الشرطة الإيطاليّة، و”أديب” بمجهوده الفرديّ.
“أحلام” تُمثّل الجيلَ الشابَّ وما يسمّى بـ “الفلسطينيّ الجديد” المؤمنَ بتغيير وسائل النّضال لنيل الحرّيّة، و”أديب” يمثّلُ الجيلَ الشابّ الذي يشعر بالغربة الدائمة، ولكن مَهما فعلَ وتفانى من أجل السلطة- بغضّ النظر عن مبرّراته- يبقى في نظرها: “عربي قذر! وإرهابي !! (ص121). فهيم نجحَ بمهارتِهِ الأدبيّةِ بتفكيكِ العبوة الناسفة، لتصبحَ عبوةً نازفة مثيرة للتساؤلات، حولَ هُويّة “أديب” الغريب وصراعاتِهِ، وجدوى خدماته للسلطة التي تمارس كلّ أساليب التمييز ضدّه، وتسلبُهُ حقوقه الأساسيّة تمامًا كأخيه الفلسطينيّ، باذلة قصارى جهدها للفصل بينهما بموجب سياسة “فرّق تسُد”.
لغة الرواية تدلُّ على كاتب متمرّس ومتمكّن من اللغة، نحوِها وصرفِها وعجِنِها ونحت الكلمات، لكنها لغة مختزلة جافة ومباشرة، تفتقرُ الى الإحساس الصادق وتعاني من التكلّس، أو ما يعرّف باللبناني اللغة المكسيكيّة- المُدبلجة، لغة معدنيّة حديديّة تعكس حقيقة عصرنا الآليّ، الذي اندثرت فيه قيمة تواصليّة إنسانيّة، وانحصرت في فعل التواصل الجافّ في كثير من الأحيان.
مداخلة فهيم أبو ركن: أنا ترعرعت في بيت شعاره “كل الناس خير وبركة”، ولهذا أنا أقيّم الإنسان حسب سلوكه، وليس حسب انتمائه الطائفيّ أو القوميّ أو الحزبيّ أو العائليّ أو العرقيّ، ومن هذا المنطلق، فكلّ كتاباتي تدورُ وتتمحورُ حولَ الإنسان وقيمتِهِ وجوهرِهِ. ثمّ ألقى المُحتفى به مقاطع من قصيدة “ملاك يغسل وجهه”، من ديوانه “شلال شوق” نقتبس منها:
تَحْتَ أَشِعَّةِ النُّورِ الْغَافِيَةِ/ يَنْزِلُ الْفَجْرُ مِنْ عُيُونِ اللهِ/ يَغْسِلُ بِجَبْهَتِي/ نَخِيلَ الْعَرِيشِ وَصَنَوْبَرَ الْكَرْمِلِ/ فَيَسْكَرُ الْحُلْمُ/ وَأَصْحُو أَنَا/ فَوْقَ خُدُودِ الْوَرْدِ تَلْتَهِبُ جِرَاحِي، وَجِرَاحِي حَمْرَاءُ/ حَمْرَاءُ/ حَمْرَاءْ/ تِلالِي الْحَزِينَةُ/ تَسْقُطُ مِنْ تَقَاطِيعِ وَجْهِي/ تَنْثُرُ الْمِلْحَ عَلَى كُلُومِي!
يَا سِنْدِيَانَةً/ عَشِقَتْ وَاهِبَ الزَّرْعِ عَلَى تِلالِ الرِّيحِ/ مَا لَوْنُ حَكَايَانَا / وَهيَ سَادِرَةٌ مُنْتَفِخَةُ الْخُدُودِ/ بُعْثِرَتْ عَلَى طُلُولِ حُزْنٍ أَشْيَبَ/ مُتَوَرِّمَةَ الأوْصَالْ!
يَا مَسَاجِدَ بَيْتَ لَحْمَ/ النَّابِتَةَ فِي صَدْرِي!/ عَانِقِي بِالْمَآذِنِ قِبَابَ السَّمَاءْ/ أطْلِقِي الأَصْوَاتَ الْمُؤْمِنَةَ:/ اللهُ كُلُّ الدِّيَانَاتْ/ اللهُ حُبُّ أَكْبَرُ مِنَ الْحِقْدِ/ اللهُ خَيْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الــ / اللهُ عَدْلٌ أَكْبَرُ/ اللهُ أَكْبَرُ/ اللهُ.
يَا كَنَائِسَ النَّاصِرَةِ.. يا كنائس حيفا/ الْمَصْلُوبَةَ عَلَى عُنُقِي!/ دَقَّاتُ أَجْرَاسِكِ فِي نَبْضِ قَلْبِي/ عَسَلٌ مِنْ زُهُورِ الآلامِ/ مَجْنِيُّ!/ تَرْجِيعُ صَدَاهَا يُعَذِّبُنِي،/ يَجْعَلُ النَّهَارَ عَلَى جِرَاحِهِ/ فِي عَيْنَيَّ يَتَقَوْقَعُ!
فَاطْرُقِي/ أُطْرُقِي/ دُقِّي أَبْوَابَ مَدِينَةٍ/ عَلَى قِمَمِ الْمَجْدِ نَامَتْ!
مِنْجَلُ الدَّمِ/ ذِئْبٌ يَعْوِي فِي أَزِقَّتِهَا الْخَرْسَاءْ/ وَهيَ مَا زَالَتْ/ عَذْرَاءَ حَالِمَةً/ تَنْتَظِرُ فَارِسَ الأَحْلامِ/ لِيَزْرَعَ وَرْدَةً عَلَى خَدَّيْهَا.
يَا خَنَادِقَ الْبَتْرَاءِ/ يَا سُورَ عَكَّا الْعَظِيمْ..!/ مَنَابِعُ الأَتْرَاحِ تُنَادِينِي/ وَمَعَاصِرُ الْهُمُومِ!/ شَرَايِينِي تَجَمَّدَتْ/ مَشَاعِرِي بِيعَتْ/ بِيعَتْ/ بِيعَتْ/ بِيعَتْ بِقُرُوشٍ بَيْضَاءَ/ وَيَوْمٍ أَسْوَدْ!
يَا أَحِبَّائِي/ يَا أَحِبَّائِي فِي الْعَذَابِ…!/ اللهُ كُلُّ الدِّيَانَاتْ/ لا دِينٌ يُفَرِّقُنَا/ تَجْمَعُنَا الدِّيَانَاتْ/ فَنَحْنُ فِي الْوِلادَةِ وَاحِدٌ../ وَنَحْنُ وَاحِدٌ فِي الْمَمَاتْ..
يَا أَحِبَّائِي/ يَا أَحِبَّائِيَ انْظُرُوا عَجَبًا/ جِرَاحُ الْقُلُوبِ الْمَفْتُوحَةُ تَبْسِمُ لِي/ جُرْحٌ مُسْلِمٌ أَحْمَرُ/ جُرْحٌ يَهُودِيٌّ أَحْمَرُ/ عَجَبًا..!/ لا فَرْقَ عَجَبًا..!!/ جُرْحٌ مَسِيحِيٌّ أَحْمَرُ/ جُرْحٌ بُوذِيٌّ أَحْمَرُ/ عَجَبًا.. عَجَبًا/ لا فَرْقَ عَجَبًا !!
تَتَعَانَقُ الْجِرَاحُ/ تُنَادِينِي/ تُنْشِدُ فِي أُذُنِي:/ لا لَوْنَ للهِ/ اللهُ حُلْمٌ لِلْبَقَاءْ/ لا طَعْمَ للهِ/ اللهُ حُبٌّ وَوَفَاءْ/ تُنْشِدُ التِّلالُ وَتُعِيدُ: لا جِسْمَ للهِ/ اللهُ وَعْدٌ وَرَجَاءْ/ تُنْشِدُ الأَزْهَارُ/ تُرَتِّلُ الأَطْيَارُ/ وَتُعِيدُ وَتُعِيدُ وَتُعِيدْ/ لا دِينَ يَحْقِدُ/ الْحِقْدُ لِغَيْرِ الدِّيَانَاتْ/ فِي أَعْمَاقِي يَمُوتُ التَّارِيخُ/ يَتَثَاءَبُ الإنْسَانُ الأَكْبَرُ/ تَبْنِي آهَاتُهُ مَعَ صُخُورِ الْمَجْدِ سُلَّمًا/ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلاكُ الرَّبِّ/ لِيَغْسِلَ وَجْهَهُ/ بِحَفْنَةٍ/ مِنْ تُرَابِ بِلادِي!!