ونحن في خضم نقاش صاخب توقف جميع جلسائي عن الكلام وصمتوا، وكأنني، بضربة سحر، عقدت ألسنتهم، فحملق معظمهم في وجهي مستغربين ما قلته: “لماذا كان الطيّار الياباني، الكاميكازي، يصر أن يعتمر قبعته الواقية، قبل ركوب طائرته الحربية واقلاعه بها، وهو في كامل عدّته العسكرية، متوجّهًا الى رحلة موته المؤكد، في أغرب مشاهد التاريخ التي عرفتها حروب البشر العصريين؟”، طرحت سؤالي عليهم، وكنا في قمة سجال نتراشق فيه المواقف حول حادثتين هامتين “هُرّبتا” في أجوائنا بسرعة كبقايا نيزك متهاو ومهزوم، وهما: الحكم، في المحكمة العسكرية في عوفر، بعد إبرام صفقة بين النيابة العسكرية وهيئة الدفاع، على النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني، خالدة جرار، وإدانتها، بعد الاعتراف، بكونها عضو قيادي في تنظيم الجبهة الشعبية، وهو تنظيم محظور، في عرف الاحتلال، وفي تهمة التحريض، والحكم عليها، وفقًا للصفقة، بالسجن الفعلي لمدة خمسة عشر شهرًا وبدفع غرامة مالية مقدارها عشرة آلاف شاقل، وبالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ.
وفي قضية ثانية منفصلة، تم التوصل، في محكمة صلح الناصرة، إلى صفقة بين النيابة الإسرائيلية العامة ومحامي الدفاع عن النائب في الكنيست الإسرائيلية، حنين زعبي، ستفضي لإدانتها، بالاتفاق، بتهمة إهانة موظف جمهور (شرطي)، وذلك بعد موافقتها على إزالة حصانتها البرلمانية، كجزء من تلك الصفقة.
بضعة أيام فرّقت بين الصفقتين، وبمفارقة لا تقدر على ترتيبها إلّا الصدفة والعجائب في أرض تنتشي بحكايا الأنبياء، فلقد شهدنا نهايتين لفّهما هدوء ساحر ومثير، لقضيتين هامتين استجلبتا كثيرًا من الاهتمام والجلبة والمواقف النارية في البدايات، وغابت جميعها في النهايات؛ والمؤسف، برأيي، هو ذلك التمنّع الاختياري المريب، الذي رافق هذا “الإصمات” وغطى حدبة القوس السياسي على طولها، وأجهض، عمليًا، ضرورة مناقشة ما حصل، لا سيما، وقع ذلك وتأثيره على ما كانت تنادي به قيادات اليسار الفلسطيني، في مسألتين مبدئيتين، وَشَمتهما شعاراتٍ على يوافطها الحركية، طيلة حقب نضالية طويلة.
الأولى: مكانة محاكم الاحتلال العسكرية وموقف الفلسطينيين المحتلين منها، وفي مقدمتهم قادة الشعب الفلسطيني، وخاصة اولئك الذين انتخبوا بانتخابات علنية وحرة لمجلسهم التشريعي، رمز سيادتهم التائهة.
والثانية، تخصّهم وتخصّنا، نحن الجماهير الفلسطينية المواطنين في إسرائيل، وهي الموقف من ابرام صفقات مع النيابات الإسرائيلية، في الملفات التي هنالك إجماع على تصنيفها كقضايا سياسية، وتحديدًا إذا كان المتهم فيها، كما في حالة القياديتين حنين زعبي وخالدة جرار، يجزم، منذ اللحظة الأولى، أن تقديمه للمحكمة، ليس إلّا ملاحقة سياسية، وما ينسب إليه من جرائم لا يتعدى كونه حقوقًا مكتسبة وحقائق لا غضاضة عليها.
بالساعد يبطش الكف،
وقبل أن أتطرق إلى بواطن الخلل التي شابت موقف كل من القياديتين، علي أن أوكد أن ما اختارته كل واحدة كممارسة حق شخصي لا يعنيني، فما يستوجب البحث والنقاش هو ما يتعلق بالبعد العام واللاصق في تصرفهما كشخصيتين قياديتين اعتباريتين، لكل واحدة منهما، في حزبها وتنظيمها، مكانة وثقل وتأثير، وتعتبران قدوتين، مثلتا يسارًا قوميا ثائرا؛ فعليّ أن أوكد، كمحام يعمل في هاتين الساحتين منذ أربعة عقود، وكمن شارك في انهاء آلاف القضايا، وجلّها بصفقات مع النيابات، وبموافقة من دافعت عنهم، أوكد أنني أتطرق لهذه المسألة ليس من باب المزايدة ولا التشكيك أو الاتهام، بل كي أوضح ما قلته في الماضي ، مرارًا وتكرارًا، لا سيما، في معرض نقاشي مع من حاول المزايدة على معشر المحامين الذين تفانوا ويتفانون في الدفاع عن آلاف المعتقلين الفلسطينيين وواجهوا الاتهامات المكالة جزافًا ومزايدة، من على أكثر من منصة ومنبر، وتعرضوا لتهجمات كثيرة من أناس لم يعيشوا تجربة المعتقلات ولم يعرفوا طريق المحاكم، لأن من يعش التجربة يتذوّقها ويستطع تقييمها، تمامًا كما حصل حين واجهت قياديتان يساريتان الواقع والوقائع واختارتا طريقًا اختاره قبلهما، برضا وبعيدًا عن راحة الشعار ونشوة النشيد، آلاف الأسرى، بينما رفضته قلة منهم وقياديون، الذين رفضوا التوصل لأي صفقة ونالوا ما نالوا من أحكام جائرة، وكسبوا مواقع في التاريخ وسجّلات الحركة الأسيرة، لأنهم عرفوا أن محاكم الاحتلال أكفٌّ لا تبطش إلا بإمرة سواعده.
إلى ذلك يجب أن لا نخلط بين القضيتين فخيارات الفلسطيني المتهم في محاكم الاحتلال العسكرية تختلف عن خيارات المواطن العربي المتهم أمام محاكم الدولة. فأمام خالدة جرار كان قائمًا الخيار بأن لا تعترف بصلاحية المحكمة العسكرية وأن ترفض التعاطي مع إجراءاتها، وأن لا تتوصل إلى أي صفقة، كان معناها الفعلي اعترافًا بأن ما نسب إليها من تهم يشكل جرمًا، علمًا بأنها متهمة بتهم سياسية واضحة لا غموض حولها، وقبولها بمبدأ الصفقة، فيه ما يشوب موقفًا مؤملًا من قيادية رائدة وناشطة في قضايا الأسرى، خاصةً وقد سطّر، قبلها، أمين عام الجبهة الشعبية، الرفيق سعدات، موقفًا نضاليًا صارمًا حين رفض الاعتراف بمحاكم الاحتلال وصلاحيتها.
الحرية خالدة ولكن..
فلقد كتبت، عندما اعتقلت خالدة جرار مقالًا بهذا العنوان، وأنهيته في حينه بهذا التشاؤم: “اللافت في جميع هذه الحالات كانت ردة الفعل الفلسطينية، الرسمية والمؤسساتية والشعبية، فهذه كانت تبدأ بحراك من خلال عقد اجتماعات لقيادات الفصائل الوطنية والاسلامية، يتلوها لقاءات للمؤسسات العاملة في هذه الميادين، ويرافقها مهرجان خجول أو اعتصام روتيني لبعض الناشطين وذوي الأسرى، ثم تنتهي كل هذه الدورة من الاحتجاجات، كشريط سينمائي قصير ويعود بعده الجميع إلى ممارسة حياتهم “الطبيعية”، بينما تستمر حصّادات الاحتلال بدورانها وتصطاد شفراتها الضحايا في حين يشاهد العالم ويشهد ونحن “تيتيتيتي متل ما رحت متل ما جيتي”.
ومضت الأيام وانتهت القضية وكان لخالدة جرار حق باختيار طريقها كمتهمة، لكنها أخطأت، برأيي، كقيادية، في ما اختارته.
أما حنين زعبي، فلقد توصّلت إلى اتفاق يقضي بشطب تهمة التحريض على العنصرية والعنف وقبولها الاعتراف باهانة رجال شرطة عرب، وذلك بعد أن وصفتهم بالخونة وطلبت من أحد المحامين ألا يصافحهم. جرت وقائع هذه الحادثة، بعد مقتل الشاب محمد أبو خضير، وحين حضر رجال شرطة عرب إلى مبنى المحكمة في الناصرة كي يشهدوا على بعض الشبان الذين اعتقلوا على نشاطاتهم الاحتجاجية. وافقت النائب حنين زعبي أن ترفع حصانتها كي يتسنى إنفاذ الاتفاق مع النيابة، والذي يقضي بإدانتها وتدفيعها غرامة مالية.
إن هذا الاتفاق يثير كثيرًا من التساؤلات العامة، وليس لي ملامة على حق السيدة حنين باختيار طريقها الشخصي لإنهاء قضيتها، لكن المشكلة الأعوص تبقى بأنها قبلت، وكشرط لإبرام الاتفاق معها، أن تكتب رسالة اعتذار من رجال الشرطة الذين وصفتهم بالخونة، وكما جاء في هذه الرسالة، التي نشرتها جريدة هأرتسوغيرها، فإنّها صرّحت بما يلي: “أشرت إلى أن تصريحاتي كانت على خلفية الاعتقالات القاسية، وقيلت خلال عاصفة من المشاعر فقط، وهي لا تمثل أسلوبي وطريقي، ولم أقصد المس بأي شخص، آسفة لقولي تلك الأمور وأعتذر أمام كل من مسست به. بالنسبة لي هذا حادث استثنائي لأن التصريحات غير اللائقة ليست نهجي”.
لساني أسد إن تركته أكلني،
مرة أخرى أؤكد أن من حق حنين زعبي أن تختار استراتيجية الدفاع عن نفسها، بشكل شخصي، لكنها أخطأت، كقيادية، حين قبلت بما قبلته، فقبل عام ونصف، تبنت القيادات موقفًا أفاد على أن تقديم لائحة اتهام بحقها هو بمثابة مباشرة اسرائيلية مستفزة، وخطوة سياسية رعناء وضرب من ضروب الملاحقات الترهيبية بحق قادة الجماهير العربية. وكثيرون أكدوا أن حنين لم تخطئ، ولم ترتكب ذنبًا أو جرمًا، حين وصفت رجال الشرطة العرب بالخونة.
فماذا يقول جميع هؤلاء بعدما قرأنا ما قرأناه؟ ولماذا أخفيت هذه الحيثيات عن قراء العربية ولم ينشر نص تلك الرسالة وبنود الاتفاق؟ وكيف يمكن أن تتحول هذه النهاية المأساوية إلى نصر كما يفهم من تصريحات السيدة حنين حين تقول: “اليوم يعرف الجميع أن الجبل تمخض فولد فأرًا، فلا يوجد تحريض على العنصرية ولا على العنف كما حاولوا إلصاقه بي”. أحقًا لا يوجد أكثر من ذلك؟
لم يفهم أصدقائي أين يقع الجبل في هذه القضية وأين الفأر؟ فما أن فرغ صديقنا من قراءة نص رسالة الاعتذار حتى سكننا مجددًا صمت شاحب، وعندها عدت مستجيرًا بذلك الياباني الذي يصر على لبس خوذته وكامل عدته، وهو في طريقه للموت، وأخبرتهم أنه يفعل ذلك لأنه ينتمي لشعب يؤمن أبناؤه بأن المرء يجب أن يقوم بالعمل الصحيح والمحترم، وبأمانة، ولن يكون فعله كذلك إلا اذا نفذه كما يتوقع شعبه ذلك منه؛ إنهم، “أرواح إلهية”، يذهبون للموت باسم الحرية والكرامة، ولكنهم يعرفون، انهم لن ينالوها إلا اذا احترموا شعبهم وتوقعاته منهم.
قلت، وسكتنا، فطوبى لمن ليس لديه ما يقول فيسكت..