صادف في يوم واحد أن حظيتُ بديوانين صدرا سنة 2015 وهما لشابين ” قبلة بكامل شهرزادها ” للشاعر إياس يوسف ناصر من الجليل ” دمعة تخدع ظلها ” للشاعر إحسان موسى أبو غوش من القدس ” عروس عروبتكم ” .
وبما أني شغوف بمعاقرة الشعر قديمه وحديثه , راقني المرور بتجربة مختلفة في القراءة , وهي أن أعطف على الديوانين معا , ومع قهوتي الصباحية رحت أرتشف من كلماتهما , ولا أعرف لماذا كان لقهوتي هذه المرة نكهة خاصة , ربما لأنها امتزجت بالشعر سيد الفنون بعد المسرح .
فهذا إياس ناصر يحفزني للإصغاء الى قصيدته الموسومة خذ ما تريد :
” قم للصباح وللندى / واستقبل اليوم الجديد / قم خذ سلامكَ منه / وانظر فيه للأمد البعيد ” .
صورة شعرية تعبر عن حب الحياة وتحث على الطموح والإجتهاد والنظر الى المستقبل , وتنتهي الصورة بنتيجة مرضية . وهذا ما يُعرف بالإقفال الحسن في الشعر , أو كما قال ناقد فرنسي : الخاتمة الندية :
” قد كان يومي رائعا / وأخذت منه ما أريد … ” .
قصيدة احسان أبو غوش ” يا موت قف هنيهة ” تتقاطع مع قصيدة ناصر , فاحسان توجه الى الحقيقة الخامسة في حياة الإنسان وهي الموت , يرفض أن يكون الموت سببا لتوقف الحياة , فالحياة يجب أن تستمر وتزهر حتى في أحلك الظروف :
” يا موت قف هنيهة / قف والتقط أنفاسك الأبديّة / دع زهرة النرجس / تحوّل من زفيرك / لؤلؤا لشهيقها / دعها تعود لمجدها / من عطرها ” .
الى ان يقول :
” يا موت قف / بل مت ولو للحيظة / لأعيد أحلامنا بلمسات المساء / عطر الشباب ” .
ولفتة طيبة من احسان ان أفرد للأمومة صفحة منها هذه الكلمات :
فلا للحياة بهاء / بدمعة أم تعطرها في / سكون الفضاء .
” ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن “
سورة لقمان .
اللافت في أوراق إياس ناصر كثرة قصائده في الحب والغزل , قصائد رقيقة سلسة , استطاع بموهبته أن يبث فيها روحا ونبضا , لكننا في الحقيقة قلّما نجد تفاوتا أو قفزات نوعية في التعبير عن العاطفة بين قصيدة وأخرى ؛ وكأني بهذه الحزمة اتفقت فيما بينها معاندة الشاعر والسير على وتيرة واحدة , باستثناء بعض اللقطات خرجت عن السرب كهذه الطفرة :
” دعيني أرتوي عينيك حتى / أذوب صبابة وأضيع شوقا / دعيني أشرب الشفتين خمرا / وأسكب من جرار القلب عشقا ” .
تذوقتها مرارا وما شبعتُ ! هكذا نتبيّن تجلي الروح في الشعر حين نتفاعل معه حماسا وغبطة ! .
وما دمنا في سيرة الروح قد نستغرب أن كلمة ” الروح ” وردت كثيرا عند احسان أبو غوش ! ربما تأثر بالفيلسوف الألماني هيجل , عبر هيجل ما معناه : أن الروح محركا فاعلا في إنجازات العظماء وفي حضارة الإنسان ؛ لكن ما يهمنا ههنا أن الشاعر يشاطرنا الرأي بأهمية وجود الروح في الشعر وفي العالم , وذلك عبر قصيدته بعنوان ” الروح ” اكتفي منها بالجزء المتعلق في الشعر :
” لو كان عالمنا بلا روح فلا / معنى لمعنى الأضحية ولبات فحوى الشعر شكلا من / صدور عاجزا لا يحمل المعنى / وفن الأحجية ! ” .
كان يمكن لهذه القصيدة ان تتبوأ مرتبة جيدة في سلم الشعر لولا أنها استُهلت بشكل تقريري ! قصيدته عن الحداثة اتخذت طريقة السرد , وحملت لفظا زائدا لنفس المعنى ! .
وفي القول عن الحداثة هناك تعريفات عديدة لها .. رأيي الخاص أن كل قصيدة ملائمة لعصرها وزمنها ومتلقيها هي حداثة أو حديثة .
وهذا ينطبق على قصيدة إياس ناصر ” ما بعد القصيدة ” يتعرض فيها لقضية أزمة القراء , قراء الشعر , وهي قضية ملحة ومقلقة تستوجب السؤال البديهي : ماذا سيكون مصير الشعر مستقبلا ؟! ؟
يقول ناصر :
” ماذا سيبقى / للقصيدة حينما / يلقى الستار / ويذهب الجمهور / ويصير مسرحها / يسَرِّحُ شَعرَها / حتى تنام / ويسكت التعبير ” .
ان هذه القصيدة لها مصداقية في ميزان النقد , أي انها جاءت في وقتها وظرفها المناسب ؛ يقال أن ثلاثة أرباع القصيدة في مصداقيتها . وهذه المصداقية تنسحب على قصيدة ” في الحاجز ” لإحسان أبو غوش . قصيدة ممتازة بكل المقاييس , من حدث وتعبير وتركيز ودراما , والدراما هي روح القصيدة .
ولعل ما أتاح لقصيدته هذا النجاح , أن الشاعر يعايش الأحداث حضورا فكرا وشعورا , يكتب من صميم التجربة . هذه القصيدة تجسد معاناة الانسان الفلسطيني اليومية على الحواجز العسكرية وما تتركه هذه المعاناة من ألم في النفوس :
” ألا تتأنّى بمشيكَ ؟ حيثُ تسيرُ / كما أنتَ / فوقَ الرّكام / تدوسُ تراباً يغطّي بسطحٍ سميكٍ / جذور الحكاياتْ / على بعد ميلٍ / وخمسٍ وكعبينْ / هناكَ سذاجةُ جنديّ / أتى من بلاد الظّلام / فيصنعُ الذكريات / يحرّف تاريخ أغنيةٍ / تُراقصها الكلماتْ ” .
من المسلم به أن للبيئتين الجغرافية والحياتية الأثر البارز في نصوص الشعراء . ومن الواضح أن إياس ناصر تـأثر بالناحيتين الجغرافية والحياتية , وهذا التأثر إنعكس في قصائده , بالجليل الساحر بأمكنته المهجرة والباقية : سحماتا ترشيحا عكا كفر برعم , وبجباله الخضر , أشجاره , أزهاره , حقوله وكروم العنب . وله تعابير مدهشة في هذا السياق كقوله ” عناقيد السنين” من قصيدته ” سافر معي ” وهي من أجمل قصائد الديوان إمتاعا وفكرة !
وعن البيئة الحياتية لا يخامرني شك بأنه قد تأثر شعرا بوالده الأديب الكبير يوسف ناصر .
أمّا إحسان أبو غوش فقد صب جُل اهتمامه في بيئته الحياتية وما تمر بها من احداث جسام , وإن كنا نرى في شعره القليل من ملامح الطبيعة كالربيع , فهو ليس ربيع البحتري :
” أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ……. “
إنما هو الربيع الحزين يستدعي بكاء أطلاله :
” فراشة تشتاق من خلف الدّجى / عطرا شذيّا من / زهيرات الربيع / نبكي على أطلالها ” .
نقطة أخيرة :
لا شك أن ديوان إياس ناصر ” قبلة بكامل شهرزادها ” هو ديوان متطور ذوقا وشعرا بالمقارنة مع ديوانه السابق ” قمح في كف أنثى ” صافحته سابقا نقدا متواضعا ؛ وان يتطور الشاعر بين ديوان وآخر فهذا جيد , بل ضروري لمن رام ولوجَ هذا الميدان .
ديوان إحسان أبو غوش , والذي هو باكورة أعماله يعتبر بداية موفقة , وإلا ما كنتُ لأستضيفه بهذا القدر من الإرتياح .