تعود فكرة إقامة قرية درزية إلى مطلع الستينات، حين طرح رئيس الوزراء حين ذاك دافيد بن غوريون الموضوع أمام قيادة الطائفة خلال زيارته لقرية جولس. أسباب الحديث عن قرية درزية في مطلع الستينات غير واضحة خاصة وأن عدد أبناء الطائفة حينها لم يتخطَّ العشرين ألفًا سوى ببضع مئات فقط. ولكن يبدو أن بن غوريون كان على علم بأن عليه التلويح بمثل هذا المشروع حين ذاك حتى يتم تنفيذه عام 2060، أي بعد مرور مئة عام.
ولكن إذا كان سبب الحديث عن إقامة قرية درزية في بداية الستينات غير واضح، فقد أصبح الآن واضحاً لأن الطائفة تعاني من ضائقة سكن مقلقة، وأصبح الموضوع يشكل خطرًا مباشرًا على كيان المجموعة وتطورها في الأجيال القادمة كطائفة ثقافية ودينية مستقلة، وحتى تراجع علاقتها مع الدولة ومؤسساتها، وتحديداً بعد أن ازداد عدد سكان الطائفة وأصبح ما يقارب 130 ألفًا، الأمر الذي دفع بالكثيرين ببناء بيوت غير مرخصة وفي بعض الحالات حتى النزوح إلى مستوطنات غير درزية.
ليس بالغريب إذا أن تتملكني حالة من التفاعل خلال مصادقة وزارة الداخلية على قرار بناء قرية درزية جديدة في الأسبوع الماضي، خاصة بعد أن استطاعت قيادتنا الدينية والسياسية تقديم موعد إقامة القرية بأربعين سنة ! حتى إني عدت إلى عادة سيئة من طفولتي، وقمت بتقريط أظافري خلال متابعتي الخبر عبر الإعلام والمواقع – حالة تشبه متابعة العالم الغربي للحظة هبوط أول مكوك فضائي على القمر.
الفرق الوحيد بيني وبين من تابع هبوط أول مكوك على القمر في حينه هو نوعية التساولات التي جاءت بعد الحدث. حيث من الطبيعي أن يتساءل المرء عن قدرة المكوك في تحدي جاذبية الأرض وتخطي سرعة الصوت وما شابه ذلك قبيل الهبوط على القمر؛ في حين راودتني أسئلة من نوع آخر أثر ترخيص القرية، وتحديداً حول مؤهلات وقدرات قيادتنا والعاملين على مواضيعنا الحياتية الملحّة وإمكانية كونهم من المريخ.
اختيار إقامة قرية درزية جديدة بالقرب من حطين هو في البداية وقبل كل شي بمثابة صفعة وجه لكل من آمن بحياة مشتركة في البلاد، ولمجموعة كالطائفة الدرزية أثبتت ولاءها للدولة على مدار سنوات. وهي شهادة فشل مكللة بكل علامات الصفر لقيادتنا على أشكالها المختلفة، وأكبر دليل على ضعفها ليس فقط في التعامل مع قيادة الدولة، بل أيضاً في قصر نظرها وسذاجة حلولها لمواضيع الساعة التي تواجهنا، وغياب أية قدرة عندها في تقييم أبعاد قرارتها على مستقبل الطائفة على المدى البعيد.
لأن ما لا تستطيع هذه القيادة حتى فهمه هو أن الهدف الأساسي من وراء إقامة مجمع سكاني لمجموعة ثقافية ودينية كالطائفة الدرزية هو ليس بناء بيوت فقط؛ وإنما في البداية وقبل كل شيء من أجل الحفاظ على كيانها كمجموعة ثقافية ودينية مستقلة، وأن تحقيق مثل هذا الهدف يمكن فقط إذا عاش أفراد المجموعة في أطر سكنية واحدة تمكنهم من التواصل الدائم وبذلك تبادل لغتهم، وطقوسهم وعاداتهم وديانتهم، وهوالسبب نفسه الذي كان من وراء تقلص عدد دروز لبنان عبر السنين، وفقدان الأجيال التي ولدت في الهجرة لأيّة صلة بانتمائهم بعد أن انتقلت عائلاتهم للعيش في أماكن بعيدة عن محيطهم الثقافي. من هنا أيضاً ينبع غضبنا على دروز كرمئيل وحيفا والقدس وهو ليس لأنهم يعيشون في الخلاء أو في الشوارع، بل لأننا على ثقة بأن وجودهم في محيط يختلف عن محيطنا يشكل خطرًا للانصهار وبالتالي القضاء على كياننا كمجموعة ثقافية مميزة.
بناء قرية درزية في حطين لا يعطي لموضوع الحفاظ على الكيان أي دعم، بل على العكس تمامًا يسرع في عملية الانصهار لأن العائلات الدرزية التي ستعيش في حطين ستكون منقطعة عن قرى الدروز في الجليل والكرمل وحتى عن قرى الدروز في هضبة الجولان وسرعان ما ستجد نفسها منصهرة في علاقات يومية واجتماعية مع محيطها الجغرافي في طبريا والمستوطنات اليهودية المجاورة، بل سيضطرون لتعاون بشكل يومي مع مؤسساتهم الرسمية كالمجالس الإقليمية، والحضانات والمدارس والخ.
قرية درزية في حطين معناه بناء خربة يعيش سكانها على الدواجن والحمضيات، لأنه لا حاجة لأن يكون الفرد مهندس مدن ليفهم بأن مصدر الرزق يلعب دورا قاطعا في تقرير مكان الإقامة عند الفرد، وأن تهويد الجليل قد تم من خلال بناء مناطق صناعية كالمدينة الصناعية في كرميئل وتيفن وغيرهما، في حين لا يوجد في حطين أية منطقة صناعية يمكنها استيعاب 400 عائلة المخطط لها أن تعيش في القرية في المرحلة الأولى، إلا إذا كان هنالك من يعتقد بأن بوابة مقام سيدي النبي الشعيب بحاجة ل 200 عامل يفتحوها في النهار و 200 عامل يسكروها في اليل.
“الأجمل” من هذا أنه فور إعلان وزارة الداخلية الموافقة على المشروع قام كل “زعيم” ومجموعته الفيسبوكية ومن خلال وسائل الإعلام الموالية له بتبني الإنجاز العظيم! حالة مشابهة لفصائل المقاومة الفلسطينية التي تتبنى كل عملية ضرب حجر على قافلة إسرائيلية، وكأنها بذلك حررت فلسطين! في حين لم نسمع حتى تصريحا واحدا أدلى به أي “زعيم” بأن مثل هذا المشروع قد تم بالتشاور مع لجان مختصة أو بعد مراجعة هيئات مختصة، وكأن الطائفة الدرزية ومستقبل أولادها مسجل في سجل هوياتهم، حتى أننا لم نسمع عن أي مشاركة للجان عائلية من قرى مختلفة لنفهم مدى إمكانيات نجاح مثل هذا المشروع وامكانيات العيش سوية في المستقبل في قرية واحدة، خاصة وأنهم كالكثيرين منا يتساءلون كيف يمكن لعائلات من قرى مختلفة أن يعيشوا مع بعضهم، في حين لا يستطيع رؤساء مجالسهم المحلية أن يتعايشوا في منتدى سلطات واحد.
نهاية الكلام؛ مشروع قرية درزية في حطين هو مشروع فاشل وبعيد كل البعد عن أن يكون حلًّا للضائقة السكنية التي تعيشها قرانا، وحتى أنه يتناقض مع الفكرة الأساسية والأكثر أهمية من وراء إقامة مجمع أسكاني لمجموعة ثقافية ودينية كالطائفة الدرزية. اختيار حطين كان لسبب واحد لا ثاني له، هو غياب أي مخطط للدولة في استخدام أراضي المنطقة لبناء مشروع لليهود، في حين يسد حاجة “زعمائنا” في التلويح بإنجاز واحد لا يصب بشكل أو بآخر في موضوع الخدمة في الجيش والشهداء ودون الدخول في مواجة مع قيادة الدولة. ومن هنا، على القيادة الحالية أن تتعامل مع مواضيع على مستوى فكرها ونظرها وذلك لتخفف من حدة الاستياء منها ومن العيش في قرانا في هذى المرحلة. وبناء علية إليكم بعض المشاريع الملحّة: بناء شارع رئيسي جديد يربط بين دالية الكرمل وحيفا، ربط حارة البكير في المغار بالكهرباء، إدخال حارة دار أبو شاح في شفاعمرو في الخارطة الهيكلية، ترخيص أراضي للسكن في جولس والرامة.