وسط حضور من قرّاء وادباء وشعراء وأصدقاء، أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا، ندوةً أدبيّة للكاتب سامح خضر، تناولت روايته (يعدو بساق وحدة)، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 15-10-2015، وقد تولّى عرافة الأمسية الشاعر هاشم دياب، وكانت مداخلات أدبيّة لكلّ من الباحث والناقد د. جوني منصور، والمحامي حسن عبّادي، والشاعر هلال الهندي، ومداخلات موسيقيّة لكلّ من الفنان العكاوي سهيل فودة مدير فرقة زمن، والذي أسّس العديد من الفرق الموسيقيّة، وعازف الكمان الفنان مارتن زكنون، والفنانة لينا فاعور والفنان فراس شحيبر اللذان قدّما مقطعًا مسرحيًّا من وحي الرواية، وفي نهاية اللقاء شكر الكاتب سامح خضر المُنظمين والمُتحدثين والفنانين والحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
كلمة العريف هاشم دياب: أهلا وسهلا بالحضور الكريم، وبالضيف الكاتب سامح خضر، والمتحدثين عن الرواية من جاؤوا ليشاركونا بانطباعاتهم، وأهلا بالفنانين الموسيقيّين سهيل فودي والفنان مارتن زكنون، والمسرحيّين لينا فاعور وفراس شحيبر، الذين حضروا ليُشاركوا بإنجاح الأمسية، وليبقى الأمل ابتسامة واعدة على مائدة الأحلام السعيدة في الأروقة المعتمة، بعد البكاء على صدر العطاء، إنه الأمل يلاطف مُسبّحًا ويستدرّ الصّدقات الصغيرة، مثل أوهام تُساور الحالم أن يسافر النهار من حال إلى حال، أو فرح بعد غياب، إنه الأمل لا يُجافي العيون الباكية، وما عداه نتركه لخيّاط يجيد لعبة التجديد في الرواية، ولن يموت أمل من ورائه رواية.
*جوني منصور نسافر معه في ندوب الذاكرة بين المنفى والوطن مع العائدين من باب الرواية يعدو بساق واحدة انه المؤرخ الفلسطيني ابن الجش الجليلية وحيفاوي الهوى والاقامة له العديد من الاصدارات عن فلسطين والصراع الاسرائيلي نعتبره حارس باب الحارة الحيفاوية القديمة
*المحامي حسن عبادي وعاشق اللغة العربية والناشط بامتياز في الوسط الثقافي وفي نادي حيفا الثقافي وهذا المساء يرصد لنا من خلال الرواية مسألة تردي الجهاز الاداري في المناطق المدارة بتصرف فلسطيني
*هلال الهندي صدرت له مجموعتان شعريتنان باسلوب شائق مراوغ ياخذنا الى الللاشيء وكل شيء من خلال الرواية في مشوار بين رام الله وغزة ويتساءل هل يمكن اعتبار رام الله جنة العودة الضيقة انه الفيزيائي
*سامح خضر الام كانت مواطنة والاب كان مغتربا ولد في القاهرة لمقاتل فلسطيني وام مصرية وحين تبدل الحال عاد الى فلسطين عام 1994 بعد اتفاق اوسلو حاصل على ليسانس في اللغة الانجليزية وماجستير في الدراسات الاسرائيلية عمل صحافيا باللغة الانجليزية في مركز الاعلام الفلسطيني ومدير عام للعلاقات الخارجية والتدريب في هيئة الاذاعة والتلفزيون في رام الله وفي 2012 تم تعيينه مديرا لمتحف محمود درويش في رام الله واستضاف العديد من اعلام الفكر والادب في العالم العربي ويعمل حاليا على عمله الروائي الثاني
مداخلة د. جوني منصور: رواية مكثفة بأسئلة الذاكرة والمنفى والوطن
رواية “يعدو بساق واحدة” للكاتب سامح خضر، نشرت في طبعتها الأولى في 2015 عن دار الأهلية بعمّان، هي مرآة واضحة لأسئلة الذاكرة والمنفى والوطن. وحول هذه الأسئلة/ المواضيع تدور مساهمتي هذه، علّني أقوم بمهمّة توضيح الصور الاجتماعيّة والإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الحاصلة على أرض الواقع في فلسطين، وعلّني أدرك عُمق المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ في هذه الأيّام، في ظِلّ أبشع احتلال شهدَهُ ويَشهدُهُ العالم. هو احتلال بغيض لئيم ظالم، مجرم وقاسٍ. وهذه فرصة للتعبير عن موقفنا إزاء الوضع، من خلال الإصرار على ضرورة وضع حدّ نهائيٍّ لهذا الاحتلال، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ، وفي مقدّمتها حقّ تقرير المصير وحقّ العودة، وحقّ إقامة دولة فلسطين على أرض فلسطين وعاصمتها القدس. وليس هذا فحسب، إذ إنّ هناك ضرورة تاريخيّة مُلحّة، وهي اعترافُ (إسرائيل) بالأخطاء التاريخيّة التي ارتكبتها بحقّ الشعب الفلسطينيّ، وفي مقدّمتها إبادة الشعب الفلسطينيّ عام 1948، ضمن مسلسل جرائم حرب ارتكبتها (إسرائيل)، أدّت إلى نكبة هذا الشعب وتشتيته.
إنّ الذاكرة في رواية (يعدو بساق واحدة) كما في رواياتٍ أخرى، عبارة عن رحلة الذات في الحياة. رحلة بين عالمين الواقعيّ والتخييليّ، فالذاكرة محورٌ أساسٌ في النصّ في هذه الرواية، فلا تهتمّ بالماضي فحسب، بل تتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، وأنا أرى أنّ الذاكرة ليست عمليّة استرجاعيّة لزمن مضى، بل هي عمليّة انتمائيّة من خلال السلوك، وتعبير عن هُويّة الجيل الذي يعيش ثقافة تأسيسيّة لتشكيل هُويّته الوطنيّة والقوميّة، فالذاكرة لا تستطيع المطابقة مع الواقع، أو أن تكون معادِلة للماضي الذي مرّ وانتهى، إنّما هي وعي ذاتي لهذا الماضي.
أمّا المكان فهو أحد تجلّيات الذاكرة، وبالأحرى بناء المكان المتخيّل أوّلًا في حيّز المنفى، للمكان الواقعيّ ثانيا في حيز الوطن. أي أنّ الوطن في عقل المتخيّل، عندما يكون في المنفى، ليتحوّل إلى واقع آخر في الوطن. ولتوضيح هذا الجانب، نقدّم هذا النموذج من رواية خضر: “يركان أرض ميلادهما عائديْن إلى أرض انتمائهما ووطنهما الذي عاشا على ذكراه سنوات عمرهما القصير” (ص11). والسؤال المُحيّر الذي يطرح خضر حول مفهوم العودة إلى المكان (الوطن)، بقوله (ص11): “كانت فرحة مصحوبة بغصّة الرحيل المُباغت، لقد أطلق الآباء لفظ العودة على الرجوع، نعم إنّها عودة، فالمرء يعود إلى ما تركه، ولكن ماذا عن أبنائهم؟ كيف يطلقون عليها (العودة)، لمكان لم يرَوْهُ وما تنفّسوا هواءَهُ يومًا”؟
الذاكرة التي تعمل قويًّا في المنفى باتجاه الوطن، وفي الوطن باتّجاه المواطنة، تحملُ في جنباتها القوّة الفاعلة على تأكيد الحقّ في الوجود، الحقّ في المكان، الحقّ في الزمان التاريخيّ. ويُضيفُ خضر مسألة ذات صلة بقوله: “الفلسطينيّون في المنفى يَخافون بالفطرة. يخافون من الأمن، ومن فقدان الوظيفة، ومن فقدان الإقامة. يخافون من النسيان، ومن ضياع الأوراق الثبوتيّة، يخافون من الوُشاة، ومن التطوّرات السياسيّة، حتى في الدول التي لا يَسمع عنها البعض، وقبل كلّ شيء، يخافون على حلم العودة من الضياع”. (ص21).
التخبّط الكبيرُ والعميق الذي وقع فيه بطل الرواية قاسم، هو صورةٌ عن تخبّطاتِ كلّ فلسطينيّ عائدٍ إلى وطنه، في ظِلّ الظروف القائمة على أرض الواقع. يكتبُ خضر: “كانت المقارنة بين الوطن والمنفى مُستفِزّة في بعض الأحيان، فالوطن هو الوطن، ولا يُمكننا مقارنته بشيء، والمنفى كان وطنًا قبل أيّام قليلة، ولهما فيه حياة مختلفة بتفاصيل دقيقة، لا يمكن زجُّها في حسابات بشريّةٍ سطحيّةٍ مُلخّصة، هنا أم هناك؟” (ص28).
نلاحظ هنا وجود إقرار بالنسبة لمفهوم الوطن، فهذه الرواية جعلت من المكان “قيمة وجدانيّة” و”قيمة فعليّة”، تتفاعلُ في داخل الإنسان، بمبادرته أو دونها، المكان الذي أراده، والآن يُريده نظيفا وطاهرًا مِن الفساد الآخذ بالزيادة يوما بعد يوم.
يكتب خضر ما يلي: “تترك الأماكن آثارها فينا، وتأخذ مِمّا بنته في شخصيّاتنا على مدار سنوات عمرنا. هل يمكن لمكان أن يغيب هكذا فجأة، ويتركنا هائمين في الدنيا دون هدف واضح، ومسار يقودنا إلى شيء؟ نحن لا نكون ما نحن عليه باختيارنا، بل نحن ما يصنعه الزمن، وتصنعه الأماكن والتجارب فينا”. (ص33).
وحول هذا الموضوع بالذات يتساءل الكاتب والناقد الفلسطين فيصل درّاج: “من هو الفلسطيني؟” ويضيف أنّ لا الأصول ولا الجغرافيا ولا التاريخ تمثّل شيئًا ذا بال في تعريف الإنسان الفلسطينيّ، طالما أنّ فلسطين الفلسطينيّة القديمة قد دُمّرت ملامحها، وأنّ فلسطين الفلسطينيّة القادمة مشروع مُستقبليّ. يفرض هذا التصوّر تأكيد أمريْن: “أنّ الفلسطينيّ هو الذي لا ينتمي إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، بل إلى القضيّة الفلسطينيّة، من حيث هي قضيّة ثقافيّة سياسيّة، ففلسطين بالمعنى المجازيّ هي ما عاشه أهلها منذ عام 1948 حتى اليوم، وفلسطين بالمعنى الفعليّ هي تجربة الفلسطينيّين، والموزّعة على الشتات والمنفى والصبر والمُجالدة والكبرياء والتضحية، وعلى إتقان تجربة الانتظار في جميع الفصول، الذي يعني أنّ الظلم الذي لحق بالفلسطين لن يدوم”.
وعودة إلى سؤال الذاكرة.. لقد فُعِّلت بطريقة قويّة من خلال “غياب الحضور”، و”حضور الغياب”.. الحضور متفاعل جدّا لقيم الحرّيّة والتحرّر والصّمود حتّى تحقيق العودة. وعودة مُجدّدة إلى الذاكرة، في الإطار التاريخيّ والقدس، وهما إطاريْن أو لنقل خطابيْن متناقضيْن، فالخطاب التاريخيّ من خلال النصّ يتعامل مع مُعطى حصل وانتهى، في حين أنّ الخطابَ النقديّ هو رأي في ما حدث. فمن خلال هذه العودة إلى الذاكرة ينبجس الوطن. ينبجس من خلال تجربة ذاتيّة لكاتب الرواية سامح خضر، سرعان ما تتحوّل إلى تجربة شاملة وعامّة. فالمعاناة التي يعيشها الفلسطينيّ المُقيم والعائد هي واحدة، ولا زالت الهّويّات الصغيرة والضيّقة – بل القاتلة كما سمّاها أمين معلوف- هي: ابن القرية، المدنيّ، اللاجئ، الغريب، العائد… وفي مواجهة هذه العودة التي لطالما انتظرها وينتظرها كلّ فلسطينيّ، تبرز فكرة الرحيل، أو مشروع الرحيل.
يكتب خضر: “الرحيل هو الموت دون قبر، اُنظر إلى الراحلين، هم يَتركون كلّ شيء دون أن يأخذوا معهم سوى الذكريات، والذكريات هنا قد تكون داء الراحل الذي لا شفاء منه، الرحيل مرادف الموت، فالموتى أيضًا يتركون مُقتنياتهم ويرحلون بلا شيء. الرحيل يوجع كما يوجع الموت. ربّما لا يتعذب الميت، ولكن الراحل يتعذب كلّ يوم وحيدًا. يتعذب بالذكرى ويتعذب بالحنين”. (ص89).
فمن خلال هذه الأسئلة: الذاكرة والمنفى والوطن، يُناقش سامح خضر ابن الجيلُ الجديد الواقعَ الذي خلفته اتفاقيّات أوسلو المرفوضة، والمنبوذة مِن قِبل قطاعات واسعة من الفلسطينيّين. وخلفت هذه الاتفاقيّات الصورة المتخيّلة للوطن جريحًا ومتألمًا، وبالرغم من هذا، فإنّ واقع المكان يفرض قراءة مستنيرة، فقراءة خضر فيها الضياع والبحث عن المنشود. “أنا ضائع . لا أخفيك أنّي بتّ لا أعلمُ مَن أنا، منذ عدت إلى هنا، وأنا لم أعد أنا. لا أعلم إن كنتُ مصريًّا أم فلسطينيا.. لا أخفيك أنّي كنتُ أفكّرُ بفلسطين، أكثر عندما كنتُ في مصر، والآن أنا أفكّر بمصر أكثر…” (ص49).
هل هي محاولة هروب من واقع حاصل في فلسطين؟ الهروب الأوّل من غزة إلى رام الله.. رام الله المزيّفة أو التي زُيّفت، لدرجة أنّها فقدت من خواصّها التاريخيّة، ومن دوْرها الإنسانيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. (تلخيص وتحليل لنصّ ص189 من الرواية).
ويعود سؤال الوطن يُؤرّق قاسم، “إنّ الأوطان هي كلّ ما نألفه وما نعتاد عليه، ليست بالضرورة ما ننتمي إليه، حين تنتقل جنسيّة أهلنا لنا. الوطن هو ما تتشكّل فيه ومنه ذواتنا” (ص66). هذه رؤية انفتاحيّة غيرُ محصورة في توريث تقليديّ.
أما ثنائيّة الوطن/ المنفى فإنّها تُشكّل معاناة لقاسم، بحيث يقول: “فلسطين هي وطني الذي عشت أحلم به سنوات عمري، ومصر هي وطني الذي كوّنني وجعلني على ما أنا عليه. في مصر كانت طفولتي ومدرستي وأصدقائي، وفيها تكوّن حلم العودة إلى فلسطين. نعم، ربّما لم تكن مصر بالنسبة لي هي الوطن، ولكنّها كانت الأمّ التي احتضنتني واحتضنت حلمي، وساعدتني أن أحافظ عليه وأحققه. هل يمكن أن أسمّي مصر منفى؟ لا، هي ليست كذلك بالنسبة لي. هي أيضًا وطن، وأريدها كما أريد فلسطين، على الرغم من ضيقي بالحال والأحوال في فلسطين، وانكماش الحلم الكبير الذي كبُر فينا، من تحرير إلى إعادة انتشار، ومن حيفا والناقورة وعكا وطبريّا وبيسان ويافا والناصرة والجليل والمثلث ودالية الكرمل وغيرها من مدن فلسطين، إلى الاكتفاء بغزة وأريحا. غزة التي لا أعرف فيها أحدًا، ولا أعرفها جغرافيّا” (ص67). وهذا هو الوصف الدقيق لحالة الفلسطيني المُنتفى في الأوطان العربيّة، بما قاله الشاعر الحبيب أحمد دحبور في زيارته لبيتي قبل ثلاثة أعوام: “وصلت حيفا، ولكنّي لم أعدْ إليها إلى الآن”.
وأودُّ أن أنهي مداخلتي، مقتبسًا ما كتبه الأديب والصديق إبراهيم نصرالله على تظهيرة الرواية: “هذه شهادة لواحد من جيل شابّ عاد إلى وطنه.. حلمَ كثيرًا، وحين وصلَ لم يجد أحلامه في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه، كما لو أنّ الأحلام أخلفت الموعد مع أصحابها”.
مداخلة المحامي حسن عبّادي: بدايةً، أودّ أن أشكر عريفَ الأمسية الشاعر هاشم ذياب على مجهوده لإنجاح هذه الأمسية الثقافيّة المميّزة مع الأديب سامح خضر، وأهنّئه بمناسبة إصدار ديوانه الشعريّ الأوّل “فوضى البدايات”. ونحن اليوم بصدد إشهار رواية الأديب سامح خضر “يعدو بساق واحدة”، والتي تُصوّر حالة عائد فلسطينيّ، ابن للاجئ لم يُحضّر للعودة التي حلمَ بها ليلَ نهار، ليصطدمَ بواقع جديد غير مُهيَأ لاستيعابه، ودون جاهزيّة بُنيويّة لتخفيف حدّة هذه الصدمة، فالعودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيّين لا تقتصر على العودة للمكان فحسب، فبعد العودة للوطن، تبدأ رحلة البحث عن الهُويّة. هذا ما حاول سامح وصفه في روايته.
قاسم العائد الى غزة المُحاصرَة والسجن (الغيتو) /الاقتصاديّ/ الاجتماعيّ/ الجغرافيّ، التي تُعاني مِن التكلّس الفكريّ، وتمييزها بين فلاح ومدنيّ، بدويّ ولاجئ، مواطن وعائد، وحروباتها الدينيّة. يُحبّ نسرين و”يهرب” إلى رام الله، بدل الهجرة إلى كندا مع صديقه عبد الرحيم، ليتحطّم حلمَه في ظِلّ الانتفاضة الثانية، عند اصطدامه بالمفارقات السياسيّة والاجتماعيّة. بعد ذهاب قاسم إلى رام الله، يتغيّر عليه المكان وتتوالى الأحداث، وأهمّ حدث هو الانتفاضة الثانية، ولم نعُد نسمع بعائلة أبو قاسم في الرواية، حتى أنّه لم يشاطرهم أفكاره، ولا يعلم عنهم الكثير. ومضت سنوات الانتفاضة دون أيّ ذكر للعائلة في غزة، أو حتى مكالمة هاتفيّة مِن وإلى والدته المصريّة، ليُشاطرَها مشاعره كمهاجرة مثله. قاسم الجامعيّ يشتغل معلمًا، عاملاً في المطاعم، بائعًا في الأسواق، وتنظيف مدخل العمارة والدرج وغيرها، تحت الخناق الاجتماعيّ والاقتصاديّ بدون أمل، لأنّ “المُفلس كما المكفوف، لا يعلم متى سينتهي ظلامه”.
حلم قاسم يكشف عري رام الله التي أنتجتها أوسلو. رام الله الجميلة التي تغيّرت معالمها كثيرًا، استفزّ هذا التغيير قاسم، ليس لأنّه ضدّ التطوير، ولكن لأنّه يرى أنّ هذا التطوير لا يقوم على قاعدة الوطن والتنمية الحقيقية له، رام الله المتخَمة بالمباني والمقاهي والأبراج، وبأناس غادروا مدنهم وقراهم ومخيّماتهم، واتّجهوا صوبَها، مدينة تختنق بكلّ أصناف منظمات العمل الأهليّ، تصرفُ بغير حساب على أمور لا علاقة لها بشأن الوطن، وكوادر من أحزاب وطنيّة ويساريّة انسلخت عن أحزابها، لتفتح دكاكين تلهو بها عمّا كانت تشتغل به قبل أوسلو، وتتحوّل إلى مليشيات تحرس تلك الأبراج.
السلطة لم تبنِ بنية تحتيّة وركيزة اقتصاديّة متينة، لاستيعاب العائدين وغيرهم ممّن قدِم إلى رام الله، فمصادر دخلها الذاتيّة شحيحة، وغير كافية لتغطية حاجات المجتمع ونفقات السلطة، ممّا خلق فجوة بُنيويّة، يَجري تعبئتُها عبْرَ التمويل الدوليّ المشروط وتداعياته، وأهمّها السكوت الجماعيّ، لعدم بناء تلك البنى التحتيّة مِن قِبل سلطة أوسلو، تماشيًا مع أهداف شخصيّة وذاتيّة لهذا السكوت، ممّا أدّى إلى استيعاب المُقاتلين العائدين وخِرّيجي سجون الانتفاضة الأولى، في أجهزة الأمن التابعة للسلطة، وخِرّيجي سجون الانتفاضة الثانية حُرّاسًا للمَتاجر والأبراج الحديثة، وترك باقي شرائح المجتمع مُحتاجين!
قاسم في رواية سامح يعاني ويواجه صراعًا وتحديًا مريرًا بين الوطن/المنفى والعائد المقيم، فهو ينتمي إلى الجيل الجديد الذي عليه أن يعاني ويناضل علّه يحصل على جزء من تلك “الكعكة” وقد لا يحصل مما يجعله يشعر باغتراب كبير في غزة ليتواصل هذا الاغتراب في رام الله في فترة الانتفاضة الثانية والحصار والخنق.
سامح يُصوّر بين السطور وقائع تدمي القلب، ومخازيَ سياسيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة يَندى لها الجبين، مُحصّلتها أثرياء يزدادون ثراءً، وفقراء يزدادون فقرًا، وقضيّة تذروها رياح التغيير. حلم رام الله كان كابوسًا. نحن في زمن أصبحت الخيانة فيه وجهة نظر. ويُنهي سامح روايته برسالة إلى صديقه عبد الرحيم بوصف رحلته، فيقول: “رحلتي مثيرة، ووقت طويل استغرقني لأعلم أنني فلسطينيّ، وكأنّ هناك شيئًا ما يختلف في هُويّتنا، دون سائر الهُويّات والجنسيّات الأخرى، كأنّ هُويّات الآخرين هِبة وهُويّتنا اكتساب، ولتكتسب شيئًا، عليك أن تكون جديرًا به”. هذه النهاية التي فيها الكثير من التعب في البحث عن الهُويّة والوطن كما قلت بدايةً.
كتابٌ جديرٌ بالقراءة، لأنّه يُنذر بالعاصفة قبل هبوبها، وقد أنذرتنا يا سامح إنذارًا يكفي ليهزّ كلّ شيء فينا، يكفي ليُزلزل الأرض تحت أقدامنا، وليوقظنا من سباتنا، وليفتح أعيُننا التي أغمضناها عمدًا أو جهلا على حقائق مُروّعة، لا تُنذر بعاصفة فحسب، بل بكارثة مُحققّة.
مداخلة فوز فرنسيس: يعدو بساقٍ واحدة في حيفا؟!
حاضرٌ دائمًا في وجداننا وفِكرنا، بكلّ ما يَجول في جنباتك يا وطني، وإن آثرنا لساعات أن ندَعَكَ جانبًا، أو نُوكِلُ همّك لآخرين، لكنّ حضورك كان الأروع بين الحضور.
عشناكَ رواية مع ” قاسم” و”عبد الرحيم ” و “سلمـى”، وكنتَ رفيق جوْلتنا غير الاعتياديّة في مدنك وربوعك يا وطني.
سامح خضر، لقد حاولنا أن نعدو معك عبرَ روايتك “يعدو بساقٍ واحدة”، في محاولة منّا لمتابعة رحلتك المثيرة الفريدة التي بها قمت، رحلة الحلم المنشود المُكلّل بالعودة إلى الوطن. حاولنا أن نحيا ولو لحظات معك هناك في غزة هاشم ورام الله، وحلّقنا بخيالنا فوق مدن الوطن التي بها حلمت، وعلى ذكرها في الرواية أتيت. فرحنا للحظات فرحك الصغيرة، وآلمَنا ألمُك، وانخداش حلمك، وتبعثره أمام الحقيقة التي واجهت .
كم أنت محظوظ يا “سامح “، أحسدك لا لشيء كبير، إذ وطئت قدماك تراب الوطن من أخمص قدميه حيث غزة هاشم، وأشبعت رئتيك بنسيم بحره، ومتّعت ولو مرّة ناظريْك، بجَمال الوطن الممتدّ إلى قلبه القدس ورام الله، ليتكلّل مؤخرًا بزيارة حيفا وعكا، آملة أن تكمل رحلة الحقيقة يومًا، فتُكحّل عينيك أيضًا بسحر الجليل، فهل أروع؟!
رغم كلّ الألم الذي واجهته من شعور بالغربة وعدم الانتماء، في الوقت ذاته أحيّيك على صمودك وصبرك، وقوّة تحمّلك التي تُرجمت بالبقاء والعدول عن فكرة الهجرة، والتي حمّلـْتَـنا عِبْئَهـا وبعض ثِقلها، طول الطريق الممتدّ من بداية رحلتك في الرواية إلى نهايتها، حتّى كدنا في لحظات نيأس معك، وبِـتـنـا قيد أنملة من إعلان الانهيار والانكسار، لكنّ تبَصُّرك وإصرارك وصبرك حالوا دون ذلك، وجـعلوك تكمل المسير بخطى ثابتة واعدة، وعلى ساقين اثنتين، فطاب لنا وإيّاك المسير .
في أيّام يُعاني فيه الوطن تمزيقا وعبثًا به وبنا، جاؤوا يُعلنون معك أنّنا هنا رغم المآسي والجراح، فقد كان الوطن لساعات بدرًا مُكتمِلا، رائعًا بأبنائه الحاضرين القادمين من كلّ جهاته، مُسقِطين كلّ الحـدود الجغرافيّة والمكانيّة، ومترفّعين عن كلّ الفروق الإثنيّة والدينيّة.
تُرى، هل اشتمّوا رائحة ذلك في الرواية؟ هل اجتذبَهم ذلك الحنين لالتقاء القادم من جانب الرئة الاخرى للوطن، مُعلّقين الآمال ببسمتك الدافئة رغم ثِقل المعاناة، متشفّعين عساها تكون بلسمًا تشفي الآلام، أم أنهم جاؤوا يطمحون باكتساب درس حيّ في العزم والصمود، في زمن باتت البسمة فيه عاقرة والأمل موْؤودًا؟
سامح خضر؛ شكرًا لك على الأمسية الرائعة، كنتَ وكانت روايتك بوصلة وُجهتِنا .سأغضّ الطرفَ عن بعض ملاحظات صغيرة، ذكرت لك بعضا منها خلال لقائنا، وسأعيد التفكير بها ثانية، تاركة المجال لمن سيقرأ الرواية أن يشاطرني الرأي لاحقا، فثمّة حيّز كبير للكلام .
وأخيرًا، لا بدّ من كلمة شكر لكلّ مَن بادر لهذه الأمسية الراقية المميّزة، ولكلّ مَن ساهم وشارك في إنجاح الأمسية.
كلمة الكاتب سامح خضر: عدتُ موشومًا بالحُبّ. في الطريق إلى حيفا تتخلّصُ تدريجيًّا مِن ألوانك.. يتسلّلُ اللونُ الأبيضُ ببطءٍ داخلك، كلّما اقتربت السيّارة مِن المدينة، لتصِلَها كقطعةِ حريرٍ بيضاءَ، وتصير جاهزًا لتُطرّزَكَ المدينة على طريقتها بألوانِها، لا تتأثرُ بحرب السكاكين، ولا تُزكمُ أنفكَ رائحة العنصريّة الكريهة التي تفوحُ في الطريق إلى المدينة. ترتمي في حضنِ المدينة، بطمأنينةِ مَن يرتمي في حضن أمّهِ بعدَ غياب طويل. لحيفا طريقتها الخاصّة في إعادة المرء إلى أوّلِهِ. اُفرُكْ عينكَ جيّدًا، فعمّا قليل ستأخذك المدينة مِن يَدِكَ، لتُعيدَ تقليمَ مَفاهيمِكَ، وتُلقّمُكَ الحياةَ على طريقتِها. سيُزيّنُ اللوْنُ الأزرقُ حوافَّ عينيْكَ ككُحلٍ، تمامًا كما يُزيّنُ البحرُ جسدَ حيفا، ويُصبحُ الأخضرُ مثلَ وشمٍ مطبوع على جسدِك.
لا تشغلكَ الأمسية التي جئت لأجلِها، ولا بعنوانِها المُستمَدِّ مِن روايتك “يعدو بساق واحدة”، فلا تفكر سوى في حيفا، وما دمت هنا، لا يهمّ إن كنتَ ستعدو بساقيْن أم بساق واحدة أم ستزحف، ليُرصّعَ ترابُها ملابسَك كحبّاتِ لؤلؤ على فستان سيّدة خرجتْ للتوّ من منزلها، لتقولَ للحياة أنا هنا. تسير قفزًا مثل طفل على بساطٍ مطاطيّ في مدينة الملاهي، لترى من المدينة ما أمكن.
تسير في شوارعها بصحبة صديقيْك “فؤاد نقّارة” و”أحمد أبو طوق”، وأنت مُهيّأ تمامًا لإلقاء التحيّة على غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وإميل توما، ومحمود درويش، وكريمة عبّود، ونجيب نصّار، ورشيد الحاج إبراهيم. تتردد أصواتهم في محيطك: هنا كنّا يا ولدي وهنا سنبقى.
تتهيأ لأمسيتك ولا تفكر حقاً فيما ستقول، فكلّ كلام في حضرة حيفا زائد.
يخذلك المشي الذي كنت بارعًا فيه، فلا تقوى على المسير. تسحبك الأرض إلى قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان، ويُحيطك أبناء المدينة بمحبّة الأهل لابنهم العائد. يمنحك الحضور ألوانًا إضافيّة تزين بها نفسك، وتذوب سريعًا بينهم.
تعود إلى رام الله وأنت تفكر في حيفا التي غافلتك، ووشمت نفسها على جسدك. وثم تنظر إليه لا لتتذكرها بل لتقرر متى سترجع إليها.