وقفات على المفارق مع التواصل أمام بوابات الجَلْبُوع سعيد نفاع    

1

   

 

الوقفة الأولى… شظايا أفكار

ربّما ترى هذه الوقفات النور 48 ساعة قبل دخولي سجن الجلبوع، وجبل الجلبوع منه براء، ولا شكّ سيتيح لي السجن وقفات كثيرة ترافقني، لكني رأيت أن أعفي هذه من الرّفقة علّها بانطلاقها خارجه تكون أفضل.

منذ أن أصدرت المحكمة العليا الإسرائيليّة قرارها قبل شهرين بتثبيت الحكم عليّ بالسجن الفعلي، استوقفتني خلالهما الكثير من المحطات وحلقتْ فيها الكثير من شظايا الأفكار في الكثير من الأمور صغيرها وكبيرها، شخصيّة وعامة، المُؤلم منها وللألم أمكنة، والمُفرح منها وللفرح بعض أمكنة، المُحبط  وهو كثير، والمُثير وهو أكثر.

الجزء الكبير من هذه الشظايا حامت حول “مشروع التواصل”، مرافقا لها السؤال ال”ريطوري- الاستنكاري”: هل كانت المؤسسة الإسرائيليّة بكل أذرعها وأزلامها ليستكلبوا هكذا زارعين في أجسادنا أنيابهم الصدئة، لو لم يكن المشروع يقضّ مضاجعهم ومواجعهم ؟!

الوقفة الثانية… مع المضاجع والمواجع.

التواصل، في نظر المؤسسة الصهيونيّة، هو فعل إنسانيّ فقط إذا كان بين اليهود، وهو فعل مذهبيّ مشروع فقط إذا كان مع قبور أوليائهم في إيران والعراق، وإذا سُمح به لل”جُوييم” حين يكون “الحل والربط” في أياديهم فلغرض في نفس يعقوب يعود عليهم، وهو فعل أخلاقي حين يكون مع الأثيوبيّين الفلاشة، وهو فعل وطنيّ وقوميّ حين يكون مع شتاتهم من ميكرونيزيا شرقا إلى الهنولولو غربا.         

وبالمناسبة ال”جُوي” هو ليس “الغير” أو “الغريب” مثلما يترجم، هو من نفس جذر الكلمة العبريّة “جْفِياه” ومعناه العربيّ “الفطيسة”، على ذمّة بعض الضليعين في اللغة العبريّة.

عندما يكون التواصل لغيرهم فهذا اعتداء على ما خصّهم به الله دون غيرهم حين اختارهم من بين خلقه أجمعين، وكم بالحري، وكما في سياقنا، حين يكون التواصل بين من يعتبرونهم كالقطيع في حظائرهم سمّنوا له بعضا من كراريزه على هيئة فحول، وتواصل مع أعدائهم وإن كانوا حتى من أهل من يعتبرونهم قطيعا، فهذا مسّ في حقهم الإلهي الخاص وأمن حقّهم الأرضيّ النابع منه، دولتهم.

ربّما يعتبر البعض أن هذا كلاما عنصريّ، وها أنا أقولها: لم ترضعني أمّي حليب كره الآخرين، والعنصريّة ليست في الإشارة إلى عنصريّة الآخرين وإنما في ممارستها ضدّهم.    

الوقفة الثالثة… ضرب المشروع.

حين انطلق المشروع ولكل شرائح أبناء شعبنا في الداخل، وعينيّا للعرب الدروز من خلاله ومن خلال “مؤتمر التواصل القوميّ” عمان الأردن آب 2001، وبدأ يؤتي أُكُلَه هدما لجدران الحظائر، كان لا بدّ من ضربه، بداية داخليّا بضرب وحدة لجنة التواصل. وهنا تشابكت عام 2009 الأيدي من قطر عبورا بتل أبيب والناصرة إلى لبنان وعودة إلى أدوات في الجليل، إلا أنه ورغم أن حَمَلة الأسافين اخترقوا اللجنة وضربوا هيبتها، غير أن شقّ اللجنة لم يوفر التواصل وعاد المنشقّون في هذا العام من الأردن يحملون خفّي حُنِين والخيبة، ورغم انتحالهم اسم اللجنة.

لملمت لجنة التواصل الوطنيّة الأصيلة الأصلانيّة الجراح، وخرقت الجدار بوفد تواصليّ إلى لبنان وسوريّة في تموز 2010 بعد انقطاع المشروع ثلاث سنوات، ممّا جعل المؤسسة  تستشرس في الملاحقة وتسارع في تقديم لوائح الاتهام وبعد التنسيق التام مع “أزلامها” الدروز، اعتقادا منها ومنهم أن لا بدّ من ضرب المشروع… والتتمّة معروفة.     

الوقفة الرابعة… القيمة والوفاء.

التواصل قيمة جليلة، وكما اعتدنا أن نقول أهليّا ووطنيّا وقوميّا، وكلّ ذلك حقّ إنسانيّ من أقدس الحقوق في السجلّ الإنسانيّ. وكما كلّ القيم، الفرديّة منها كالحريّة والجمعيّة كحريّة الأوطان، المستفيد منها الناس، وحين يعمل الإنسان فردا أو مجموعا على تحقيق تلك القيم أو الحق ويتصدّى للظالم سالبها يدفع الأثمان الغالية أحيانا من حريّته وربّما حياته، وقد يحمل السكاكين حين يقع كُثر وقد لا يسير في جنازته كثُر ممن استفادوا، قلّة وفاء، غير أن قلّة الوفاء لا تسقط القيمة ولا تسقط قلتُه استئهال القيمة دفع الأثمان، أقول هذا للأوفياء وأضيف: لا يحبطنّكم مُحبط ٌفالقيم لها أهلها ولا يضيرها الناكرون!

 ولعلّ في أبيات زيد الأطرش التي أنشدها في طريقه إلى المنفى برفقة عوائل الثوار، بعد قمع الفرنسيّين الثورة السوريّة عام 1925 ما يفسّر الكلام، إذ أنشد: “يا ديرتي ما لك علينا لوم… لومك على من خان” إلى آخر المقطوعة. “الديرة” وحريتها هي القيمة ولا يُسقط من قيمة القيمة خيانة البعض من المستفيدين من حريّة الديرة ويبقى مَهر القيمة غاليا، وفي سياقنا التواصل قيمة فلا تسقط قلّة الوفاء من قيمتها ولا ترخّص من مهرها. 

الوقفة الخامسة… الهزيمة والانتصار.

تستطيع المؤسسة أن تفرك أكفها هناء اعتقادا منها أنها انتصرت على التواصل، انتصرت على هذه القيمة هذا الحق، وأعادت ترميم جدران حظائرها. ويستطيع “زبانيتها” أن يرفعوا الكؤوس نخب ما يعتقدون أنه انتصارهم إذ أعاد لهم أسيادهم ما فقدوه من حليب مَن يعتبرونهم قطيعهم، ويستطيع كذلك “الضاربين على الدف” من حلفائهم ضمنا وإن لم يكن شكلا، أن يحتفلوا اعتقادا بخلو “الميدان لحميدان”.

هذه الاعتقادات تصير حقائق فقط إذا انهزمت “الحركة الوطنيّة للتواصل”.

أنا على قناعة تامّة أن عشرات أعضاء الحركة الوطنيّة للتواصل ومئات مؤيديها قادرين أن يجعلوا أكف المؤسسة تهتريء وكؤوس الأزلام تندلق ودفوف الحَمَادين تحترق، ولكن الاهتراء والاندلاق والاحتراق سيكونون أكثر عويلا، إذا أخذ بيد اللجنة كلّ الحلفاء الأحرار من كلّ أبناء شعبنا تواصلا قيميّا وميدانيّا.

ال27 من تشرين الأول 2015

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .