لا يختلف اثنان على أهمية الفنان كاظم الساهر موسيقياً، فالفنان الذي يحتفي يوم غد السبت بعيد ميلاده الثامن والخمسين، شكل نقلة نوعية في حالة الأغنية العراقية التي تشتهر بمقاماتها وأطوارها الموسيقية الخاصة، والتي تُحسب لها كونها لا تندرج تحت مظلة المقامات الموسيقية العربية الأخرى، حيث يبرز اسم الساهر منفرداً من بين مجايليه ومن سبقوه من رواد، وهو الذي لقبه الإعلام العراقي منتصف تسعينيات القرن بالفائت بـ”سفيرالأغنية العراقية”.
ويشكل الساهر الذي يُعرف جماهيرياً وإعلامياً بلقب “القيصر” حالة فريدة في الأغنية العربية عموماً والعراقية خصوصاً، فابن مدينة الحرية إحدى مناطق العاصمة العراقية بغداد، ظهراً مختلفاً عن أقرانه منذ أن وطأ بقدمه قسم المسرح العسكري في الجيش العراقي نهاية سبعينيات القرن الفائت، في خضم الحرب العراقية – الإيرانية، حيث بدا الساهر موسيقياً فاهماً لما يبحث عنه من موسيقى وغناء، حيث سيدفعه هذا الفهم في السنوات التالية لاعتلاء سدة المسارح العالمية وأكبر مهرجاناتها.
من ينظر لساحة الأغنية العراقية اليوم، بعد ما يقارب ثلاثين عاماً من احتراف الساهر للغناء، يجد أن كاظم كان مجدداً في الأغنية العراقية، والدليل حنكته واستمراره الفني والإعلامي والجماهيري طيلة الفترة الماضية، بعكس مجايليه، الذين تساقطوا واحداً تلو الآخر عن سكة النجاح والاستمرارية، بفعل عوامل الزمن والقضاء والقدر، وقلة الإنتاج، وعدم تحديهم بفنهم للظروف القاهرة التي مر بها العراقيون في السنوات التي أعقبت الحرب العراقية الإيرانية، وكونهم لا يمتلكون الموهبة الربانية التي امتلكها الساهر، ببعد النظر والهدف الذي وضعه لنفسه بأن يكون فناناً عربياً، لا أن يرضى بأن يحصر نفسه في العراق فقط.
حين ظهر الساهر على الساحة الغنائية، كان زملاؤه الكبار سعدون جابر وفاضل عواد وياس خضر ومحمود أنور وحسين نعمة ورياض أحمد وإلهام المدفعي وغيرهم كثر، يتسيدون المشهد الغنائي، وكان الساهر تلميذاً نجيباً بينهم، وعلى تباين شهرتهم العربية، حيث كان سعدون جابر هو الأشهر عربياً ليس فقط في هذا الجيل، بل هو الأشهر بعد ناظم الغزالي، لكن التلميذ النجيب الذي خطط بأن يُقدم نفسه مطرباً باللون العراقي، ليُثبت نفسه جماهيرياً، قبل أن يُقدم طرحه الموسيقي العربي والمرتكز على القصائد الفصحى.
في غنائه الشعبي، كان للساهر شعراء من جيله يدركون عمق ما يبحث عنه، كأسعد الغريري وعزيز الرسام وكريم العراقي، الذين قدموا للساهر أغنياته الشعبية العراقية، التي برز من خلالها، وكدليل على أن مشوار الساهر الذي بدأ معهم، كان يرتكز على أهداف فنية عالية القيمة الفنية وبعيدة النظر، لم تخلُ ألبومات الساهر في مرحلة النجومية العربية من أسمائهم على أغنيات تناسب المرحلة الآنية التي يغازل الساهر الجمهور العربي بها في وقتها.
بذكاء الموسيقى، استفاد الساهر من رواج وانتشار أغانيه العراقية، وبدأ منتصف التسعينيات بتقديم رؤيته الفنية كمطرب عربي، عبر تقديم القصيدة الفصحى، متكئاً على أشعار أشهر الرومانسيين العرب الراحل نزار قباني، والذي سيشكل معه تالياً ثنائياً يكتسح المسارح العربية والعالمية بقصائد فصيحة مغناة، جعلت للقصيدة الأغنية موطئ قدم في ذاكرة الجمهور العربي، الذي سيعتاد على ما يقدمه الساهر في حفلاته وفق النمط الجديد الذي اعتمده في غنائه، بل وسيطالب الجمهور بهذا الشكل من الغناء باستمرار.
في ذروة النجاح الجماهيري للساهر عربياً، عرف كاظم كيف يوازن بذكاء موسيقي، بين مشروعه الفني القائم على إعادة مجد القصيدة الفصيحة المغناة، إلى المسرح وإلى الجمهور، وبين الاستمرار في تقديم الغناء الشعبي العراقي، حتى إنه قدم لجمهوره العربي، أغنيات بلهجاتهم، فغنى “المصري واللبناني والخليجي”، فكان أن مسك العصا من المنتصف ما بين رغبته الشخصية ورغبة جمهوره، كما لم ينسلخ عن عراقيته كفنان، فصار الساهر الماركة الفنية الأشهر في العراق، وفي الوقت الذي صار صعباً على أن يوحد العراقيين شيء، بخلاف منتخب كرة القدم، صار الساهر في نظرهم هو من يوحدهم، وبات كثيرون يرون فيه النهر الثالث بعد دجلة والفرات.
الامتحان الصعب الذي تخطاه الساهر بموقف وطني منه، كان حينما قبل أن يحمل الجنسية القطرية كتكريم من أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ضاماً الجنسية الجديدة لجنسيته العراقية الأم، فلم يتخل عن بلده الذي لا يزال يمر بمحن إنسانية كثيرة، ووافق أن يكون سفيراً لليونيسف لتنفيذ مهمات إنسانية في العراق، فلم يؤثر نيله للجنسية القطرية على علاقته ببلده وجمهوره.
على مدى مشواره الفني، لم يكن غريباً أن ينجح كاظم الساهر حتى بأغنياته البسيطة: لأن الإحساس – دائماً – هو من ينطق، ظهوره التلفزيوني في برامج اكتشاف المواهب، لم يحرق صورته كفنان رصين، وغيابه عن إصدار الألبومات الرسمية، لم يؤثر على نسبة الحضور الجماهيري لحفلاته، بالنظر للقيمة الفنية التي يمثلها “القيصر” في الغناء العربي.