السلام نوعان: خارجي وداخلي. الأول يتحقق في انتفاء العنف؛ في انسجام أمور الحياة المعاشية والاجتماعية والسياسية؛ في تأمين المتطلبات الشخصية؛ في علاقة سلامية مع الآخرين. إنه معتمد على الظروف والأحوال والطبائع والأمزجة. بكلمة أخرى، إنه سلام خارجي، لا لأنه يحتاج إلى مناخ خارجي فقط لكي يتحقق، بل لأنه يعاش على المستوى الظاهري، كونه مرتبط بما هو خارج الإنسان، فيبقى هشاً وقابلا للتلف جراء تغير الأوضاع الخارجية.
أما الداخلي، فيعتمد على الإنسان نفسه، بغض النظر عن الأوضاع الخارجية. هو مرتبط بقوة الإنسان الروحية؛ بقدرته على التنازل من أجل الآخرين؛ بمقدار عدم تطلبه الشخصي؛ بمستوى اختباره فرح المشاركة. يحتاج السلام الداخلي إلى تواضع ومصالحة مع الذات، ومعرفة حقيقية للحاجات، وتحرر من حب الذات. هذه كلها، بحد ذاتها، لا تجلب السلام المنشود، بل تكمن ضرورتها في أنها تهيء النفس للتجاوب مع حضور الله وفعاليته فيها. السلام الحق ثبات داخلي ينشأ من نعمة إلهية، تجعل الإنسان صامدا أمام الرياح العاصفة والأمواج المتلاطمة.
ثمة حادثتان لافتتان في الإنجيل على هذا الصعيد. عندما طلب الرب يسوع من تلاميذه أن يسبقوه إلى الضفة الأخرى من البحيرة. في وسط الليل واجهوا عاصفة عاتية حتى كادت السفينة تغرق. هاجوا وماجوا من شدة اضطرابهم. وتساءلوا أين هو؟ وحده من يستطيع إنقاذنا؟ لماذا تركنا وحدنا؟ في وسط هذا الخوف والرعب رأوه آتياً إليهم، ماشيا على سطح البحيرة. فصرخوا من الخوف ، وكان جوابه: “أنا هو لا تخافوا”.
الحادثة الثانية، مشابهة للأولى. عاصفة قوية وأمواج عالية باتت تهدد السفينة ومن فيها بالغرق. لكن يسوع كان نائما في مؤخرة السفينة. التلاميذ في قلب الخطر، وهو نائم بسلام تام، وكأن لا شيء يحدث. أيقظوه خائفين، وإليه ملتجئين: “يا سيد يا سيد إننا نغرق” فكان جوابه :”يا قليلي الإيمان” . وأمر البحر والريح فهدأت.
لقد انعكس حضور المسيح، في الحادثتين، سلاماً على التلاميذ. حضور الله الحي الفاعل في قلب المؤمن يعطيه السلام. لا سلام بقدرة بشرية. هذا يبقى اتفاقا، توافقا، تنظيما مؤقتا. سمه ما شئت. لكنه لا يدوم ولا يستمر. فما من شئ ثابت ومستقر في هذه الدنيا. لذلك من شاء سلاما ثابتا عليه أن يبنيه لا على أمور هذا العالم وأوضاعه، بل على حضور الله الحي الفاعل فيه.
ولأن سلام العالم لا ينفع ولا يدوم، قال المسيح:
سلاما أترك لكم، وسلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أعطيكم أنا. فلا تضطرب قلوبكم وتفزع
(يو14/27).
لا يعني السلام الداخلي عدم الانفعال تجاه المخاطر والاضطرابات، بل موقفا إيجابيا منها؛ موقفا فاعلا لا منفعلا؛ موقفا يتعاطى معها، بألم، بتحسس، بمشاركة، بوجع، لكنه يحوّل هذه الاختبارات إلى موقف إيجابي يقوي ويسند ويعزي ويحتضن ويطالب نفسه بدور يساهم في تخفيف المخاوف.
أن تكون في سلام روحي، لا يعني أن تنفض يداك من هموم الناس وقضاياهم، بل على العكس، أن تغمسهما حتى النهاية في وحل العالم، بغية تنظيفه، ولا تتسخ أنت به في الوقت ذاته. “لا أطلب إليك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير”(يو17/15).
الوقت وقت السلام الحقيقي. الكل يبحث عنه ويريده، ولكن الغالبية تطلبه حيث لا يوجد، لأنها لا تعرف الطريق إليه. قد يكون اختبار السلام الداخلي رسالة زمننا الحالي الأولى.
يقول القديس سلوان: “إذا أصابتك شدة فقل:”إن السيد يعرف قلبي، فإذا كان هذا ما يرضيه، فكل شيء سيكون حسنا لي وللآخرين”. وهكذا ستكون نفسك دوما في سلام. لكن إذا بدأ الإنسان بالتذمر والتبتبة قائلا:”هذا ليس حسناً.. وعليه أن يكون مختلفاً…” فإنه لن ينال السلام قطعيا في قلبه، ولو حفظ جميع الأصوام والصلوات.
يأتي السلام من قبول الواقع كما هو، ومحبة الآخرين وقبولهم كيفما كانوا. من عرف كيف يستسلم للمشيئة الإلهية، وأحب الإخوة، يمكنه أن يحيا في سلام ويساهم في تغيير الواقع فعلا لا قولا. “كن بسلام وألوف من الذين حولك سيجدون السلام” هذا ما اعتاد القديس سيرافيم ساروف أن يردده.
هذا هو الدرب الموصل إلى السلام المنشود. كيف نقبل كل شيء بشكران وإيجابية؟ إن عشنا حقا لله ومع الله ومن أجل الله، لن نختبر هذا السلام فقط، بل سننقله إلى كل من هم حولنا. وسنصلي مع القديس سلوان:
” ياسيد امنح سلامك لشعبك.
“يا سيد ، أعطهم نعمتك حتى يعرفوك ويحبوك بالسلام وبالحب، وحتى يقولوا مثل الرسل على جبل ثابور:”حسن يا رب أن نكون معك”.