قال العلاّمة المؤرّخ الفيلسوف الاجتماعّي العربيّ عبد الرّحمن بن خلدون قبل ستّة قرون:” إن الحضارة تفرز ما يفسدها”.ويؤكد هذا القانون البليغ الذي توصّل اليه عقل العلاّمة الكبير في ذلك الزمن ما يحدث في أيّامنا وما نراه في عيوننا وما نسمعه بأذاننا وما نقرأه على صفحات الصحف والكتب .
كان فضاؤنا وهواؤنا ، قبل عقود قليلة ، نظيفا عليلا مريحا منعشا ، وما زلت أذكر سهراتنا وأمسياتنا الجميلة حينما كنا نلتقي على برندة بيت صديق على سفح الكرمل في حيفانا ومياه الخليج تنبسط على صفحة كتاب الحب أمام عيوننا وأضواء السّفن والقوارب تتسامر وتتغازل بلا حياء ،ونسيم البحر العليل يداعب وجوهنا .ومازلت أحنّ الى نومة مريحة على سطح منزلنا الجليليّ والنّسيم النّاعم يداعب شعر رأسي وحبيبات النّدى الفضيّة منثورة على لحافي.
نسهر في هذه الأيام وننام في هذه الليالي في غرف محكمة الاقفال كما يفرض مكيّف الهواء علينا .. وشتّان بين الهواء النّظيف العليل الصّحيّ في تلك الأيّام وبين الهواء الذي ينفثه الجهاز العصريّ الحضاريّ ..وشتّان ما بين أن يصحو المرء من نومه قويّا نشيطا مثل الجواد الأصيل وبين أن يصحو كسولا متعبا مثل حبقة في رياح الخماسين .
فرح الانسان بالمصانع التي نقلته الى العصر الصناعيّ الحديث وفرح بالقطار وبالسّيّارة وبالطائرة وبالتّلفاز وبالهاتف وبالأنترنت وبالهوائيّات وبالكهرباء وبالغاز وبالنّفط وأقبل جشعا على هذه الصّناعات التي وفّرت له وسائل الرّاحة ثم اكتشف بعد حين أن هذه الالات الحضاريّة التي تخدمه وتريحه هي نفسها التي أفسدت هواءه وفضاءه وماءه وغذاءه.
لوّث دخان المصانع والسّيارات والقطارات هواءنا وراكم السّخام على رئاتنا وأفسد بول وروث المصانع شواطئنا وجداولنا وآبارنا..وملأت النّفايات والقاذورات السّواحل الفضيّة للزيب وعكّا وحيفا والطّنطورة ويافا وعسقلان وغزّة، وتحوّلت مياه جداولنا في النّعامين والمقطّع والعوجا والاسكندر التي كانت مثل عين الدّيك الى قنوات للمجاري.
أقبلنا بجشع على الحاسوب والانترنت والخليويّ مبهورين ومسرورين فتسلّل السّرطان الى أجساد النّاس بخبث وبدهاء ومات الهدوء في حارّات مدننا وقرانا ورحلت السّكينة عن أحياننا وتحوّلت الشوارع الى ميادين قتال وصارت الطرق غابات.
أدمنّا على ركوب السّيارة وطلّقنا السّير الصّحيّ على أقدامنا ولا نستطيع أن نعيش لحظات بدون الخليويّ فصار الجهاز يرافقنا الى أسرّة النّوم والحمّامات ولا ينسى أن يتسلل الى وجبات طعامنا وقهوتنا وحفلاتنا وحتى تشييع الموتى..ولا ينتبه أحدنا للضرر الذي تسببه الآلة بل يتضايق الواحد منّا اذا جلس أو وقف في مكان لا شبكة فيه أو لا ارسال أو لاقط فيغادره بحثا عن الاتصال والتّواصل ناسيا أو متناسيا، جاهلا أو متجاهلا تأثير ذلك على جسمه وصحته.
كان الرّجال الآباء والابناء الذين يعملون خارج البلدة أو المدينة يعودون اليها ليقضوا أيّام العيد مع والديهم وأهلهم وأمّا اليوم فيسافر الابناء مصطحبين زوجاتهم وأولادهم الى المنتجعات البعيدة لقضاء عطلة العيد تاركين آباءهم وأمهاتهم وحيدين في البيوت….
وكان الشّبّان في العقود السّالفة يتبارون في سباق الخيول في الميادين في ضحى او اصيل احد ايّام العيد وأمّا اليوم فتتحوّل الشّوارع ليل نهار الى حرب بين السّيّارات والتراكتورات الصّغيرة والدّرّاجات النّارية استقبالا وفرحا بالعيد!
وحينما تذمرت من هذه التصرّفات أمام ولدي لؤي وهو أصغر أبنائي، متزوج وله ثلاثة أولاد، وفّقهم الله،قال لي بأسلوبه السّاخر: على رسلك يا والدي ،على الآباء أن يسمعوا ما يقوله أبناؤهم ..وعلى الأمّهات أن يسمعن ما يقلنّ بناتهنّ..ويا والد (ة) نفّذ(ي) ما يأمرك به ولدك ..هذه سنّة الحياة في أيامنا .
كان احد اصدقائي يقول لي: نحن ندفع ثمن الحضارة. واقول له ما قاله عبدالرحمن بن خلدون ان الحضارة تفرز ما يفسدها
ويبدو أنّ هذه الفسحة الضيقة في الصّحيفة لا تسمح لي أن أعرّج على ما أفرزته الحضارة من مفاسد ومثالب في العالم الغربيّ وفي مجتمعنا المدنيّ فمنها ما يصحّ ويجوز ذكره ومنها “المخفيّ أعظم” ومنها “غلب وسترة ولا غلب وفضيحة”.