ي التسعينيات، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت موجة عاتية تنعى كل ما كان في الحرب الباردة، وتبشّر بعالم جديد، تتسيده القيم الأميركية، تماماً كما كان فوكوياما يروّج نهاية التاريخ. عربياً، انعكس هذا صعوداً لموجة ليبرالية يمينية، في وسائل الإعلام المختلفة، تؤكد تغييراً حقيقياً في الوطن العربي، يعلن رسمياً نهاية شعارات العروبة والوحدة، وكل “أساطيرها”، وقد قيل الكثير عن شعارات العروبة البالية، وعن الخطاب الخشبي الذي يصدح بمفاهيم نهشها الصدأ، في وقتٍ كانت الدول العربية فيه تتراكض نحو مؤتمرات التطبيع مع الكيان الصهيوني. لكن، ما حدث بعد ذلك، يستوجب أن نعود، اليوم، لنقول إن أوهاماً عدة روجها هذا الخطاب سقطت، وباتت الحاجة ملحة إلى إعادة تفعيل “الشعارات البالية”.
حدثت تغيّرات كبيرة، وتكشفت أمور عديدة، تجعل الخطاب الذي روّج لإقصاء العروبة من رؤيتنا وذاكرتنا، في موقع ضعف شديد. لعل أهم التغيّرات سقوط الأوهام حول الدولة القُطرية في الوطن العربي، فقد جرى ترويج هذه الدولة، بوصفها كياناً متماسكاً ونهائياً، لا حاجة له بالعروبة، وهو ينهي أي حديث عن ضرورات الوحدة والتكامل العربيين، فهذا الكيان بذاته قادر على الثبات، بقوة الأمر الواقع، أو وجود شعور وطني بين أبنائه، أو الاثنين معاً.
كشفت الأحداث العربية المتلاحقة، في السنوات الأخيرة، عن مدى الضعف البنيوي، والافتقار إلى الشرعية، في هذه الكيانات القُطرية، وبات الحديث عن أزمة الدولة العربية، ومسألة إعادة بناء الشرعية فيها الشغل الشاغل لشرائح واسعة، بعد أن كان شغل مجموعة صغيرة من المثقفين الذين كانوا يتعرضون للسخرية من الخطاب الرسمي العربي وأنصاره، بسبب رؤيتهم هزالة هذه الكيانات، وهشاشتها، وتحذيرهم من عدم قدرتها على الصمود، في حال اندلاع أي أزمة، وتأكيدهم فشل الهويات القُطرية التي حاولت صناعة ذاكرة للناس، اعتماداً على ذكرى حضارات بائدة، لا مكان لها، اليوم، إلا في المتاحف، ولا معنى لها في حياة الناس وثقافتهم. ومع ترهل الدولة العربية، وعدم قدرتها على صناعة حالة وطنية حقيقية، تجمع المكونات الاجتماعية المختلفة، ومساهمة فشلها في بناء الهوية الوطنية، في تعزيز الهويات العشائرية والطائفية، كان فشلها البارز في مواجهة العدو الإسرائيلي يتحول إلى فشلٍ آخر، يتمثل في عدم القدرة على الوصول إلى تسوية الحد الأدنى مع العدو، وتحسين شروط الهزيمة أمامه، وانهار ما بشّر به بعضهم في التسعينيات، من إمكانية إيجاد سلامٍ (عادل وشامل) في المنطقة، وإنهاء حالة المقاومة، والشعارات البالية المرتبطة بها، وأثبت خيار المقاومة قدرته على الإنجاز، في مقابل فشل خيار التطبيع .
“ |
لم يتمكن الاتجاه الليبرالي اليميني من ابتكار حلول للإشكالات العربية الكبرى، لكن الإسلاميين الذين ورثوا الشعبية في الشارع العربي من القوميين واليساريين فشلوا في إيجاد بديل ناجح، وأكثر من ذلك، ساهموا في جر الأحوال العربية إلى الأسوأ، باستنفار الهويات الطائفية، والمساهمة في إشعال نار الصراعات الأهلية في المجتمعات العربية، ويمكن أن نشهد، بوضوح، ما انتهت إليه آمال أبناء الصحوة، من نشوب حرب “الإخوة” بينهم، في العراق وسورية، على أساس التحشيد والتعبئة الطائفية، بما يكرس تمزيق المجتمعات العربية، وأخطار التقسيم. كذلك، تعاونت الأحزاب والحركات الإسلامية الكبيرة (إذا استثنينا تجارب حركات المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين)، في مراحل عدة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، مع القوى الاستعمارية، للوصول إلى السلطة، والاستقواء بهذه القوى ضد خصوم الداخل، كما هو حال حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق، أو القوى الإسلامية في ليبيا، والإخوان المسلمين في سورية. والنتيجة، كما نشهدها، دمارٌ للدول والمجتمعات، واحترابٌ أهلي بلا أفق.
ليس القوميون في منأى عن تحمل مسؤولية هذه المشكلات، بل إن نظامي البعث في العراق وسورية اللذيْن عزّزا النزعات العائلية والعشائرية في الحكم، وفكرة الاستبداد العائلي في الجمهوريات، ساهما في إحداث هذه الإشكالات أيضاً، لكن العروبة، بما هي هوية جامعة لغالب المكونات الاجتماعية العربية، يمكن أن تشكل جزءاً من حل شامل، للإشكالات العربية، وتقوم بوظيفتين رئيستين في الوقت الحالي: الأولى، صناعة الوحدة الوطنية، داخل الأقطار العربية الحالية، وضمان تماسك المجتمعات العربية، بتطابق الهوية العربية مع الهوية الوطنية. الثانية، إعادة الاعتبار للعداء مع إسرائيل، وتوجيه بوصلة الجماهير العربية نحو مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لجمع العرب على اختلافاتهم، وتوجيه جهودهم بشكل يعزز توافقاً أساسياً، يجري تحت سقفه الاختلاف.
الخطاب العروبي حاجة ماسَّة اليوم، ونظرياً لا غنى عنه لرأب الصدع العربي، لكنه بحاجة إلى حامل سياسي، يحوله إلى واقع على الأرض، متلافياً خطايا التجربة القومية السابقة، ومتصالحاً مع طموح شرائح عربية واسعة إلى حالة ديمقراطية، وحريات سياسية، ليقوم بدورٍ مهم في إعادة بناء شرعية الدولة العربية، وبناء مؤسساتها، وتحقيق تكامل عربي، ونهوض اقتصادي وتنموي، وتثبيت نهجٍ تحرري من الهيمنة الغربية، وفي مواجهة الاحتلال الصهيوني. في ظل سيادة المشاريع الطائفية، تظهر أهمية تفعيل الهوية العربية، وتنظيم اختلافاتنا تحت مظلة العروبة، لإنقاذ الوطن العربي، من خرابٍ أكبر وأعظم.