من المؤسف أن يُطوى قرار “محكمة العدل العليا الإسرائيلية” في قضية الأسير الفلسطيني محمد علان، ويُدس بين آلاف قرارتها وينسى، وهذا حتمًا مصيره، بعد حين؛ ومن المؤلم والمحبط أن يعتبر البعض هذا القرار نصرًا أو إنجازًا وهو من هذا وذاك براء.
لن يقرأ الفلسطينيون ما كتبه ثلاثة قضاة، تذكّر سطور قرارهم الخمسون بأحاجي قضاة محاكم التفتيش التي صبغت تاريخ أوروبا بالأسود الحالك، ولن يهتم النحاة والفصحاء والفقهاء “بتحفة” عجز عن ” تكتكتها” و”نمنمتها” حتى صاحب المقامات الحريرية ومن تتلمذوا، في عصرنا، في مدارس بدائع هذا الزمان وخدم السلطان.
والأفظع في المشهد، أن علّانًا لم يسمع قرار الحكم في قضيّة قدّمت باسمه وهو ملقى على عتبات العدم، ولم يقرأ، أصلًا ، ما كتب باسمه محاموه، أو ما قالته عنه البوم سرًّا في المحكمة، ولا ما وشت فيه الثعالب.
في التاسعة صباحًا، يوم الأربعاء، وصلت إلى غرفته في قسم العناية المكثفة في مستشفى “برزلاي” في مدينة عسقلان، وذلك كي أنقل له أن النيابة العامة في إسرائيل، وبعد أن أعياها إصراره على نيل الحرية، ستصرّح، ربما مكرهةً، في جلسة المحكمة العليا المزمع عقدها في ظهيرة اليوم، أنها لن تمدد اعتقاله لفترة ثالثة، بحيث سيكون حرًا، في تشرين الثاني القادم، وبعد عام قضاه في السجن بدون تهمة أو محكمة.
كان ينام على ظهره، فاتحًا عينين تحملقان في غيمة بعيدة، فيهما بريق أبيض، كشعاع بلور أذيب فصار أجمل من نبع دمع، في وسطه زنبقة سوداء صغيرة. رمشاه، لا يقفلان، كأنهما صُبّرا. ناديته، فلم يجب. مسحت جبينه بكفي فلم يلتفت صوبي. اقتربت وأخذت يده بيدي، فكادت تسقط كريشة؛ لم يكن محمّدًا الذي قابلته من قبل، عندما كان يتأبط زجاجة مائه، رفيقته الوحيدة في رحلة الجوع، التي بدأها قبل ستين يومًا، حين حدّثني كيف واعد الحرية أن تصير عروسه، وشاهده كانت إرادة من حرير، والمهر حقول من سواسن ونرجس.
لم يكن ميتًا ولا حيًّا. جسده أمامي مكسو ببرودة، ولا يبدو عليه أثر لبكاء. سكونه أفزعني، كدت أن أبكي لولا عزتي، وقرب ثلّة من حرّاس القهر، الذين كانوا يراقبون كل حركة أقوم فيها. نظرت إلى صدره فوجدته يخفق، فصحت، بما أعانني حلق كاد يتكسر: كيف وماذا حصل لمحمد؟
بدأ الأطباء يتوافدون. أعرف بعضهم من زيارتي السابقة، لكنّ جميعهم لا يعرفون ماذا حصل، فحتى ساعات الصباح الباكر كان محمد ضعيفًا ومنهكًا، لكنه واعٍ تمامًا كما تركته في اليوم السابق. كل الفحوصات المخبرية نفت وجود خلل جسدي، وهذا ما يزيدهم حيرةً ويزيدني قلقًا وخوفًا.
أخبرت المسؤولين في مصلحة السجون بخطورة الوضع، وأعلمت النائبة العامة أن محمدًا لن يستطيع الرد على مقترحها. نقلت للمحامين، أصحاب الالتماسات في العليا، الصورة والخبر، واتفقنا ألا يكون أي حوار ولا مساومة، فالموقف يقضي بالإصرار على وجوب إلغاء أمر الاعتقال، والإفراج عن محمد فورًا.
مضت الساعات مقيتة حزينة. أترك غرفة الأطباء لأجلس بجانب محمد، أمسك يده، أحدّثه عن فلسطين البعيدة الناعسة، عن القدس الجريحة الواثبة، وعن غزة الشريدة التي تحب البحر والسفر. أدخل في أذنه، أستنهضه، أنهره أهزه، أرجوه: لا تدع أعداءك يشمتون. أحسّه يسمعني ويشعر بقهري، أنظر في عينيه الممتلئتين نورًا وأهمس بما يشبه الرجاء: قم يا صاحبي، وهيّا لنفقأ معًا عين الظلم والظلمة، فلقد جئت لأبشرك بفرح عظيم. لا أسمع إلّا صداي وصوت الموج يبكي عسقلان التي كانت. أقترب إلى قلبه وأصرخ: اخفق أيها المعذب، لا تخبُ، لا تكبُ ولا تيأس، فمثلك للحياة ولدوا ولا يليق بهم موت عابر غريب.
المتخصصون أوصوا بإجراء فحوصات للدماغ، لأنهم يشكّون أن ضررًا قد أصاب دماغ محمد. المحكمة تستمع لشهادة طبيب من المستشفى ولشهادة رجالات الأمن العام الإسرائيلي. القضاة يقررون انتظار نتائج فحص “الرنين المغناطيسي” لمحمد. أتواصل مع المحامين الذين يتابعون القضية في المحكمة، وأؤكد على ضرورة إصرارهم بالإفراج عن محمد، لأنه في وضع صحي حرج ولا معنى للقضاء والتقاضي. تتوالى الأخبار علينا من كل حدب وصوب. الكل يدلي بدلوه، من غزة حتى صفد. البعض يصر أن محمدًا رفض مقترح إسرائيل ويمضي في طريقه نحو نصر ماحق ظافر مظفر، وآخرون يقسمون أن محمدًا “مرمغ” أنف الاحتلال بوحل الهزيمة والعار. وكالة أنباء تزف خبر الإفراج عن محمد. وكالة أخرى تؤكد نبأ وفاته. وأنا أجلس بجانب سريره، أتذكّر ما قاله لي بالأمس عن حلمه الذي بحجم قلب عصفور لا يجيد إلّا الحب على جناح الريح والأماني.
تمر الساعات ثقيلة على أرض عسقلان . فلسطين، في ذلك النهار، صارت، كما كانت، مناجم كذب ودجل ورياء، وإسرائيل بقيت، كما صارت، وعودًا على مرق، قلوبًا من صدأ، وعيونًا من خزف.
نتائج الفحوصات وصلت ونقلت للمحكة، لم تحمل لا بشائر ولا رنينًا، بل طنينًا مؤذيًا ومزعجًا. دماغ محمد أصيب نتيجة لنقص بفيتامين أ، وقد يستعيد سلامته وقد لا يستعيد.
الأطباء غادروا المستشفى، وأنا لم أحس أن الليل سكن بجانبنا. ودعت محمد وعاهدته ألا أتركه. كانت يده اليمنى تتحرك بنفس الوتيرة وسبابته ترسم دوائر من فراغ في الهواء، وعيناه مفتوحتان صامدتان كعيني صباح. في طريقي أخبرني المحامون أن القضاة رفعوا الجلسة لإصدار قرارهم. لم أفاجأ، فمنذ سنوات فهمت أن تلك المحكمة تخلّت عن رداء العدل وباتت عاريةً عوراء.
وصلت البيت. بعد ساعتين تلقيت قرار القضاة، الذي أكد على أن أمر الاعتقال الإداري الصادر بحق محمد علان، قانوني ولا غبار عليه، ولا يقررون إلغاءه.
ويضيفون، ولأن محمد مصاب بدماغه ويرقد في حالة عجز كامل، فهو لا يشكل خطرًا في هذه الأثناء، على سلامة الجمهور، وعليه يقررون “تعليق” أمر الاعتقال بحقه، على أن يبقى حرًا، ولكن نزيلًا في مستشفى برزيلاي، لا يستطيع مغادرته إلا بإذن وموافقة من سلطات الاحتلال، ومن يدري فهو إذا استعاد صحته، سيستعيد خطورته وسيشكل، بطبيعة الحال، خطرًا على سلامة الناس، فعندها لأجهزة الأمن الإسرائيلية حق، أوتوماتيكيًا، بإحياء الأمر المعلق على رقبته وإبقائه سجينًا.
بقيت في بيتي، أقرأ عن تاريخ محاكم التفتيش وعن قرار محكمة قضت بإلقاء متهم بالشعوذة في النهر، فإذا غرق المتهم، هكذا قرر القضاة، يعني أنه بريء وسيصل مباشرة إلى الجنة، أما إذا طفا ونجا فيعني ذلك أنه مذنب ويستحق الإعدام .
بعد ساعات أتصّل صديق ونبهني أن العرب في مواقعنا نصبوا حلقات الرقص وأشعلوا بيارق الفرح، وأطلقوا أعنة الزغاريد والحماسة. فهم لم يقرأوا القرار ولن يقرأوه، ولأنهم مقتنعون أننا انتصرنا، فمنذ متى تنهزم العرب وتندحر؟
حزنت ومضيت في قراءتي عن محاكم العدل في التاريخ. وأنتظر الغد الذي في عسقلان.