في مثل هذه الأوقات العصيبة أبحث دوما عن الجزر الصغيرة من التعقّل. حيث لا تترك موجة العنصرية التي تجتاح إسرائيل والعلاقات الأكثر حدّة من أيّ وقت مضى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، القتل المستمر في الشوارع والاعتداءات المتبادلة، أملا في الحياة المشتركة تقريباً.
ومع ذلك في كل مرة أتنازل فيها تنبثق لي ومضة مبتكرة ووردية تقوّيني وتمنح الواقع الأسود والدموي بصيصًا من الأمل. وهذه المرة يأتي هذا الأمل من مجال الأزياء.
سواء كان ذلك اختياراً واعياً يسعى إلى توفير مهرب من الواقع، أو تجنّبا متعمّدا للخطاب السياسي من أجل عدم الإضرار بالمبيعات – فالأزياء الإسرائيلية أو الفلسطينية تميل غالباً إلى فصل نفسها عن الآراء السياسية، والتجاهل شبه التامّ لحقيقة أنّه يعيش هنا شعبان يمكن أن يتعلّما من بعضهما البعض الجماليات وأن يطوّرا علاقات حسن الجوار.
يُنظر إلى المحاولات القليلة لإثارة حوار من هذا النوع في صناعة الأزياء كمحاولة لإثارة الاستفزاز، وهناك القليل من المصمّمين الذين نجحوا في إنشاء أزياء فيها شيء خاص، شيء محتضن، شيء مشترك بين أيدي العاملات الإسرائيليات والفلسطينيات، والتي تتعلق بالتقاليد الفلسطينية منذ سنوات طويلة وتمنحها بريقا وتوهّجا حديثاً.
ستأتي البشرى المفاجئة من دار أزياء صغيرة، إسرائيلية – فلسطينية، مع رؤية كبيرة للتعاون، التبادل وخلق جيرة حقيقية وجيدة.
إن “Two neighbors” (جارتان- صفحة الفيس بوك)، هي دار أزياء اجتماعية وضعت لها هدفاً بإنشاء حوار بين النساء الفلسطينيات والإسرائيليات من خلال الإنتاج الذي يتم بتعاون فريد من نوعه. يتألف الفريق كله من النساء، حيث يأتي معظمهنّ من الطبقات الفقيرة، ويمنحهنّ العمل في الشركة استقلاليّة اقتصادية.
يقوم هذا المشروع الاجتماعي الفريد هنا على خطّ التماس بين القدس الغربية وحدود مدينة بيت لحم الفلسطينية، وتحديدا الآن في ذروة موجة العُنف المقلقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تجتمع النساء مرتين في الشهر، إسرائيليات وفلسطينيات، في بيت جالا، على سفح الجبل الأخضر الذي يطلّ من أحد جانبيه على مدينة بيت لحم الفلسطينية ومن الجهة الأخرى على مستوطنة هار جيلو، ويقرّرن سويا كيف ستبدو مجموعة أزيائهن المقبلة.
“بدأ كل شيء عندما زار الزوجان ويت وباولا جونس – أمريكيان من ولاية أيداهو – إسرائيل وأعجبا بتقاليد كلا الشعبين المتصارعين. قرّرا أن يستثمرا من ثورتهما من أجل إنتاج منتجات من خلال التعاون الإسرائيلي – الفلسطيني، وأن يظهرا للعالم أنّ حواراً كهذا ليس ممكنا فقط، بل يمكنه أن يكون جماليّا”، كما تقول لي سيجال كيرش، المديرة الإسرائيلية للمشروع. كان التفكير الأولي هو إيجاد طريق يمكن من خلالها مزج التقاليد الفلسطينية في تطريز الملابس مع الملابس المعاصرة وتسويق المنتجات إلى العالم. لأجل ذلك قدِم الزوجان إلى إسرائيل من جديد، وتواصلا مع المصمّمة الإسرائيلية مريم جفعون – خريجة قسم التصوير في المعهد العالي للفنّ، بتسلئيل، في القدس، والمساعدة السابقة لإحدى أكبر مصمّمات الأزياء في إسرائيل، دورين فرانكفورت.
“كان السؤال هو كيف يمكننا أن نجلب عالم التطريز، وهو تقليد فلسطيني قديم ينتقل من الأم لابنتها، وأن نمزجه بصناعة الأزياء المعاصرة. في البداية كان من الصعب جدا إقناع النساء الفلسطينيات من قرية التواني (وهي قرية صغيرة تقع جنوب جبل الخليل) بمزج التطريز والألوان الفلسطينية الأصيلة بملابس أكثر رقّة وحداثة، ولكن رويداً رويداً نجحنا في تشكيل مجموعة أولى مزجت بسحر بين فنّ التطريز الفلسطيني والموضة الحديثة”، كما تقول مريم وهي تختار الخيطان الجديدة التي سيتم مزجها في الملابس الجديدة التي تصمّمها من أجل المجموعة القادمة.
إنّ لغة هذه العلامة التجارية هي غنيّة في الواقع، وليس بسبب حقيقة أن النقاشات حول الطاولة، المزدحمة بالخيطان والأقمشة، تجري باللغات الثلاث: العبرية، العربية والإنجليزية فقط. إن العمل اللوجستي معقّد بشكل مثير للدهشة: تصل جفعون المصمّمة وسيجال كيرش، المديرة اللوجستية من الجانب الإسرائيلي، من تل أبيب مرتين في الشهر للقاء فريق العمل في بيت جالا. وتأتي ريحان هريني، مصمّمة التطريز، وكفاح العدرة، المسؤولة عن النساء من الجانب الفلسطيني، من قرية التواني.
“إن حياة هؤلاء النسوة ليست سهلة إطلاقا”، كما تقول لي بحرارة المديرة الفلسطينية للمشروع، السيدة أديم عمرو. “انضممت لإدارة هذا المشروع منذ وقت قريب. أشرفت على المطرّزات الفلسطينيات في القرية. فهنّ يعشنَ هناك بظروف قاسية، داخل مغاور وأكواخ. لم يكن للنساء هناك أي احتمال إطلاقاً للدخول إلى دائرة العمل وإعالة بيوتهنّ وأن يحظين بالاحترام من العائلة والمجتمع الذي حولهنّ. يمنح هذا المشروع تلك النساء أملاً ويلتقين من خلاله مع إسرائيليين، أي كسر مزدوج للمتفق عليه”، تضيف عمرو بحماسة.
“منذ وقت قريب كان لدينا امرأة من الخليل أرادت طوال حياتها أن تتعلّم التصوير. وبالطبع فلم تذهب للدراسة لأنّه لم تكن لديها إمكانية للدفع مقابل الدراسة. عندما انضمّت للمطرّزات بدأت بالحصول على الراتب مقابل عملها الذي قامت به، وهكذا فقد بدأت بالدراسة وهي تتعلم في هذه الأيام التصوير في إحدى كليات الخليل”، كما تقول كيرش.
إن “Two Neighbors” مسجّلة كشركة اجتماعية، حيث إن هدفها هو تقسيم الأرباح على الموظفين. يتألف الفريق كله من النساء، حيث يأتي معظمهنّ من الطبقات الفقيرة، ويمنحهنّ العمل في الشركة استقلاليّة اقتصادية. فيما عدا المبنى الاجتماعي للشركة، يحرص المشروع على أجور عادلة مقابل عمل فريق المطرّزات والخيّاطات من كلا الجانبين، سواء كنّ إسرائيليات أو فلسطينيات، وهن يحصلن على الأجر مقابل كل منتج يعملن عليه.
في الوقت الذي تقنع فيه مريم بأنّ الخيط الجديد الذي اشترته سيلائم المجموعة القادمة، تخبرني كفاح كيف انضمت إلى هذا المشروع: “جئت من قرية صغيرة وبسيطة جداً. حتى عام 2000 لم تكن لدينا مياه جارية ولم تكن لدينا كهرباء أيضًا. لم يكن للنساء في القرية مصدر دخل. وليس ذلك فحسب، فقد عانينا من اعتداءات المستوطنين الذين يحيطون بقريتنا وأعاق جدار الفصل حركتنا إلى حدّ كبير. في نظر الكثير من الفلسطينيين فهناك في القرية رمز واحد ومحدّد للإسرائيلي العادي. لقد قدّم هذا المشروع الكثير للنساء. في البداية انضم عدد قليل من النساء إلى المشروع. لقد أردنا التعرف على الجانب الآخر وعلى طريق لكسب الرزق بكرامة. رويداً رويداً انضمّ العديد من النساء ونحن اليوم نبلغ نحو عشرين مطرّزة. وفي الطريق فإنّنا نمرّر أيضًا رسالة إلى العالم، فنحن نتحدث عن الصعوبات ولكنّنا مشبعات بالأمل أيضًا، بأنّ هناك مكان للحياة المشتركة بي الشعبين”.
“أتلقى دائما ملاحظات من الأصدقاء وأفراد العائلة بأنّ ما أقوم به هو تطبيع. وأنا أسأل نفسي أليس ما يقوم به العمال الفلسطينيون الذين يبنون في المستوطنات تطبيعًا؟ لقد شارك العديد من الفلسطينيين في بناء جدار الفصل. لا يمكن الاستمرار في تجاهل الواقع، الحياة أقوى. نحن جئنا من موقع التعاون الاقتصادي الاجتماعي وليس الإكراه”، كما تؤكد عمرو.
بالنسبة للنساء من كلا الجانبين، فقد فتح العمل المشترك قناة تواصل وفهماً جديداً للطرف الآخر. “لقد دُهشتُ دون علاقة بالمواقف السياسية، ببساطة عندما اكتشفتُ إلى أي حدّ أنا لا أعلم عن النساء اللواتي هنّ في الواقع جاراتي، وعن واقع حياتهن. فجأة نكتشف مدى الانقطاع التام بيننا”، كما تقول جفعون، وتلخّص كفاح: “نحن نأمل أن يكون هذا المشروع نموذجا للناس من كلا الجانبين وأن يشجّعهم على العمل سوية. المرحلة الأولى في الطريق إلى المصالحة هي الأبسط – أن نتعرف على بعضنا البعض ونعترف ببعضنا البعض”.
بلطف عن موقع “المصدر” الاسرائيلي