أصدر مؤخراً الشاعر الدكتور عناد جابر مجموعته الشعرية الرابعة تحت عنوان ” على بساط الروح ” حيث أهداني مشكوراً نسخة منها , وقد ارتأيت بعد أن قرأت قصائد هذه المجموعة أن أقدم تعليقاً نقدياً عليها وأبدي رأياً أدبياً فيها , كون شاعرنا يستحق التقدير والإطراء على إبداعه الشعري الراقي المتميز دائماً.
يبدو من قصائد هذا الديوان أن الشاعر يحمل الإنفعال للقصيدة في داخله لسنوات , وأن الشعر الذي يكتبه هنا قطعة من الذات , فهو مولع بفنّهِ , وإنجازه يتحدث عنه وكأنه يتحدث عن نفسه ِ رابطاً مفهوم الشعر بالإنسان , مستجيباً لروح عصرهِ , واعياً لمفهوم الشعر في القرن الماضي وبدايات هذا القرن الحالي , فهو ينتقل من الكلاسيكية الى الرومانسية ثم الواقعية , وصولاً الى تجربة الشعر الحرّ , ومع هذا كله , فإنه يبقى محافظاً على مضامين إنسانية ذاتية واجتماعية شاملة تكشف وتعرّي حقائق رؤيوية في هذا المجتمع خاصةً والكون عامةً .
إنَّ المتأمّل لشعر الدكتور عناد جابر في هذا الديوان , من ناحية تكوين الحدث القيمي للخطاب الشعري يأتي , عبر تمثيل , دقيق , لتجربة الضمير .. والأمانة .. والمتمثلة بصيغة الكتاب الشعري , فشاعرنا يلجأ في قصيدة ” الأفاعي ” ( ص 17 ) الى أسلوب الشعرية الكنائية
(allegorical poetry ) مظهراً مثالب هذا المجتمع وشخوص بعضها من حيث السمات والصفات السلبية المتمثلة بغياب الأخلاقيات وطغيان الأحقاد حيث نختار من هذه القصيدة الأبيات التالية التي تجسد هذه المعاني :
تلك الأفاعي حرّكَتها طغمةٌ
لا خير عند دُعاتها وأميرها
باتت يسيّرها دخيلٌ طامعٌ
يقتادُ ركب نعاجها وحميرها
كم من فتاوى أفرزت حيّاتها
مجبولةٌ بالسّم في تكفيرها
واستحدَثَت بِدَعاً يضيقُ خيالها
بغريبها وعجيبها وخطيرها
فمرامها زرع العداوة بيننا
كي يسعد الأغراب في تسخيرها
هي فتنةٌ رعناء ُ جُنَّ جنونها
واللؤم ينخرُ في صميم مُثيرها
ويتألّم شاعرنا في قصيدة ” ذاكرة الجنين ” ( ص 19 ) بكثير من المرارة من جحود الإنسان ونكران الجميل حيث يقول هناك :
ومنتظرُ امتنانٍ من جحودٍ
كمنتظر ٍ نوالاً من ضنينِ
فلا تأملْ إذا أحسنتَ صُنعاً
بأن تُزجى بخيرٍ من مدينِ
ولكن الشاعر يتمسّك في نهاية هذه القصيدة بمبدأ الإحسان وصنع الخير الإنساني دون أن يشعر بالندم على ذلك رغم هذا الجحود وتجاهل الجميل , فيقول في ذلك :
فلا تندمْ على عملٍ جليلٍ
ونهجٍ في اعتقادكَ مثلَ دينِ
وكن كالوردِ لا يرجو ثناءً
إذا ما جادَ بالعطر الدفينِ
وهذا كله يعكس النزعة الإنسانية التي يمتاز ويتمتع بها شاعرنا رغم ما يعتريه وينتابه من الألم والإحباط وخيبة الأمل من سلوكيات الكثيرين من البشر في هذا المجتمع . ونلمس هنا كقرّاء ومتلقين ومتذوقين لهذا الشعر أنّ شاعرنا يتحكم من خلال إحساسهِ بتشكيل العبارة , وتفصيل العلامات في المعنى في النص الشعري , فالمعاني متكاملة في كيان القصيدة , وموسيقى الصياغة الفنية عنده هي عبارة عن تأملات في الوعي الذاتي الإجتماعي .. ووحدة في الصياغة . والنظم من أجل تمتين المعنى , ومهارة في متانة اللغة , المفعمة بالمنطق الحسّي في مجازية تحقق مهمة المعنى والإكتمال في تصور الفكرة والمضمون المطروقين .
ومن أبرز الخصائص الفنية في الخطاب الشعري عند عناد جابر هو استقلالية في الرؤية المتزايدة عبر استخدامه للأسلوب الساخر الباعث على الضحك بابتئاس أحياناً وذلك بانتقاده من خلال هذا الأسلوب للأوضاع المزرية السائدة إجتماعياً وفكرياً وإنسانياً , فها نحن نسمعهُ في قصيدة ” دق على الخشب ” يصوّر هذه المعاني وهو يقول :
لا تبتئس يا صاحبي !
ربيعنا بدرُ التمام ْ
فإننا نعيشُ في التحام
مرصوصةٌ صفوفنا
مرصوفة دروبنا
بالحب والوئام
تسامح وإلفةٌ
كرامةُ وعفّةٌ
أدياننا مُوحّدَة ْ
أعيادنا مُوحّدَة ْ
أجادُنا مُجدّدة ْ
كم صرتُ أخشى
يا أخي !
من شرّ عينٍ حاسدَة ْ
بالله ِ دُقَّ على الخشب ْ !
واشرب معي نخبَ العرب ْ
وافرح معي
لأننا بألف ِ خير ٍ
ألفِ خير ْ
يتجلّى في هذه الأبيات منطق الصياغة في النظم الجمالي والإستدلال على عمق لدلالات الألفاظ ومواقعها الدقيقة وفقاً للمعاني الساخرة حيث يشتبك كل ذلك في الرؤية الإيقاعية وتلافيف المنطق الشعري عند عناد جابر .
وإذا انتقلنا الى ملامح شعرية أخرى لدى شاعرنا من حيث الطبيعة العاطفية في بعض القصائد فإننا نصل عند موضعٍ ما في الديوان الى قصيدة غزلية عاطفية رقيقة شفّافة بألفاظها ومعانيها وصورها الفنية الواضحة الساحرة بجمالياتها وإيحاءاتها وتداعياتها مما يدخل النشوة في صدر القارئ مرهف الحس والمتماثل مع كلماتها حيث نجد كل ذلك في قصيدة ” تكبّري ” ( ص 58):
آياتُ حسنكِ بالعيون ِ تُرتّلُ
فتكبّري ما شئتِ أنت الأجملُ
واستهدِ في مُهَج القلوب ِ بنظرةٍ
في سحرها ما يستبيحُ ويقتل ُ
قُبح الردى أيّا تكونُ أداتهُ
لكنهُ بسهامِ لحظكِ يجمُلُ
يا لمسة السحار بلّلها الندى
يهفو اليها نرجسٌ وقرنفلُ
وهنا تتجلّى لدى شاعرنا الأناقة الكلاسيكية في الغزل والتعبير العاطفي التصويري حيث تعكس هذه الكلمات نبضات وجدان الشاعر على تقاسيم خواطرهِ ومواقع حسّهِ , وبالتالي تجري الألفاظ سهلة , منسابة , متدفّقة بعيدة عن التحذلق والتكلّف والتصنّع . فأسلوب شاعرنا في الغزل هنا يتّسم بالرّقة والعذوبة والسلاسة البعيدة عن التعقيد والجهد , ففي قصيدة ” عروس رؤاي “( ص 56 ) يتغنّى شاعرنا قائلاً بكل رصانة عاطفي:
تعالي اليّ عروس رؤاي َ
وضُمّي حبيباً لقلبكِ جاء
تعالي نعانقْ طيوف الأماني
فتنسابَ فينا سيول انتشاء
كفانا اغتراباً بعتم ِ المنافي
وموتاً بطيئاً بسُمِّ الجفاء
بعُدنا وعشنا جنون التنائي
فهل سنعيشُ جنون اللقاء ؟
وهذه الأبيات خير شاهدٍ على نصاعة وإشراق أسلوب شاعرنا , فهو أسلوب الموسيقى اللفظية ذات الجرس الموسيقي الليّن الزاخر بالتصوير الواضح دون مواربة أو تعقيد .
ولا يفوت شاعرنا أن يُضمِّن مجموعته الشعرية هذه جانباً من الشعر الحكمي في قصيدة ” هوّن عليك ” ( ص 31 ) حيث جاء هناك :
والدهرُ خوّانٌ وذو نُوَب ٍ
إن لم يخُنكَ اليوم خان َ غدا
فاصبر على محنٍ هوتْ زُمَراً
غير اصطِباركَ هل ترى سندا ؟
كُن أنت لكن لا تُضع أملاً
يقتادُ فيكَ الروح والجسدا
واجعلْ ضميركَ مُلهماً يقظاً
فتنامَ لا قلقاً ولا سُهُدا
إن هذه المعاني الواردة في هذه الأبيات تؤطّر لحياةٍ اجتماعية بشرية في نظر الشاعر فهي حياة الواقع الإنساني التي يجب على الإنسان أن يلبسها , كما قدّمها لنا في إرشاداتهِ ونصائحه ِ مستنيراً بخبرتهِ وتجربته الإنسانية والمجتمعية .
وقبل ختام هذه الدراسة الموجزة , يتعيّن علينا أن نشير الى أن ديوان الشاعر الدكتور عناد جابر قد اشتمل أيضاً على بعض قصائد الرثاء لشخصيات عزيزة عليه تندرج ضمن شعر المناسبات, حيث أجاد وبرع في نظمها والتعبير عن مشاعره الصادقة تجاه أولئك الراحلين
وهكذا , فإننا نكون قد تناولنا بالتعقيب والتحليل بعض النموذجات من قصائد الديوان التي تلقي الضوء على الأفكار والمواضيع التي أراد شاعرنا التطرّق اليها عموماً من الناحيتين الذاتية والغيرية , فكان الشاعر مُجيداً كعادته ِ في طرح فكره وذوقه الفني , فتميزت قصائده بالرصانة الأدبية من جهة , وبالعذوبة اللغوية والموسيقية من الجهة الأخرى , فبذلك يكون قد اجتمع لديه مقوّما الإجادة شكلاً ومضموناً , فلهُ منا أجمل التهاني بصدور كتابه الجديد هذا , مع أطيب التمنيات له بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.