احتفتْ “دارةُ الثّقافةِ والفنون”- “بيت الكاتب” في النّاصرة بتوقيعِ رواية (على شواطئِ التّرحال)، للكاتبةِ د. راوية جرجورة بربارة، وذلك بتاريخ 28-5-2015، وبمُشاركةِ نُخبةٍ مِنَ الأدباءِ والذّوّاقينَ والأصدقاء، وقد افتتحت الأمسيةَ الباحثةُ الفولكلوريّةُ نائلة لبّس بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضورِ، وتولّى إدارةَ الأمسيةِ د. ريم برانسي، وتحدّثَ حولَ الرّوايةِ كلٌّ مِن د. محمد هيبي، ود. باسيليوس بواردي، وقد شاركَ الزجّالُ محمّد علي صالح بزجليّة تحتفي بالكاتبةِ راوية جرجورة بربارة، وكانت عدّةُ مُداخلاتٍ مِنَ الحضورِ، اختتمتْها الكاتبةُ د. راوية بربارة بكلمةِ شكرٍ للمُتحدّثينَ وللمُنظّمينَ وللحضورِ، ومِن ثمّ تمّ التقاطُ الصّورِ التّذكاريّة!
جاءَ في كلمةِ د. ريم برانسي: للموجِ هوَجٌ حَدُّهُ المَدى، ولنا معَ الموْجِ حَكايا حُبٍّ وتَرحالٍ. للرّحيلِ دمْعٌ يَهُزُّ الصّدى، ولنا في الدّمعِ أمَلٌ بخيطِ اتّصالٍ، وعندَ شواطئِ التّرحالِ لنا شوقٌ لِدفقِ السّيولِ، ولفرحِ الأنهُرِ الأبديِّ بالوُصول، وقد وصلتِ أديبتَنا شواطئَ ذائقتِنا، فداعبَتِ حِسَّنا، وسيَّرَتِ فِكرَنا على شواطئِ تِرحالِكِ، ولمَعَ الذّهبُ في رِمالِكِ!
مساؤُكُم خيِّرٌ دافِقٌ احتفالًا واحتفاءً.. مساؤُكُم شاطئٌ يَستقبلُ موجاتِ الأدبِ وهي تندفع تِباعًا دونَ انتهاءٍ.. مساؤُكم تحتَ سماءِ النّاصرةِ تُشِعُّ نُجومَ الفنِّ فيهِ والإبداع.. مساؤُكم فرحٌ وحُبٌّ ولقاءٌ.. أديبتَنا؛ عروسَ الحفلِ؛ مُفتّشةَ اللّغة العربيّة د. راوية المحترمة.. الحضورُ الكِرامُ معَ حِفظِ الألقاب..
في البدءِ كانَ الكلمة، والكلمةُ صارَ جسدًا، ثمّ كانتِ الحياةُ، والحياةُ كانتْ نورَ النّاسِ الّذي يُضيءُ في الظّلمةِ فلا تُدركُهُ. لتلكَ الكلمةِ قوّةٌ لا تُقهَرُ، ولها في الآذانِ وقعٌ يَتغلغلُ إلى ثنايا القلبِ، فيَهُزُّهُ كما تَهُزُّ الأمواجُ صمتَ الشّاطئِ وصمتَ القلوبِ. هي الكلمةُ الّتي صنعتْها أديبتُنا صورةً تُجسِّدُ العالمَ في أذهانِنا، وقد أضحَتْ عيونُنا مِرقابًا، صاغتْها راويةُ روايةً بِكرًا، وجعلتْها شاهدًا وبُرهانًا على أنّ الإبداعَ هو ما يُميّزُ قياديًّا قائدًا عن تابعٍ، وهو النّظرُ إلى المألوفِ بطريقةٍ غيرِ مألوفةٍ، وهو القُدرةُ على ربْطِ الأمورِ بطريقةٍ استثنائيّةٍ. أمّا المُبدعُ الحقيقيُّ فهو مَن يَجعلُ مِن شرخِ المأساةِ الصّغيرِ مُنطلقًا للحياةِ، ومِن ظلامِ الحياةِ نقطةً للبداية. هذه الرّوايةُ، قصّةُ حُبٍّ قاهرةٍ بينَ أنثى يهوديّةٍ وذكَرٍ عربيٍّ، وما هيَ إلّا حياةً وواقعًا نحياهُ؛ ولكنّ أديبتَنا تقتطعُ مِن هذا الواقعِ صورةً مُؤلمةً، فتُحييها فنًّا ثلاثيَّ الأبعادِ، تُظهِرَ فيهِ الآخرَ (اليهوديَّ) والأنا (العربيَّ)، والمجتمعَ بما يَحويهِ مِن فئاتٍ أخرى. كلُّ ذلكَ يُعرَضُ بحِسٍّ مُرهَفٍ، وإيمانٍ صادقٍ بكيانِ الإنسانِ وكيْنونتِهِ. وأيُّ حكمةٍ وإحكامٍ تأتي بهِما الأديبةُ إذ تختارُ، وهيَ امرأةٌ عربيّةٌ، أنْ تكونَ المَرأةُ العاشقةُ المُتألّمةُ في الرّوايةِ يَهوديّةً، فتَعرضُ مِن خِلالِها الآخرَ كإنسانٍ يُحِبُّ ويتألّمُ، ويُضَحّي ويتَفهّمُ ويُقدِّمُ التّنازلاتِ مُقابلَ ذرَّةِ الحُبِّ. ولا تنسى بالمُقابلِ، أنْ تُنصِفَ الذَّكَرَ العربيَّ الّذي يَبدو لوهلةٍ ظالِمًا أنانيًّا؛ إذ تُفسِحُ لهُ المَجالَ في النّهايةِ أنْ يَقولَ قوْلَهُ، كما تَصِفُهُ بأنّهُ العربيُّ المُتحمِّسُ للسّلامِ، هو العربيُّ الّذي كانَ يَعتقدُ أنّ اللهَ خلقَ الإنسانَ في أجمَلِ تقويمٍ، أي في إنسانيّتِهِ، بعيدًا عن وحشيّةِ الحيوانِ والتّفريقِ العُنصريِّ والطّائفيّ، هو العربيُّ الّذي عشقَتْهُ اليهوديّةُ سارة وخاطبَتْهُ بقوْلِها: “ما أجملَكَ وأنتَ تُحبُّ التّعدّديّةَ، وتَعتبرُها جَمالًا وجوهرة”. وعليهِ، فإنّ ما تَطرحُهُ الأديبةُ مِن سردٍ لأفعالِ إبراهيم المُتتابعةِ ضدَّ سارة، وظلمه لها لا يعرض عربيًّا شرقيًّا بدائيًّا مُتسلّطًا وقاسيًا، إنّما هوَ عربيٌّ مُحبٌّ مُؤمنٌ بالإنسانِ مُحترِمٌ للتعدّديّة، مُرتبطٌ بوطنٍ وشعبٍ وفِكرٍ ونبضٍ، لم يَتوانَ حتّى النّفَسِ الأخيرِ عن حُبِّهِ لسارة؛ على أنّ هذا الحُبَّ ما كانَ لِيُكتَبَ لهُ الإثمارُ في أرضٍ قاحلةٍ، وفي عالمٍ فيه كلُّ قيودِ العِرْقِ والدّينِ والانتماءِ وغيرِها مِن عقباتٍ وعتباتٍ تَخنقُ الإنسانَ.
مِن رَحمِ هذهِ الصّورةِ ثُلاثيّةِ الأبعادِ نَبضُ الرّوايةِ.. فمُبارَكٌ لنا هذهِ النّظرةُ الشّموليّةُ الإنسانيّةُ الّتي ترقى بالأمكنةِ والشّخوصِ والأحداثِ، إلى خلودٍ يَتجاوزُ كلَّ الحُدودِ! حقًّا، هي روايتُكِ الّتي تَقلبُ كلَّ المَفاهيمِ، فلا يَعودُ النّصُّ الخالدُ هو ذاكَ المُبتعدُ عن أيِّ تحديدٍ أو تَقيُّدٍ بزمانٍ أو مَكانٍ؛ إنّما يَغدو أدبًا لا يَخافُ ذِكْرَ المَكانِ، بل يُجاهرُ بهِ فيَهبُهُ الخلودَ. مِن هذا المَكانِ المُمتدِّ مِن تل أبيب إلى قرى الجليل كانَ إلهامُكِ الأوّلِ، لتَجمَحي فيهِ على خاصرةِ فرَسِ الإبداعِ على حدِّ تعبيرِكِ، فتُطوّرينَ الحدَثَ والشّخصيّاتِ على وقعِ مهمازِ انطلاقِكِ، وترسمين خطًّا آخرَ لسَيرورةِ الحدَثِ، ربّما يتحوّلُ واقعًا في النّهايةِ، تحقيقًا لنبوءتِكِ، وتجسيدًا لإيمانِكِ الحقيقيِّ بإنسانيّةِ الإنسانِ.
وإن كان ما يميّز المبدع الحقّ كما قلت، هو إحساسه المرهف بما يدور حوله، والتقاط عينِه لأصغر الأمور التي لا تلتقطُها شبكيّة الناس كمشاهدَ للكتابة؛ فإنّك بنصّك هذا كنت ذاك المبدع الذي يأبى لمولوده إلّا الخلود؛ فجعلته متحايلًا على النوع الأدبيّ ملتفًّا إليه ضمن ما يُعرف بالميتا قصّ؛ مراوغًا متجاوزًا لكلّ المسلّمات والنظريّات، مؤكّدًا على حرّيّة النصّ أن يقول ما يشاء كيفما يشاء. نقرؤه نثرًا روائيًّا فنستمتع في عمق بالشعر وما يقوم عليه من جماليّة وغموض وتناقض وتواق. هو نصٌّ يُحضر إلى أذهاننا أجمل التعابير والصور الشعرية، فها هي سارة؛ في ظلّ قناعتها التامّة بضرورة الفراق تلغي التقاطبَ بين البعد والقرب والحبّ والكراهيّة؛ إذ تترك الأبواب مشرّعة وتديم الانتظار، فتذكّرني بمقطع شعريّ من قصيدة العاشقة لعبد الوهاب البياتيّ يقول فيه: كانت تفصلها عني/ سنواتٌ من سفرٍ- أجيالٌ/ أنهارٌ- قارّاتٌ/ كتبٌ / مدنٌ/ أسوار/ لكنّي كنت أراقبها من ثقب الباب.[1]
هكذا هي الحالُ عندَ سارة، بعدَ الانفصالِ والتّأكيدِ على انغلاقِ كلِّ المَخارج، تُنهي روايتَها بتصريحٍ جنونيٍّ، إذ تُعيدُ رغمَ الألمِ قلبَ ساعةِ الانتظارِ على أملٍ وتقولُ: أكرهُ حُبَّكَ وأكرهُ الخلاصَ منك/ هل سأقلبُ اليومَ ساعةً رمليّةً ثانيةً وأبقى في الانتظار؟/ قلبتُها/ عساكَ تقرّرُ قبلَ أن يَنهمرَ رملُ النّدمِ ويَنفطرَ قلبي!
ولا شكَّ أنّ ما تقومُ عليهِ الرّوايةُ مِن تناقضاتٍ ومُفارقاتٍ وتَعابيرَ أوكسيمورونيّةٍ تستوقفُ القارئَ، وتُلهبُ في ذهنِهِ جمراتٍ فكريّةً وتساؤلاتٍ، ولعلَّ العنوانَ “على شواطئِ التّرحالِ” فيهِ مِن تلكَ التّناقضاتِ ما يُجمِّلُ عالمَ الرّوايةِ بأكمَلِهِ؛ هذهِ الشّواطئُ الّتي يَجدرُ بها أن تَشتعلَ بحرارةِ الحياةِ والحُبِّ والحركيّةِ ومُداعبةِ النّاسِ للأمواجِ، تختفي منها كلُّ هذهِ المَلامحِ، ولا يَبقى فيها إلّا آثارُ أقدامِ مَن رَحلوا وخيالاتُ وجوهِهم فوقَ صفحةِ المياهِ. هكذا، تتحوّلُ الشّواطئُ إلى ميناءٍ مُختصٍّ بالرّحيلِ، يُودّعُ السُّفنَ المُغادرةَ دونَ عودةٍ، وعندَ هذهِ الشّواطئِ تتلخّصُ كلُّ المُتناقضاتِ، وكأنّ كلَّ موجةٍ تحملُ طرفًا مِن أطرافِ تناقضاتِنا الّتي تَحلمُ بالتّواصُلِ والالتئامِ، فيأبى الواقعُ إلّا الانشطارَ والتّباعُدَ؛ فاليهوديّةُ والعروبةُ، المبادئُ الذّاتيّةُ والمُجتمعُ، القلبُ والعقلُ، الأنوثةُ والرّجولةُ، الأنا والآخرُ، جغرافيّةُ الوطنِ وجغرافيّةُ السّعادةِ، الانتهاءُ والابتداءُ والرّحيلُ والبقاءُ، كلُّها تناقضاتٌ تسعى للتّماهي والانسجامِ في تقويمٍ أعمقَ هو الإنسانيّةُ والحُبُّ والسّعادة. وإن كانتْ هذهِ الأطرافُ تَعرضُ واقعًا أليمًا مُؤلِمًا، إلّا أنّ أديبتَنا لا تخضعُ لها، بل تُخضعُها بربطٍ استثنائيٍّ فيهِ مِنَ الهدوءِ ما فيهِ مِنْ تثويرٍ، ومِنَ الرّضى ما فيهِ مِنَ استغرابٍ؛ فتقولُ سارة: “وُلدَتْ لتُريَنا كيفَ تُولدُ/ الحياةُ مِن قلبِ الموْت، وكيفَ يُولدُ السّلامُ مِن قلبِ الحربِ، وكيفَ/ يُولدُ الفرحُ مِن قلبِ الأحزان!“
عندَ هذهِ الولادةِ، وفي مَواضعَ أخرى مِن الرّوايةِ، نقرأ أنّ الحربَ “انبعاثُ القتلِ والحياةِ، موتٌ وولادةٌ، انقطاعٌ واتّصالٌ، عدوٌّ وحبيبٌ، قاتلٌ وقتيلٌ، نصرٌ وهزيمةٌ، فلا عجبَ أنّ حُروفَها تحملُ الحبَّ دونَ راء، دونَ رياء
وتقولُ سارة: هذهِ الحربُ الّتي شتّتتِ البشرَ كانت سببَ اجتماعِنا! هذه الحربُ الّتي قتلتِ النّاسَ أحيتْنا مِن جديد! أأقول شكرًا للدّمارِ الّذي رمّمَ حياتي، أم للرُّعبِ الّذي قرَّبَ القلوبَ والمسافاتِ، أم للموتِ الّذي يُعلّمُ الإنسانَ معنى الحياة، أم للفُراقِ الّذي يُعرّفُكَ بقيمةِ الأحبّةِ والأهل!
في هذهِ الأجواءِ وفي ظِلِّ الانكساراتِ وواقعِ المُعاناةِ والحربِ، يَعلو جوهرُ الإنسانِ وإنسانيُّتُهُ على كلِّ لباسٍ اجتماعيٍّ سياسيٍّ أو دينيّ، كما تتلاقى الأطرافُ جميعًا رغمَ تقاطُبِها وتَتحابُّ، فمُباركٌ للتّناقضاتِ هذهِ المُصالحة، وهذا التكامل النّابض أملًا رغمَ الألم.
أديبتَنا راوية.. كنتِ في هذا الإنجازِ مُبدِعةً حقيقيّةً؛ نقرؤُكِ فنسمعُ صدى الكلماتِ يرتدُّ نغمًا فلحنًا فأغنيةً، نقرؤُكِ فنُؤْسَرُ شغفًا، وننسى معَ غذاءِ الرّوحِ الّذي قدَّمْتِهِ لنا حاجةَ أجسادِنا لطعامٍ أو شراب، فمُباركٌ لكِ،
تجاوزتِ دائرةَ الأدبِ النِّسويِّ، ورقيتِ بإنجازِكِ تَعرضينَهُ واقعًا إنسانيًّا ووجدانيًّا، فمُباركٌ لكِ ولنا هذا الإبداعُ الّذي أتى ليُؤكّدَ على شفافيّةِ المَرأةِ سطوعَ أدبِها، ورقيَّ مشاعرِها، مُباركٌ هذا الأسلوبُ الجذّابُ والرّائعُ في العرضِ، وهذه اللّغةُ الشّعريّةُ الّتي تضربُ صميمَ الرّوحِ والفؤادِ، وهذهِ المُتعةُ والتّشويقُ وحساسيّةُ الأحداثِ وصِدقُها، مُباركٌ هذا الإنجازُ الثّريُّ والمُثري، المُؤثِّرُ والمُثَوِّر، فدموعُنا قد رافقتْ دمعةَ إبراهيمَ الّتي لخّصتْ كلَّ الحكايةِ، فانتهيْنا مِن القراءةِ، وقلبْنا كما إبراهيمَ وسارة، ساعتَنا الرّمليّةَ، وبتْنا في الانتظارِ وإنْ كانا بحزنٍ قد انتظرا اللّقاءَ، فنحنُ بشوقٍ ولهفةٍ ننتظرُ مولودًا جديدًا منكِ لكِ ولنا.
جاءَ في مُداخلةِ د. محمّد هيبي: الحبُّ بينَ مِطرقةِ المُجتمعِ وسِندانِ السُّلطة!
قرأتُ مقالًا لصديقي العزيز النّاقدِ د. نبيه القاسم، يُعالجُ فيهِ روايةَ “على شواطئ التّرحال” والقضايا السّاخنةَ الّتي جاءتْ تَطرحُها. لفتَ نظري ترديدُهُ للقبِ دكتور (د.) في المقال، يَنعتُ بهِ الكاتبةَ، ما يَشي وكأنّ مَن كتبَ الرّوايةَ هي د. راوية بربارة ،وليستْ راوية بربارة الّتي وقّعتِ الرّوايةَ باسْمِها عاريًا بلا لقبٍ. بهذا الخصوصِ، بينَ راوية بربارة ود. راوية بربارة هناكَ فرْقٌ كبيرٌ، فلا علاقةَ للّقبِ الأكاديميِّ بكتابةِ الرّوايةِ، وراوية هي الّتي كتبتْ، ودفقتْ روايتُها دفقةً صادقةً مِن أعماقِ النّفسِ واللّاوعي، ولم تَكتبْ بحثًا أكاديميًّا مِن نتاجِ العقلِ والدّرجةِ العِلميّة، وأنا على ثقةٍ أنّ صديقيَ ردّدَ اللّقبَ احترامًا للكاتبةِ، ولكنّهُ بشكلٍ عفويٍّ غيرِ مقصودٍ ظلمَ الكاتبَ والرّوايةَ، لأنّ مَن كتبَ الرّوايةَ هو راوية بربارة، تلكَ الذّاتُ القلقةُ الّتي تُعاني مِن الأوضاعِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والنّفسيّةِ الجَمعيّةِ، فهي تَحملُ همًّا شخصيًّا أنكرَ حدودَ ذاتيَّتِهِ، ليُصبحَ همًّا جَمعيًّا، وفي ترديدِ اللّقبِ الأكاديميِّ حسبَ رأيي المُتواضعِ، ظُلمٌ للنّاقدِ نفسِهِ، ولنقدِهِ البنّاءِ الهادِفِ، وللكتابةِ كمَلاذٍ وخَلاصٍ، وللكاتبِ الّذي لم يُسعفْهُ شيءٌ، حتّى لقبهُ الأكاديميّ، فلجأ إلى الكتابةِ لتُخلّصَهُ ممّا يَعتملُ في نفسِهِ مِن ضغوطٍ لا علاقةَ لها بدرجتِهِ العلميّةِ، فهي ضغوطٌ نفسيّةٌ، ذاتيّةٌ وجَمعيّةٌ، تراكمتْ في أعماق نفسِهِ وطبقاتِ لا وَعْيِهِ، قبلَ نقلِها إلى طبقاتِ وَعيِهِ وعقلِهِ وإلى الأوراق. ولكن ما لا أشكُّ فيهِ، أنّ صديقي لم يَقصدْ ظُلمَ أحدٍ أو الإساءةَ إليهِ، ولا أنا كذلك في مُلاحظتي هذه، إنّما قصدتُ التّذكيرَ وليسَ الإساءة، له أو لأيِّ شخصٍ آخرَ، معاذ الله.
ممّا جاءَ في مقالِ صديقي، أنّ الكاتبةَ راوية بربارة تحرّرتْ مِن لغتِها الّتي كبّلتْها في أعمالِها السّابقةِ، وقد أصابَ في ذلك أيّما إصابةٍ. فقد أصدرتِ الكاتبةُ قبلَ روايتِها “على شواطئ التّرحال” (2015)، ثلاثَ مجموعاتٍ قصصيّةٍ: “شقائق الأسيل” (2007)، “مِن مشيئةِ جسدٍ” (2008)، “خطيئةُ النّرجس” (2010)، قيّدتْ فيها القارئَ وكبّلتْهُ بلغتِها الّتي قيّدَتْها وكبّلتْها هي أيضًا، فقد وقَعَتِ الكاتبةُ في مجموعاتِها تلكَ أسيرةَ اللّغةِ الّتي طغَتْ بمُفرداتِها وتعابيرِها وتَراكيبِها وقَواعِدِها على مَضمونِ النّصّ، بحيثُ شغَلَتِ القارئَ عنهُ، رغمَ طرْحِها لقضايا كثيرةٍ ومُهمّة، لها علاقةٌ وثيقةٌ بالمرأةِ والرّجُلِ والمُجتمعِ والوطنِ والعلاقاتِ الإنسانيّةِ عامّةً، بينما في روايتِها الأولى “على شواطئ الترحال”، نجدُ أنّ التّجربةَ قد صَقلَتِ الكاتبةَ، وحرَّرَتْها مِنَ اللّغةِ وقيْدِها، بحيثُ يُحسُّ القارئُ أنّ لغةَ الكاتبةِ، رغمَ مُحافظتِها على جَماليّاتِها، لم تَعُدْ قيْدًا، بل صارتْ أداةً طيّعةً تُوظّفُها الكاتبةُ في خدمةِ الشّكلِ والمَضمون، دونَ أن تَطغى عليْهِما وتُشغِلَ القارئَ عنهُما، ودونَ أن تتنازلَ عن جَمالِها وشِعريّتِها وشاعريّتِها. تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ الكثيرَ يُمكنُ أنْ يُقالَ إيجابًا أو سلبًا حولَ توحيدِ لغةِ الشّخصيّاتِ، ولكن، يَكفيها أنّها تُحيلُ إلى قيمةِ المُساواةِ الّتي تُؤمِنُ بها الكاتبة. في شكلٍ فنّيٍّ جميلٍ تطرحُ الكاتبةُ قضايا شائكةً، قد يَتناغمُ معَها بعضُ القُرّاءُ وقد يُصدَمُ بعضُهُم، لِما فيها مِن طروحٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ، قد يألفُها بعضُهُم وقد يَخرُجُ عليها بعضُهُم الآخرُ، وذلكَ بتأثيرِ حساسيّةِ القضايا المَطروحةِ، وحساسيّةِ اتّخاذِ المَوقفِ منها، وكيفيّةِ تعامُلِ مُجتمعِنا معَها. مِن جَماليّاتِ الرّوايةِ وبعضِ أهدافِها عامّةً، وكذا هو الأمرُ في رواية “على شواطئِ التّرحال”، أنْ تطرحَ الرّوايةُ قضيّةً أو أكثرَ، وتَخلقَ حِوارًا بينها وبين ذاتِها، وبينَها وبينَ القرّاءِ وبينَ القرّاءِ أنفسِهِم، تطمحُ ألّا يَتعدّى ذلكَ الحوارُ حدودَ إنسانيّتِهِ، وأن تكونَ لهُ نتائجُهُ الّتي تتوخّى منها أنْ تُؤثّرَ بشكلٍ إيجابيٍّ على المجتمعِ، وعلى العلاقاتِ الّتي تربطُ بينَ عناصرِهِ بكلِّ أشكالِها.
مِن حيث الشّكلِ الفنّيِّ يَبدو واضحًا، أنّ الكاتبةَ استغلّتْ بشكلٍ جيّدٍ ما تُتيحُهُ لها حدودُ التّجريبِ في الرّوايةِ الحديثة. صدّرتِ الرّوايةَ بعنوانٍ فيهِ مِن جَمال العبارةِ وسِحرِ الإثارةِ الشّيء الكثير، وبلا إهداء، استعاضتْ عنهُ بعبارة، كنَصٍّ مُمهِّدٍ (Paratext)، فيها الكثيرُ مِن الإيحاءِ، “لا أريدُ مِنَ الحُبِّ غيرَ البداية” (ص2)، اقتبسَتْها مِن محمود درويش، والأهمّ، أعقبتْها بعبارةٍ إيحائيّةٍ أخرى مِن نحْتِها، “لا أريدُ مِنَ الحُبِّ غيرَ أنْ تستمرَّ البداية” (ص2). هذه العبارةُ تَشي بما يَنتظرُنا في الرّواية. في العنوانِ والعبارتيْنِ المَذكورتيْنِ وغيرِهِما على امتدادِ الرّوايةِ، توظيفٌ لتقنيّةِ الميتاقصّ وقدرتِها على إظهارِ وعيِ الكاتبة ووعيِ النّصِّ لذاتِهِ، وتحفيزِ القارئِ واستفزازِهِ ودفعِهِ لقراءةِ الرّوايةِ والتّفاعلِ معَ القضايا الّتي تَطرحُها.
السّاردُ وطُرقُ السّردِ: تَدورُ أحداثُ الرّوايةِ حولَ حدثٍ يبدو صغيرًا، وهو أن تكتبَ البطلةُ قصّتَها أو لا، وتَظهر حيرتُها مِن خلالِ صعوبةِ اختيارِها للغةِ الكتابة، وبهذا تتّخذُ الكاتبةُ مِنَ الكتابةِ ملاذًا ترجو بهِ الخلاصَ مِن معاناتِها، ودافعًا للسّردِ وحاملًا له. “سارة” الرّاويةُ وبطلةُ الرّوايةِ، تتردّدُ بينَ الكتابةِ وترْكِها، ولكنّها تكتبُ، فهناكَ ما يُغريها بذلك. “لم يَبقَ لي إلّا أنْ أتحرّرَ مِن ذِكرياتي ومن حبّي.. سأكتبُ قصَّتَنا وأتحرّرُ منكِ إلى الأبد” (ص7)، فالكتابةُ هي خلاصُها الوحيدُ مِن معاناتِها الّتي تسرُدُها بضميرِ “الأنا”، وتُطلِعُنا عليها مِن خلالِ ما تتذكّرُهُ وتكتبُهُ، وتُعيدُنا بالذّاكرةِ إلى لقائِها الأوّلِ بإبراهيم يقولُ لها: “تحمّلي قليلًا، أريدُ أن أساعدَكِ” (ص12)، حينَ أفاقتْ بينَ يديْهِ وهو يُساعدُها لتُفيقَ مِن غيبوبتِها بعدَ سُقوطِها، نتيجةَ استنشاقِها الغازَ المُسيلَ للدّموع، في “مُظاهرةٍ سِلميّةٍ بلا حجارةٍ، تجوبُ الشّوارعَ مِن أجلِ أطفالِ الحجارة” (ص12)، جمعتْ بينَ العربِ واليَهودِ ممّنْ يُعارضونَ سياسةَ الحربِ والاحتلال.
وظّفتِ الكاتبةُ تيّارَ الوعيِ وتقنيّاتِهِ المُختلفةَ بشكلٍ مُوفّقٍ، مَكّنَها مِنَ استبطانِ دواخل “سارة”، والبوحِ بما يَعتملُ في نفسِها، عن طريق الاسترجاعِ والمونولوج. لكنّها في مرحلةٍ ما تشعرُ بالإرهاقِ مِنَ السّردِ، “تعبتُ مِن ذكرياتي ومن أناي” (ص122)، فتتنازلُ بشكلٍ أنيقٍ عن السّردِ، وتُوكّلُ المُهمّةَ إلى الرّاوي العَليمِ، كُليّ المعرفة فتقولُ: “سأتنازلُ عنِ الأنا وأتركُ للرّاوي حقَّ السّردِ، ليَفتحَ الأبوابَ ويُشرّعَها”. وفي هذه العبارةِ أيضًا توظيفٌ لتقنيّةِ الميتاقصّ الّتي تستفزُّ القارئَ. إذن؛ فالكاتبةُ على درايةٍ بأشكالِ السّردِ والبناءِ، وقدراتِ الرّاوي العليمِ على استبطانِ النّفوسِ الّتي لا تستطيعُ “سارة”- الرّاوي الأنا الشاهدُ المُشارِكُ- استبطانَها. ثمّ لاحقًا، يُصرّحُ الرّاوي بأنّهُ تعِبَ هو الآخرُ مِنَ السّردِ حينَ قالَ، “لقد تعبتُ مِنَ السّردِ، أنهكَتْني قصّةُ سارة وإبراهيم، وجلَدَتْ صبري قصّةُ خولة وصادق، وأرّقتْني قصّةُ ماري.. سأعيدُ السّردَ لسارة، هي حكايتُها، فلتنقُلْها هي لكم.. كما تعيشُها وتَشعُرُها” (ص166)، فيُعيدُ السّردَ إلى “سارة” بشكلٍ أنيقٍ أيضًا، لتُتابعَهُ بصيغةِ “الأنا” المُتكلّمةِ، إلّا أنّها كثيرًا ما تلجأُ إلى ضميرِ المُخاطبِ بشكلٍ مُوفّقٍ أيضًا، ما يَزيدُ مِن حميميّةِ الخطابِ وحرارةِ الكلماتِ، لأنّها تُدوّنُ ذكرياتِها كرسالةٍ تكتبُها لزوْجِها وحبيبِها إبراهيم. التّعبُ مِنَ السّردِ عندَ “سارة” وعندَ الرّاوي العليمِ يَشي بثِقلِ المُعاناةِ، وتعقيداتِ القضايا الشّائكةِ الّتي تَطرحُها الكاتبةُ في روايتِها، فهي قضايا تُثقِلُ على الكاتبةِ وصوتِها المُتداخِلِ بصوتِ الرّاويةِ، فيَزيدُ ذلكَ مِن تأثيرِها على القارئِ الّذي يَتفاعلُ معَ تعدُّدِ الأصواتِ وتداخُلِها.
الزّمكانيّة: يَمتدُّ زمنُ الرّوايةِ المَوضوعيّ مدّةً قصيرةً لم تُحدَّدْ، ولكنّها لا تزيدُ عن زمنِ كتابةِ الذّكرياتِ، أمّا الزّمنُ النّفسيُّ فتُحدّدُهُ “سارة” مُخاطِبةً فستانَها: “أنْ أرتديكَ يَعني أنْ أتنازلَ عن خمسةٍ وعشرينَ عامًا وبعضِ الكيلوغرامات” (ص12)، ويبدأ منذُ اللّقاءِ الأوّلِ بينَ سارة وإبراهيم، ويمتدُّ إلى انتهاءِ العلاقةِ بينَهما بعدَ خمسةٍ وعشرين عامًا، وهو زمنُ المُعاناةِ النّفسيّةِ الّتي عاشتْها “سارة”. يَبدأ الرّاوي بالسّردِ مِنَ النّهايةِ، فالبدايةُ هي النّهايةُ، والنّهايةُ تَعتبرُها “سارة” بدايةً جديدةً، فهي تعتمدُ الاسترجاعَ والمونولوجَ الّذي يُمكّنُها مِنَ البوْحِ، بما يَعتملُ في نفسِها مِن ذكرياتٍ سعيدةٍ وصراعاتٍ أليمةٍ أدّتْ إلى انفصالِها عن إبراهيم. نجحتِ الكاتبةُ في اختيارِها للفترةِ الزّمنيّةِ النّفسيّةِ، خمسة وعشرين عامًا، وهي فترةٌ تُوازي امتدادَ الأحداثِ بين بدايةِ الانتفاضةِ الأولى 1987، إلى ما بعد نهايةِ حملةِ “الرّصاص المَصبوب” على غزة عام 2008-2009، هذه الفترةُ كانتْ شاهدةٌ على صِداماتٍ وأحداث كثيرة، وتحوُّلاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ في المجتمعيْن العربيّ واليهوديّ. أمّا المكانُ فهو موضوعيٌّ جغرافيُّ ونفسيُّ كذلك، يَمتدُّ جَغرافيًّا بينَ تل أبيب وكريات شمونة، مُرورًا بعكّا وتلك القريةِ الفسيفساءِ في الجليل وغيرِها مِن القرى الباقيةِ والمُهجَّرة. تتوسّطُ المكانَ حيفا الّتي احتضنتِ اللّقاءَ الأوّلَ وبدايةَ الصّراعِ الحقيقيّ، لذلك، فتلكَ المساحةُ الجغرافيّةُ بتركيبتِها المَذكورةِ لها دلالتُها النّفسيّةُ الّتي تُعبِّرُ عنِ الشّرخِ بيَن تل أبيب؛ مدينةِ “سارة” ومجتمعِها اليهوديّ، وبين قريةِ إبراهيم والمجتمعِ العربيّ، ذلكَ الشّرخُ الّذي أحدثَهُ الصّراعُ وتَطوُّراتُ الأحداثِ، والتّحوُّلاتُ المَوضوعيّةُ والنّفسيّةُ الّتي كشفَتْها تلكَ الأحداثُ، وبذلكَ يُصبحُ المَكانُ كالزّمانِ، جزءًا مِن المَشاكِلِ الّتي عَمِيَ عنها الحُبُّ، فأعمى بصَرَ وبصيرةَ “سارة” وإبراهيم، الأمر الّذي أدّى إلى فشلِ الحُبِّ رغمَ عدَمِ تَراجُعِهِ. وقد أحسنتِ الكاتبة أنْ جمَعَتْ بين “سارة” وإبراهيم بالزّواجِ الّذي يَقتُلُ أعظمَ حُبٍّ، “فالزّواجُ مَقبرةُ الحُبّ” (ص58) كما تقولُ “سارة”، وإن كنتُ أرى أنّ الزّواجَ هنا ليسَ هو السّببُ الحقيقيُّ لفشلِ الحُبِّ، بقدرِ ما هو إحالةٌ ذكيّةٌ إلى الأسبابِ الموضوعيّةِ للفشلِ، سواء كانت اجتماعيّةً أو سياسيّةً، مُتفرّقةً أو مُجتمعة.
الشخصيات: “سارة” الشّخصيّةُ المَركزيّةُ والبطلةُ والرّاوية، بناءٌ ذكيٌّ استطاعَتِ الكاتبةُ مِن خلالِها أن تَجمَعَ بينَ معاناة المرأةِ مِن ظُلمِ الرّجُلِ، وبينَ مأساةِ اللّقاءِ بينَ المُجتمعيْن العربيِّ واليهوديّ، وعُمقِ الكراهيّةِ الّتي تجمَعُ أو تُفرّقُ بينَهُما، لدرجةِ أنّها قادرةٌ على قتلِ أيِّ حُبٍّ قد تأتي بهِ الأيّام، فمأساةُ المرأةِ في المجتمعِ العربيِّ تُصبحُ مُزدَوَجةً أو أكثرَ إذا كانتِ المرأةُ غيرَ عربيّةٍ، ويهوديّةً بشكلٍ خاصٍّ. لذلكَ يَصعُبُ، بل هو مستحيلٌ النّظرُ إلى “سارة” على أنّها تَحملُ همًّا شخصيًّا، كما يَتبادرُ للأذهانِ مِن بعضِ ما تبوحُ بهِ. لا شكّ أنّها تَحملُ همًّا جَمعيًّا مُزدوَجًا مِن أكثرِ مِن ناحيةٍ، أهمُّها السّياسيّةُ والاجتماعيّة، لأنّ سارة يهوديّةٌ تُحبُّ عربيًّا وتتزوّجُ منهُ، وهو أمرٌ يَرفضُهُ المُجتمعانِ العربيُّ واليهوديُّ، ولا يُصبحُ مألوفًا مَهْما تكرّرَ، خاصّةً وأنّ هذه العلاقةَ تَنشأُ في مجتمعٍ تَحكمُهُ علاقاتٌ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ عِدائيّةٌ، سواء حدثَ الزّواجُ أم لم يَحدُثْ.
إبراهيم شخصيّةٌ قسَتْ عليْها كثيرًا الرّاويةُ والكاتبةُ، إذ لمْ تَكتَفِ بتَحميلِهِ مَسؤوليّةَ تدَهوُرِ العلاقةِ بينَ المرأةِ المَظلومةِ والرّجُلِ الظّالمِ، وإنّما حمّلتْهُ مسؤوليّةَ تدَهوُرِ مَنظومةِ العلاقاتِ كلِّها، حتّى بينَ أصحابِ الفِكرِ المُتقاربِ، بحجّةِ رُضوخِهِ للقبيلةِ في انتماءاتِهِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والدّينيّةِ. لكنّ الكاتبةَ مَنحتْنا بعضَ العزاءِ، في إظهارِها بعض الأسباب غيرِ الشّخصيّةِ الّتي أدّتْ إلى فشلِ إبراهيم، عندما جعلَتِ المجتمعَ الّذي تُحيلُ إليهِ “سارة” يَتحمّلُ جزءًا مِن أسبابِ ذلكَ الفشل. أمّا الشّخصيّاتُ الأخرى الكثيرةُ فكلُّها مُهمّةٌ، لكن أهمَّها ماري وخولة وأمّ إبراهيم، هي شخصيّاتٌ رسمَتْها الكاتبةُ لتستكمِلَ بها أفكارَها حولَ القضايا المَطروحةِ، والعلاقاتِ بينَ المُجتمعيْن العربيّ واليهوديّ مِن جهةٍ، وداخلِ المجتمعِ العربيِّ مُجتمعِ الفسيفساءِ مِن جهةٍ أخرى، ذلكَ المُجتمع الّذي تربطُهُ علاقاتٌ لها خصوصيّاتُها وحساسيّتُها، طرحَتْها الكاتبةُ بجرأةٍ، سواء فكّرتْ أم لم تُفكّرْ بالجدَلِ الّذي قد تُثيرُهُ بينَ مُوافقٍ ومُعارِضٍ ومُتحفّظٍ. كلُّ شخصيّةٍ مَن الثّلاثِ تُحيلُ إلى قضيّةٍ سياسيّةٍ شائكةٍ: شخصيّةُ خولة وما حدَثَ لابنِها، تُحيلُ إلى خدمةِ الشّبابِ الدّروزِ في الجيش، وكيفَ أنّ الكثيرينَ في مجتمعِنا لا يتفهّمونَ أنّها مَصدرُ مُعاناةٍ للمجتمعِ الدّرزيّ وليستْ مَصدرَ فخرٍ. وشخصيّةُ ماري تُحيلُ إلى الإنسان الفلسطينيِّ اللّاجئِ في وطنِهِ. وشخصيّةُ أمّ إبراهيم تحيلُ إلى الشّعبِ الفلسطينيِّ الرّازحِ تحتَ الاحتلالِ وسياسةِ الحرب، وكلُّ تلكَ القضايا تُؤثّرُ وتتأثّرُ بالعلاقةِ ذاتِ الحساسيّةِ العاليةِ بينَ المُجتمعيْن العربيّ واليهوديّ. كلُّ الشّخصيّاتُ في الرّوايةِ مِن “سارة” وحتّى أصغر شخصيّةٍ، ليسَ مِن حيث الجيلِ طبعًا، تستحقُّ دراسةً اجتماعيّةً نفسيّةً أشملَ وأعمقَ لا تحتملُها هذهِ العجالة.
أمّا مِن حيثُ المَضمون، فالكاتبةُ تبحثُ في روايتِها عن عالمٍ مِثاليٍّ، أو عن مدينة فاضلة (Utopia)، يفتقدُها أولئكَ الّذينَ تَتضاعفُ مُعاناتُهم، لأنّ المَشاعرَ الّتي تتحكّمُ بهم هي مشاعرُهُم الإنسانيّةُ، الّتي يَقتلُها في هذا العالمِ الّذي نعيشُ فيهِ، أولئكَ الّذينَ تتحكّمُ بهم مَشاعرُ أخرى غيرُ الإنسانيّةِ، وهي مَشاعر تنبعُ غالبًا مِن نزعاتٍ سلبيّةٍ، تتراوحُ بينَ الأنانيّةِ والطائفيّةِ والعنصريّةِ وغيرِها الكثير، وتُشكّلُ عقباتٍ أمامَ بناءِ علاقاتٍ، تقومُ على الحبِّ وغيرِهِ مِنَ القِيمِ والمَشاعرِ الإنسانيّة. في طريقِ آلامِ بحثِها، تصطدمُ الكاتبةُ بتلكَ العقباتِ الّتي تُجهضُ الحُبَّ والمَشاعرَ الإنسانيّةَ، تلكَ القضايا الشّائكةَ ذات الحساسيّةِ الخاصّة، سواء كانَ ذلكَ في المجتمعِ الواحدِ، أو بينَهُ وبينَ غيرِهِ مِنَ المُجتمعاتِ الأخرى، الّتي تربطُهُ بها علاقاتٌ سياسيّةٌ بشكلٍ خاصّ. لذلك، ليسَ غريبًا أنّ الكاتبةَ تركتِ القصّةَ القصيرةَ ولجأتْ إلى الرّواية، فهيَ بخلافِ سائرِ الأجناسِ الأدبيّةِ الأخرى، هي الأقدرُ على نقلِ الواقعِ وإبداعِهِ، ونقلِ حركةِ الإنسانِ في تطوُّرِهِ بأشكالِهِ المُختلفةِ، وخاصّة في صراعِهِ المُتواصِلِ بكلِّ أشكالِهِ معَ أعداءِ الحياة. الكتابةُ بشكلٍ عامّ، وكتابةُ الرّوايةِ بشكلٍ خاصٍّ، يَراها لوسيان غولدمان Lucien Goldmann كتابةَ “تاريخِ بحثٍ مُنحَطٍّ (يسميه لوكاتش Lukacs “شيطاني”)، فهيَ بحثٌ عن قِيمٍ أصيلةٍ في عالمٍ مُنحطٍّ، ولكن على صعيدٍ مُتقدِّمٍ بشكلٍ مُغايرٍ، ووِفقَ كيفيّةٍ مُختلفة” (غولدمان، 1993، ص 14، وGoldmann, 1975, p. 1). ذلك يَعني أنّ لجوءَ الإنسانِ إلى الكتابةِ، وإلى كتابةِ الرّوايةِ تحديدًا، يُعطي فرصةً للرّوائيّينَ، ليُحقّقوا على الورقِ ما عجزوا عن تحقيقِهِ في الواقع. وهذا ما فعلَتْهُ رواية بربارة، وبكلِّ جرأةٍ، فقد خاضتْ في ذلكَ المُستنقعِ الّذي تحكُمُهُ الأنانيّةُ والطائفيّةُ والعنصريّةُ وغيرُها مِن النّزعاتِ القاتلةِ، إلى جانبِ القهرِ السّياسيِّ، لتبحثَ عنِ القِيمِ الأصيلةِ، وتبني عليها عالمَها الخاصَّ الّذي تحلمُ بهِ، ذلكَ العالمَ الّذي تحكُمُهُ القِيمُ والمَشاعرُ الإنسانيّة، بما فيها الاحترامُ المُتبادلُ معَ الآخر، واحترامُ حقِّهِ في الحياةِ والحُرّيّةِ دونَ المَساسِ بخصوصيّتِهِ. وهذا هو ما قصَدَهُ غولدمان (Goldmann)، بالصّعيدِ المُتقدّمِ بشكلٍ مُغايرٍ ووِفق كيفيّةٍ مُختلفة، أي الشّكل والكيفيّة اللّذين يَختارُهُما الكاتبُ، وهذا ما فعلَتْهُ راوية بربارة لبناءِ عالمِها الخاصّ في روايتِها.
بجرأةٍ مُثيرةٍ، طرحَتِ الكاتبةُ قضايا شائكةً، أوّلًا في مجتمعيْن مُختلفيْن، وثانيًا في مجتمعٍ واحدٍ لهُ فسيفساؤُهُ وخصوصيّتُهُ. ولكن رغمَ حساسيّةِ تلكَ القضايا، وربّما أولويّتِها، لم تستطعِ الكاتبةُ التخلّصَ كليًّا مِن إطارِ الأدبِ النّسويِّ الّذي يَهتمُّ بعلاقةِ المرأةِ بالرّجُلِ، أو بنفسِها أيضًا، بغضِّ النّظرِ عن أنّ تلكَ العلاقةَ في هذه الرّواية لها حساسيّتُها الخاصّة، إذ تقومُ بينَ امرأةٍ يهوديّةٍ ورَجُلٍ عربيّ، ولكنّها، إذا استبعدْنا تلكَ الحساسيّةَ، لا تختلفُ عن أيّةِ علاقةٍ بينَ الرّجلِ والمرأة، تكونُ فيها المرأةُ ضحيّةً مَظلومةً، تُعاني مِن سيطرةِ الرّجلِ ومَفاهيمِ المُجتمعِ الذّكوريِّ الذي يُهمّشُ المرأةَ ويَهضمُ حقوقَها، فإبراهيم الّذي تمرّدَ أوّلَ الأمرِ، عادَ في النّهايةِ وخضعَ لمفاهيمِ المُجتمعِ الذّكوريِّ وما فيهِ مِن عصبيّاتٍ قبليّةٍ ودينيّة. وفي هذا السّياقِ بالذّاتِ، أظهرَتِ الكاتبةُ ذكاءً ملحوظًا باختيارِها لوالدَيْ سارة مِن مجتمعٍ شرقيّ: العراقيّ والمغربيّ، فقد ضربَتْ بذلك عصفوريْن كبيريْن: الأول، لأنّهُما مِن مُجتمعٍ لا يَبتعدُ كثيرًا عن مجتمعِنا في عقليّتِهِ وسُلطتِهِ الذّكوريّةِ، وبذلكَ عبّرتْ عن معاناةِ المرأةِ عربيّةً كانتْ أو غيرها، مِن ظلمِ الرّجُلِ والمُجتمعِ الذّكوريّ. وقد تمثّلَ ذلكَ في علاقةِ “سارة” بإبراهيم و”أفنر”، ومحاولتِهِما فرض سيطرتِهما عليها؛ والثّاني، عبّرتْ بذلك أيضًا عن تطرّفِ المُجتمعِ اليهوديِّ نحوَ سياسةِ الحربِ والاحتلالِ والعِداءِ للعرب، الفلسطينيّينَ بشكلٍ خاصّ، إذ إنّ المُجتمعَ اليهوديَّ الشرقيَّ هو الأكثر ميْلًا نحوَ تلكَ السّياسةِ، ودعمًا لسياسةِ اليمين في إسرائيل.
تُعاني سارة بشكلٍ مزدوَجٍ مِن كوْنِها امرأةً ويهوديّةً، وتُحمِّلُ المُجتمعيْن العربيَّ واليهوديَّ مسؤوليّةَ معاناتِها. المجتمعُ العربيُّ يتمثّلُ بإبراهيم وأُمِّهِ وغيرِهما، والمجتمعُ اليهوديُّ يَتمثّلُ كذلك بوالدَيْ “سارة” وغيرِهِما. والكاتبةُ لا تُغفلُ دوْرَ السّياسةِ، حيثُ تُحمّلُ “سارة” مسؤوليّةَ معاناتِها للسُّلطةِ السّياسيّةِ أيضًا، مُتمثّلةً بالضّابطِ “أفنر”، ابنِ خالتِها، وتُظهرُ بذلكَ، أنّ القضيّةَ هي قضيّةٌ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ في آنٍ معًا. ويُعاني إبراهيمُ مِنَ المُجتمعيْنِ أيضًا، ولكنّ السُّلطةَ هي في الحقيقةِ مَن يَقلبُ حياتَهُ وحياةَ “سارة” جحيمًا، وذلك باعترافِ “سارة” أنّ فشلَ إبراهيم في إيجادِ عمَلٍ، وراؤُهُ السُّلطةُ المُتمثّلةُ بـ “أفنر”. وليتَ الأمرَ يتوقّفُ عندَ هذا الحدِّ، وكما جاءَ على لسانِ “أفنر” في الرّواية أنّهُ يَعتبرُ إبراهيم، “إنّهُ ضِدّيٌّ ونقيضيٌّ، يُريدُ أن يأخذَ بلادي بعدَ أن أخذَ منّي .. منّا سارة. وإذا كانتْ هذهِ أفكارُ “أفنر” الّذي يُمثّلُ السُّلطةَ، فإنّ القضايا الشّائكةَ الأخرى في الرّواية، لن يَكونَ مِنَ الصّعبِ على المُتلقّي أن يُحيلَ أسبابَ وجودِها إلى السُّلطة، وبذلك تُصبحُ أسبابُ المُعاناةِ الحقيقيّةَ لكلِّ شخصيّاتِ الرّوايةِ، السُّلطةَ وسياستَها الّتي لا تؤمنُ إلّا بالحربِ ودوامِ الفُرقةِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحد، ولا يَسْلَمُ منها حتّى أبناء المجتمع اليهوديّ. ذلك لا يعني أنّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ بما فيها مِن ظُلمٍ لا دوْرَ لها، ولكن دوْرَ السيّاسةِ يَطغى عليهِ، فهو الّذي يُكرّسُ الظّلمَ الاجتماعيَّ والتّخلّفَ، خاصّة في المجتمعِ العربيّ، ويَعملُ على دوامِهِ. وفي كلِّ الحالاتِ، يظهرُ ذلكَ جليًّا في الدّوْرِ الّذي يَلعبُهُ “أفنر” في عِدائِهِ لإبراهيم، ومُحاولاتِهِ في تخليصِ “سارة” منهُ، فهو لا يَختلفُ عن دوْرِ السُّلطةِ وعِدائِها للجَماهيرِ العربيّةِ، فهي تُحاول أنْ تُجنِّدَ الجميعَ لخدمةِ سياستِها، كما حاول “أفنر” أنْ يُجنّدَ “سارة” الّتي “باتتْ تعرفُ أنّها فقدَتْ وطنَها، وفقدَتْ ملجأَها، فهي تَعيشُ في دولةٍ تُريدُها عينًا وفمًا وأذنًا على زوجِها وأهلِ قريَتِهِ، الدّولةُ جازتْها على إنسانيّتِها، والمُجتمع جازاها على حُبِّها!” (ص126). ولا أدري إذا كانتِ الكاتبةُ قد انتبَهتْ إلى أنّها بكلِّ ذلكَ تُحيلُ، وبشكلٍ غيرِ مُباشرٍ وإنْ كانَ واضحًا، إلى سياسةِ الفصلِ العنصريِّ الّتي تنتهجُها السُّلطةُ بينَ العربِ واليَهودِ، تُبعدُ بينَهم قدْرَ استطاعتِها، خاصّةً في مجالِ السّياسةِ، وكذلكَ إلى سياسةِ التّخويفِ “في هذهِ الدّولةِ الّتي تعيشُ على رعبٍ كأنّ النّارَ تحتَها” (ص92)، تَنشرُ الخوفَ بينَ اليهودِ، وتُوهِمُهُم بأنّ بُعدَهُم عن العربِ فيهِ خلاصُهُم وخلاصُ دولتِهم، وهي دعوةٌ صريحةٌ مِنَ الحكومةِ اليومَ إلى ما تُسمّيهِ “يهوديّةَ الدّولة”. وهذا أيضًا ما يُفهَمُ مِن طلبِ “أفنر” المُتكرِّرِ مِن “سارة”، أنْ يُخلّصَها مِن إبراهيم، حين “أمسَكَها مِن يدِها، وهمَسَ في أذنِها: هذا ما نابَكِ مِنَ العربيّ؟ أتريدينَ أن أُنجّيكِ منه؟” (ص150). وحينَ قالَ لها أيضًا: “ما بكِ؟ أنا ابنُ خالتِكِ، لحمِكِ ودمِكِ، دعيني أساعدكِ في النّجاةِ من هذا العربيّ” (ص151)، وفي موْضعٍ آخَرَ، “كفاكِ عنادًا، هي أيّامٌ وسأراكَ بالجلبابِ والحِجابِ، تعالَيْ أُنقذكِ، ألم تسمعي عنِ الحركةِ اليهوديّةِ الّتي قامتْ لتخليصِ اليهوديّاتِ المُتزوّجاتِ مِن غيرِ اليهوديّ، يُوفّرونَ لكِ بيتًا وعملًا، هل ستنتظرينَ أكثرَ ممّا انتظرْتِ؟” (ص164-165). وفي خِضمِّ تلكَ السّياسةِ، تُريدُ السُّلطةُ مِنَ العربيِّ أن يُذعِنَ لها ويتقبّلَها بهدوءٍ ويتعايشَ معهُ بسَلامٍ، كما جاءَ على لسانِ أمّ “سارة”: “فليَعيشوا بسلامٍ وهدوءٍ، ولِمَ يضربونَ الجُندَ بالحجارة؟” (ص10).
ما يُثيرُ الجدَلَ في رواية راوية بربارة، هو من جهة جرأتُها في طرح القضايا الشّائكةِ بشكلٍ غيرِ مسبوقٍ، ومِن جهةٍ أخرى، أنّها لم تأخذْ مَوقِفًا واضحًا مِنَ السُّلطةِ الّتي تَقفُ وراءَ تلكَ المُعاناةِ، بالتّأكيدِ ليسَ خوفًا، فهي تطرحُ الأمورَ الاجتماعيّةَ والسّياسيّةَ بجرأةٍ كبيرةٍ، وتعترفُ بدَوْرِ السُّلطةِ الهدّامِ مِن خلالِ شخصيّةِ “أفنر”، ما يَشي بأنّها تترُكُ لكلِّ مُتلَقٍّ أن يُحدّدَ موقفَهُ بالشّكلِ الّذي يُريدُ، ومِن جهةٍ ثالثةٍ، لا أدري أيضًا، إذا انتبهَتِ الكاتبةُ إلى أنّها بجرأتِها وبحساسيّةِ القضايا الّتي طرحَتْها، خاصّةً السّياسيّة منها، وبتصويرِها المُؤثّرِ لقسوةِ الألم الّذي يَنزفُ مِن تلكَ القضايا، قد أيقظتْ حساسيّةَ المُتلقّي الّتي ستتأثّرُ وتنشغلُ كثيرًا بتلكَ القضايا، وبذلكَ تكونُ قد سحقَتْ بشكلٍ ما، أفكارَها الرّومانسيّةَ أحيانًا، المِثاليّةَ أحيانًا أخرى، أو شغلَتِ المُتلقّي عنها على الأقلّ. فقد أحسستُ أثناءَ قراءتي للرّوايةِ، أنّني أمُرُّ بتلكَ الجُمَلِ الّتي تُعبّرُ عن تلكَ الأفكارِ مَرَّ الكِرامِ، لأنّ سياسةَ العنصريّةِ والحربِ والاحتلالِ و”فَرِّقْ تَسُدْ”، وغيرَها مِنَ السّياساتِ البشعةِ الّتي تنتهجُها السُّلطةُ في هذهِ البلادِ، قد طغَتْ بحيثُ جعلَتِ الإنسانَ فيها يَكفُرُ بوجودِ مثلَ تلكَ الأفكارِ، أو بوجودِ مَن يُؤمِنُ بها. تردّدَتْ تلكَ الأفكارُ على امتدادِ الرّوايةِ: “نحن أمَميّانِ، وأنتِ دولتي، أريدُ أن أصبحَ فيكِ مواطنًا لا يَحتاجُ إلى جوازِ سفرٍ ليَدخلَ دولتَهُ الحبيبة! عيونُكِ هُويّتي وانتمائي وعبادتي” (ص38)، لستِ امرأةً، ولستِ يهوديّةً، أنتِ كياني الضّائعُ، لستِ نزوةً عابرةً، بل أبَدِيَّ الدّائم، أنتِ كلُّ نساءِ الأرضِ بكلِّ هُويّاتِهم” (ص39)، “علاقتُنا لم تعترفْ لا بالحدودِ ولا بالسّياسةِ، لا بطاولةِ المفاوضاتِ المُستديرةِ ولا المُستطيلةِ، لا بالعِرقِ ولا بالدّين، لا بالحربِ ولا بالسّلامِ، لا بالعدُوِّ ولا بالصّديقِ، علاقتُنا رسَمَتْ لها خريطةً أخرى وحدودًا مفتوحةً، لم نعترفْ إلّا بأحاسيسِنا وبمبادئِنا!” (ص59)، “أنا لستُ مُلْكًا لأحدٍ، أنا مسؤولةٌ عن روحي وعن جسدي وعن كياني ووجودي! والبلاد ليستْ مُلكًا للبَشرِ، إنّها هِبَةُ الرّبِّ لنا لنسكُنَ ونحيا، لا لنتقاتلَ ونموتَ!” (ص98)، “وطنُكَ هو المكانُ الّذي يَمنحُكَ الحرّيّةَ؛ حرّيّةَ التّفكيرِ والتّعبيرِ والاختيارِ والحُبِّ؟” (ص124). وغير ذلك الكثير. فهي تُنهي روايتَها بعبارةٍ لا تختلفُ عن هذا السّياقِ، اقتبَسَتْها مِن درويش: “وقليلٌ مِن الأرضِ يَكفي لكي نلتقي، ويَحُلَّ السّلام” (ص177)، ما يُؤكّدُ أنّها مُصِرّةٌ على بناءِ عالمِها المِثاليِّ الخاصِّ، ومدينتِها الفاضلة. في الرّوايةِ دَفقٌ إنسانيٌّ مُثيرٌ وصادِقٌ، ولكن، أعتقدُ أنّهُ مِنَ الصّعبِ طرحُ قصّةِ حُبٍّ مِنَ النّوعِ الّذي تطرحُهُ الرّوايةُ، وبالتالي النظر إليها وكأنّها قضيّةٌ إنسانيّةٌ فحسْب، أو حتّى إنسانيّة اجتماعيّة، في مجتمعٍ تتحكّمُ فيهِ السّياسةُ بكلِّ شيءٍ، وتُدمّرُ كلَّ جَميلٍ. صحيحٌ أنّ راويةَ بربارة دفقَتْ كلَّ ما في وعيِها ولا وعيِها في روايةٍ تستحقُّ القراءةَ واستراحتْ، فالكتابةُ خلاصٌ، ولكنّها ستظلُّ تَحلمُ طويلًا بعالمِها المِثاليِّ ومَدينتِها الفاضلة.
————————————
. نبيه القاسم. طرح القضايا الساخنة بذكاء وجمالية، حيفا: الاتحاد، ملحق الجمعة، 17.4.2015. ص14-15.
. راوية بربارة. على شواطئ الترحال، حيفا: مكتبة كل شيء، 2015..
لوسيان غولدمان. مقدمات في سوسيولوجية الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1993. أو في: Goldmann, L. Tawards a sociology of the novel. 1964. Trans. Alan Sheridan. New York: Tavistock Publications, 1975.
جاء في كلمة د. باسيليوس بواردي: بدايةً أقولُ وبشكلٍ مبدئيٍّ: إنّ الرّوايةَ تستحقُّ القراءةَ كروايةٍ وقبلَ كلِّ شيءٍ، قبلَ الأخطاءِ وقبلَ سوءِ المَعلوماتِ، فهي روايةٌ تُثيرُ الجدَلَ، إضافةً إلى أنّ راوية شاعرةٌ، فلم تستطِعْ في الرّوايةِ كما في قصصِها السّابقة، أن تتحرّرَ مِن الوصفِ الشّاعريِّ الّذي قد يُعيقُ في بعضِ الأحيانِ تقدُّمَ الحبكة، ولكن برأيي، هذه راوية وهذه روايتُها، ونحنُ أيضًا فخورون بهذهِ اللّغةِ الّتي نودُّ لها أن تبقى وأن نحافظَ عليها، وأريدُ أن أكونَ ليزريًّ(أِعة ليزر) إن صحَّ التّعبيرُ، بمعنى؛ أن أدخُلَ إلى مكانٍ بسيطٍ وحيّزٍ مُركّزٍ في هذهِ الرّواية، مِن أجلِ الإشراف عليهِ، فنقدُ الرّوايةِ يَستحقُّ كتابةَ المَقالاتِ والعبثَ في سُطورِها، مِن أجلِ اكتشافِ الفوضى لديْها، وأنا أريدُ أن أُشدِّدَ على هذه الفوضى وعلى أدبِ الانتهاكِ، والسّؤالُ الّذي يُسأَلُ: هل يمكنُ اعتبار هذه الرّوايةِ ضمنَ ما نُسمّيهِ بأدبِ الزّعزعةِ أو الخلخلة، أو بكلماتِ أدونيس في مِضمارِ ما يُسمّى “الأدب المُنتهِك” أمامَ ما يُسمّى بـ “الأدب المُستهلك”؟ وحقيقةً يجبُ أن أقولَ بضعةَ كلماتٍ حولَ قضيّةِ أدبِ الانتهاكِ وأدبِ الاستهلاكِ، فأدبُ الاستهلاكِ يَخرجُ ميتًا قبلَ أن يُولَدَ، ويُسايرُ الشّاعرَ والكاتبَ والذّوقَ العامَّ، أمّا في أدب الانتهاكِ فتولدُ الكتابةُ هامشيّةً، لكنّها تصبحُ رأسَ الزّاويةِ فيما بعد، وهذا فعلٌ نبويٌّ رؤيويٌّ.
تعوَّدَ النّاظرُ إلى الأدبِ الفلسطينيِّ الحديثِ الالتفاتَ إلى مَسألةٍ، طالما ترجعُ إلى مركزِ دائرةِ النّقاشِ الأدبيّ؛ ونقصدُ مسألةَ الدّوْرِ الّذي على الأدبِ- الأديبِ تأديَتَهُ تجاهَ المَسائلِ الجَمعيّةِ المُحيطةِ بهِ، وتُحيلُنا هذهِ القضيّةُ بالضّرورة إلى مُصطلَحَيْ “أدبُ الاتّصال”/الأدب الأيديولوجيّ، و”أدبُ الانفصال”/السّياسيّ، بمعنى؛ أنّ الاتّصالَ/الأيديولوجيَّ مُنطلِقًا مِن مَفهومِ المُحاكاةِ، يَتمُّ مِن خلالِ التصاقِ الشّاعرِ بالنُّظُمِ المَعرفيّةِ والأخلاقيّةِ الثّابتة، أي؛ النّصُّ الأدبيُّ عاكسٌ سلبيٌّ للأنساقِ المعرفيّةِ الجاهزة، والأدبُ في هذهِ الحالةِ لا يُحدِثُ تغييرًا في الموضوعاتِ، أو في تَصَوُّرِ هذهِ الموْضوعاتِ، إنّه في الحقيقةِ أدبٌ يَعكسُ الصّورةَ الثّابتةَ للعالمِ الموجودِ، دونَ مُحاولةِ تغييرٍ في مَفهومِهِ أو وعيِهِ. العقلُ مِن هذا المنظورِ يَشغَلُ حيِّزًا سلبيًّا في إدراكِ العالمِ، لأنّ الصّورةَ اللّفظيّةَ الكلاميّةَ تتطابقُ تمامًا مع هذا المَنظورِ ومعَ الصّورةَ الذّهنيّةَ، وعليهِ، فإنّ الأديبَ وِفقَ هذا المَنظورِ، يَلتزمُ بمُحاكاةِ عالَمٍ جاهزٍ دونَ أيّةَ مُحاولةٍ تُذكَرُ منهُ لإعادةِ تَشكيلِهِ. أمّا في ما يَتعلّقُ بـ أدبِ الانفصالِ/السّياسيّ، فهو انفصالُ المُبدِعِ عن العالمِ الخارجيِّ بمَلامحِهِ الثّابتةِ، نحوَ غوْرِهِ وأعماقِهِ الإنسانيّةِ والعاطفيّةِ الدّاخليّةِ، ليَصِلَ إلى العامّ مِن خلالِ الخاصّ، ويَتوسّلَ الرّمزَ للكشفِ عن الأعماقِ الإنسانيّة. بكلماتٍ أخرى، هل يُمكنُ للشّاعرِ الانفصالُ عن الذّاتِ الجَمعيّةِ، والغوْصُ في همومِ الفردِ الإنسانيّةِ، أم عليهِ الانصياعُ لقسريّاتٍ جَمعيّةٍ مَفروضةٍ عليهِ، تُجنّدُهُ لمَصلحةِ العامِّ والكلِّ، دونَ الالتفاتِ لفرديّتِهِ، أو فلنقُلْ لتَميُّزِهِ الفرديّ؟
المسألةُ إذن؛ قد تبدو أنّها تقفُ عندَ حدّيْنِ مُتقاطِبيْنِ؛ القطبُ الجَمعيُّ يُولي اهتمامَهُ لخطابِ الواحدِ، الكُلّيّ، الاندماجِ والانخراطِ والانصهارِ، وبالتّالي للوَلاءِ. أمّا القطبُ الفرديُّ فيَصُبُّ تركيزَهُ على خطابِ المُتعدِّدِ، المُختلِفِ، التّميُّزِ والفرادةِ والإبداع، وبالتّالي الرّفض. فالقسريّاتُ الجَمعيّةُ الأدبيّةُ منها وغيرُ الأدبيّةِ، تبحثُ عن مادّةِ التّلاحُمِ والانسجامِ، انطلاقًا مِن سعيِها لتأسيسِ النّظامِ الواحد. مِن جهتِهِ يَقومُ القطبُ الفرديُّ على مُحاولةِ بناءٍ مُختلفةٍ في جوْهرِها، مَفادُها تأسيسُ لنُظُمٍ فرديّةٍ مُتشعِّبةٍ، تتشابكُ مِن خلالِ اختلافاتِها مُتعدّدةِ الألوان. على أنّ أمامَ هذيْن القُطبيْنِ قد يَنبثقُ قطبٌ ثالثٌ، يُجيبُ بالأخيرِ عن مُتطلّباتِ المُبدعِ المَأزومِ أمامَ النّسقِ الجَمعيِّ السُّكونيّ. وقد نفكّرُ الأنَ جليًّا في قضيّةِ (على شواطئِ التّرحال)، فهذا القطبُ الّذي يَحملُ بعضَ سِماتِ التّوفيقِ، يُتيحُ للمُبدعِ التزامًا مِن نوعٍ آخَرَ؛ الالتزامَ بالقضايا الوُجوديّةِ والكيانيّةِ الإنسانيّةِ الّتي تَحيدُ عن الشّعاراتِ المُبتذلةِ المَألوفة. مِن هنا، يُعالجُ الفردُ المُبدعُ قضاياهُ وهمومَهُ مِن مُنطلقاتِهِ الفرديّةِ، لتَصُبَّ كخيطٍ مميَّزٍ وجَلِيٍّ، ضِمنَ نسيجِ العلاقاتِ الجَمعيّةِ المُتشابكة. إنّه إذن؛ ذلك التّشابُكُ المُثري القائمُ بشكلٍ مُستقِلٍّ في البناءِ الجَمعيِّ غيرِ المُنسلِخ، وفي الوقتِ ذاتِهِ، غيرِ المُنصهِرِ في الإطار.
أينَ تتموضَعُ هذهِ الرّوايةُ إذن؟ برأيي هذهِ الرّوايةُ تتموضعُ عمليًّا في القطبِ الثّالثِ الّذي يَرتكزُ إلى سرديّةٍ ذاتيّةٍ، تُحاورُ السّرديّاتِ القائمةِ بشكلٍ مُتَحَدٍّ، وقد تبدو السّرديّاتُ وكأنّها سرديّةُ الإسرائيليِّ اليهوديِّ مِن جهةٍ، وسرديّةُ العربيِّ الفلسطينيِّ مِن جهةٍ أخرى، وفي الحقيقةِ، تأخذُ راوية بربارة أبعادَ هذهِ السّرديّاتِ نحوَ سرديّاتٍ أكثرَ تشابُكًا وتعقيدًا وتركيبًا، وهنا بالذّاتِ تكمُنُ أهمّيّةُ هذهِ الرّوايةِ، لأنّها عمليًّا تجمَعُ بينَ السّرديّتيْنِ، فتعرِضُهُما أمامَنا، ولكنّها في الحقيقةِ تأخذُ التّفاصيلَ الصّغيرةَ، فتؤكّدُ لنا أنّ السّرديّاتِ العامّةَ لا تعنيها، إنّما تعنيها أكثرَ التّفاصيلُ اليوميّةُ المَعيشيّةُ، بل وأكثرَ مِن ذلك، تَعنيها التّفاصيلُ الكيانيّةُ الأنطولوجيّةُ الّتي تُؤثّرُ حقيقةً في عُمقِ الكائنِ الإنسانيِّ، وأُقدِّمُ مِثاليْنِ حولَ كوْنِ هذهِ الرّواية برأيي روايةَ أدبِ انتهاك، فموضوعُ الحُبِّ وكيفيّةَ تَناوُلِ الزّمنِ في الرّوايةِ يُشيران إلى ما أقصدُ، وهي بخُبثٍ كتابيٍّ أدبيٍّ مُعيّنٍ، تُوهِمُ القارئَ أنّ موضوعَ الرّوايةِ هو علاقةُ حُبٍّ، فثيمةُ الحُبِّ كمُحرّكٍ ديناميٍّ لإقلاقِ سكونيّةِ الوجود، تتفرّعُ عنهُ مواضيعٌ أساسيّةٌ في الرّوايةِ، وهي الصّراعُ العربيُّ الإسرائيليُّ مِن وجهةِ نظرٍ ذاتيّةٍ، ومِن زاويةِ رؤيةٍ مَحدودةٍ ومُركّزةٍ، هي كتابةٌ تَضعُ القارئَ أمامَ حقائقِ قضيّةِ الصّراعِ العربيّ الفلسطينيِّ، بإطارِ علاقةِ حُبٍّ عميقةٍ. هذا الإيهامُ السرابيُّ بموضوعِ الرّوايةِ هو أيضًا مِن علاماتِ الانتهاكِ فيها. الإطارُ العامُّ للرّوايةِ “علاقةُ الحُبّ” تجذبُ القارئَ العاديَّ، مُوهِمةً إيّاهُ بوصفٍ رطِبٍ لعلاقةٍ حميمةٍ بينَ امرأةٍ مُغرَمةٍ ورَجُلٍ غارقٍ بالحُبِّ، على أنّ الحقيقةَ المَركزيّةَ الوَحيدةَ في هذهِ الرّوايةِ، تتمركزُ في وصفٍ لوضعيّةٍ سياسيّةٍ وصراعٍ قوميٍّ وأمنيٍّ عميقِ الصِّلةِ، بمَفاهيمَ هي أبعدُ ما يُمكنُها أنْ تتأطّرَ ضِمنَ علاقةِ حُبٍّ عاديّةٍ، مَفاهيمِ الاحتلالِ، الاستعبادِ، الشّعورِ بالغربةِ والحنينِ، الآخَرِ الظّالمِ السّالبِ، الحربِ المُدمِّرةِ، الخرابِ الدّائمِ للأرضيّةِ الوحيدةِ المُحتمَلةِ في هذا المَدى الجغرافيّ. الحبُّ يُموضِعُ الرّوايةَ ضِمنَ التّناوُلِ الجَنْدريِّ الجِنساويّ، ويَتّهمُ الرّجُلَ العربيَّ الشّرقيَّ في مَركزِهِ، ليسَ مِن مُنطلَقاتِ التّعالياتِ النّسويّة. فهذهِ الروايةُ تَحملُ أبعادًا جندريّةً واضحةً، بمعنى؛ أنّها تُعطي للمرأةِ الدّوْرَ القويَّ الفاعلَ والأكثرَ صُمودًا، وهي يُمكن أنّها تقولُ بهذا، إنّ المرأةَ هي الأصلُ! فالحبُّ هنا يأتي أداةً لإقلاقِ سُكونيّةِ هذهِ الأرضيّةِ وسُكونيّةِ هذهِ السّرديّةِ، والّتي قد تبدو في مَراحلَ مُعيّنةٍ مُتناقضةً، سرديّةُ اليهوديِّ أمامَ سرديّةِ العربيِّ الفلسطينيِّ، ولكن تأتي راوية لتقول، إنّ هناكَ إمكانيّةً للعيشِ، ولكن السُّؤالَ أيّةُ أرضيّةٍ يُمكنُ أن يَنبتَ فيها هذا التعايشُ المُشتركُ؟ فالعيشُ المُشتركُ في الرّوايةِ مَسموحٌ وشرعيٌّ، والقضيّةُ هي الأرضيّة الّتي تتحكّمُ في هذهِ العلاقةِ وهذا التّعايش!
الزّمن: الموضوعُ الثّاني برأيي هو موضوعٌ فلسفيٌّ أكثر، والّذي يُؤكّدُ أنّ هذهِ الرّوايةَ هي روايةُ انتهاكِ، وكيفيّةَ تعامُلِ راوية بشكلٍ واعٍ أو غيرِ واعٍ مع قضيّةِ استعمالِها للزّمن، فأوّلُ سؤالٍ يَعترضُنا: هل زمنُ الرّوايةِ تاريخيٌّ موضوعٌ ضِمنَ مَقامٍ ما، أم أنّهُ خالدٌ لا يُقيمُ وزنًا للحدودِ الفاصلةِ بينَ حُقَبِهِ؟ نلاحظُ في هذا الصّددِ أنّ أبرزَ ما تتّسِمُ بهِ الرّواية، أنّها تمثيلٌ للمُطلَقِ والشّموليِّ في ما هو خاصّ. هو مُغامرةٌ أنطولوجيّةٌ وكيانيّةً، تلِجُ عَبرَها الكاتبةُ إلى فضاءٍ مُتعدّدِ الأبعادِ، تكونُ فيهِ الذّاتُ قادرةً على ممارسةِ الكينونةِ كصيرورةٍ تاريخيّةٍ، إذ إنّ الرّوايةَ في هذا السّياق، تُعيدُ صياغةَ التّشكُّلاتِ الّتي يوجَدُ عليها الكونُ، ويُدخِلُها في علاقاتٍ وأنساقٍ جديدة، لغايةِكشفِ واسْتِكْناهِ حقيقتِها. إذًا؛ تكونُ الرّوايةُ فعلَ إبداعٍ مُتحرّرٍ مِنَ التّراثِ السّلطويّ، وفِعلَ تجريبٍ إبداعيٍّ يَكشفُ عن العناصرِ الكوْنيّةِ الاجتماعيّةِ، وتلكَ هي وظيفةُ الأدبِ الرّئيسيّة، إذ يَبعثُ في الإنسانِ الرّغبةَ الدّائمةَ في التّساؤلِ، ويَكشفُ جوْهرَهُ الفاعلَ. إنّ تحليلَ الزّمنِ في هذهِ الرّوايةِ يُؤدّي إلى الكشفِ عن مركزِ هذهِ الرّوايةِ برأيي المتواضع. القراءةُ الذّاتيّةُ العميقةُ لتفاصيلِ الصّراعِ مِن خلالِ النّموذجِ المُصغَّرِ الميكرو، يَعكسُ الدّلالاتِ الأعمقَ للصّراعِ على المستوى الأعمِّ والأشملِ الماكرو، يعني هذهِ الرّوايةُ في زمنيّتِها تَعكسُ مِن خلالِ الذّاتيِّ ما هو أعمقُ مِنَ العامّ الّذي نَعرفُهُ. هذا الزّمنُ الّذي لا يَنصاعُ في هذهِ الرّوايةِ لخطّيّةٍ ولِتَعاقُبٍ، إنّما يَرفضُ نسَقَ التّفكيرِ المُتعارَفِ عليهِ للكينونةِ الفلسطينيّةِ واليهوديّةِ على حدٍّ سواء. مِن هنا، ومِن خلالِ هذا الزّمنِ الأنطولوجيّ الكيانيّ، تتمُّ مُعالجةُ القضايا وِفقَ الذّاتيِّ العميقِ الهاربِ والرّافضِ في آنٍ، لقسريّاتِ التّعريفاتِ الجمعيّةِ حولَ الفلسطينيِّ واليهوديّ.
وهنا تأتي روايةُ (على شواطئ الترحال) لتُفنِّدَ قضيّةَ نقاوةِ العِرْقِ، فأبناءُ إبراهيم وسارة عمليًّا لا يَحملانِ هذا التّعريفِ في مفهومِ نقاوةِ العِرقِ العربيِّ أو العِرقِ اليَهوديِّ، وهنا تتحطّمُ السّرديّةُ المُتعارفُ عليها. ولمّا كانَ الأديبُ مُنشِئُ أدبٍ، ومُجيبًا عن سؤالٍ اجتماعيٍّ بمَفهومِ “ياوص”، فإنّ ما تفعلُهُ الكاتبة بربارة هو نوعٌ مِن الإجابةِ الّتي أبقَتْها في أحيانَ كثيرةٍ وعمدًا، غامضةً وغيرَ مُكتمِلةٍ، لتقولَ بشكلٍ غيرِ مُباشرٍ، إنّ القضيّةَ تحتملُ الإجاباتِ المُتعدّدةِ، وما روايتُها إلّا مساهمةً في رفعِ وعيِ القارئِ، بتلكَ التّفاصيلِ الهامشيّةِ العابرةِ العاديّةِ الّتي لا يَكترثُ الخطابُ السّياسيُّ والوطنيُّ الطّاغي لها، ولكن بربارة تحاولُ أنْ تُثبتَ للقارئِ، أنّ هذهِ التّفاصيلَ هي الأعمقُ والأكثرُ مَركزيّةً، في سيرورةِ حياةِ الفلسطينيّ واليهوديّ والصّراعِ القائمِ بينَهما.
جاء في كلمة الكاتبة راوية بربارة: هو ترحالٌ خفتُ أنْ تجوبوا معي فيهِ فلا ندُقُّ عصًا، ولا أرسو إلّا عندَ شواطئِ الوهم، وبما أنّكم شاركتُموني فرحتي في حفلِ التّوقيع هذا، لا بدّ أن أشاركَكُم حقيقةَ ما حصلَ قبلَ سنواتٍ، وحين أصدرتُ مجموعتي القصصيّةَ الأولى “شقائقُ الأسيل”، قالَ لي النقّاد اُكتبي شِعرًا، وقالَ آخرون اُكتبي روايةً، فأنتِ تجيدينَ الوصفَ والسّردَ، وقالَ غيرُهم “كتابةُ الشّبابِ بلا عنوانٍ”، فكيفَ تُصدِرُ راوية ثلاثَ مجموعاتٍ قصصيّةٍ ولا تؤطّرُها باسمٍ، أنا سأقرؤُها شِعرًا، قرأَها ونجَحَ، قالَ الثّاني: وأنا سأقرؤُها خواطرَ وصوَرًا قلميّةً، قرأها ونجحَ، وقال ثالثٌ: وأنا أقرأ الحداثةَ فيها، والرّابعُ قالَ: وأنا أراها نسويّةً بامتيازٍ، وآخرُ أعلنَ: “اللّغةُ هي البطل”. وأنا مِن هناكَ أراقبُ وأحاسبُ قلمي وأقولُ لهُ: “لا يَهمُّكَ”، أصلًا لو لم تَكُنْ جديرًا بالكتابةِ لكنتُ أنا بنفسي كسرتُكَ، فكم أحنو على الجميعِ إلّاكَ، لأنّكَ الوحيدُ الشّاهدُ والوحيدُ الخالدُ، لكن لا تفزعْ يا قلمي، فأنا مِنَ البدءِ أردتُكَ ألّا تُشبهَ أحدًا، وأردتُكَ مُنفلتًا حرًّا، “فمتى استعبدتُمُ الحبرَ وقد نَما وترعرعَ يَزهو ويُزهرُ ويَقطِفُ ياسمينًا وحبقًا؟”
صحيح بأنَّ قلق النمذجةِ لم يقلقني، ولا التأطير أطيقه، لكنّني حين قرّرتُ أنْ أكتبَ الرّوايةَ أعطيتُها اسمَها، لأنّها إمّا أن تكونَ أو لا تكون. كتبتُها وأجلْتُ سنةً، وكأنّني لستُ مَن أبدَعَها، وكأّنّهُ لا قرابةٌ ولا نسبٌ بينَنا، كنتُ أُحبُّها وأشتهي وأدَها، لكنّني كلّما نظرتُ في صفحاتِها، عاودَني الحنينُ والخوفُ يَتناوبانِ على قلبي، الحنينُ إلى معاودةِ العَلاقةِ بينَنا فأكتبُها وأُكمِلُها، والخوفُ مِن خوضِ هذا النّوع الأدبيّ، ولي رؤيتي الخاصّةُ، وسردي المكثّفُ، ولغتي الّتي هي أنا، والمَضمونُ المواجِهُ المُجابِهُ المُنطلِقُ مِن قساوةِ الواقعِ، والرّاحلُ عبرَ شواطئِ الحكايةِ، يَقصُّها للموجِ فينعفُها إلى الشّاطئِ ليَهدمَ بيوتَ الرّملِ، ويَحفُرَ أثرَ القلبِ على رمالِ البحار. كنتُ كلّما قلّبتُها أرغبُ فيها أكثرَ، وتَكبرُ العلاقةُ بينّنا حتّى قرّرتُ أنّه يَجبُ أن تكتملَ وأن ترى الضّوءَ وتسمعَ النّقدَ، وكنتُ قد أوصيْتُها ألّا تُجمِّلَ واقعَها، وأن تكونَ صادقةً، وقبلَ أنْ يَخفقَ قلبي بموعِدِ نشْرِها المُنتظَرِ، أعطيتُها لستّةِ أشخاصٍ أثقُ بقدرتِهم وبصراحتِهم، وأتتني إجاباتُهم مُتلهّفةً تنتظرُ النّهاياتِ، وكانتْ نهايةُ الرّوايةِ بدايةً.. ربّما أُكملُها يومًا.. وقد بدأتُ بامتشاقِ الحرفِ مِن جديدٍ، أُنازلُهُ ويُنازلُني، أُعاندُهُ ويُعاندُني فأمحوهُ عِقابًا لهُ، وأَخطُّ جديدًا لا يُشبهُهُ ولا يُشبهُني، باحثةً عن الحدثِ الّذي يُلامسُ الكثيرينَ، وعن الواقع المُخبّأ في قمقمِ المجتمعِ، أَفركُهُ فيَخرجُ ماردُ الكتابةِ، آمُرُهُ أن يملأَ لي العقلَ أفكارًا وأحداثًا، والقلبَ مشاعرَ وإحساسًا، لأنّني دونَ أنْ أعيشَ الحدَثَ والشخصيّةَ لا أستطيعُ الكتابةَ، لكنّ أجمَلَ ما حدثَ معي هو ردودُ الفِعلِ المُتهافتةُ عليّ مِنَ القرّاءِ، والّتي أبتْ إلّا أنْ تدُقَّ أوتادَها في خيمةِ الحكايةِ، فثبّتتْ رأيي، وبات كلُّ رأيٍ مُتلهّفٍ يَصلُني منكم هو كنزي وجواهري الّتي سأحتفظُ بها، إلى حين نقرّرُ معًا يومًا، يُعنوَنُ بانطباعاتِ القرّاءِ، فتَكونونَ أنتمُ الكتّابُ وأنتم القرّاءُ، وأنتم الحكايةُ وأنتم الشّواطئُ الّتي سترسو عندَها كلماتي!
[1] البياتي، 1996، ص 174.