عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس صدرت عام 2013 مجموعة نصوص للكاتب الفلسطيني سلطان ميّ،وتقع في 166 صفحة من الحجم المتوسط.
والقارئ لهذه النّصوص سيتساءل: هل يتوجّع الياسمين؟ وهل يتألّم الجمال؟ ما الألم الذي سيّطر على الكاتب عندما اختار هذا العنوان لنصوصه؟ وهل سينتصر الألم أم أن جمال الياسمين سيطغى على هذا الوجع؟ تساؤلات يثيرها عنوان الكتاب وغلافه الأسود القاتم الذي تظهر فيه زهرة ياسمين وحيدة مبللة بالندى.
ما إن نقتفي أثر النصوص التي خطها الكاتب، سلطان ميّ، حتى ندرك أننا أمام شخصيّة سوداويّة متشائمة لا ترى إلا الجانب المظلم من الماضي والحاضر، تجترّ الحزن والألم ولا تجد الفرح إلا في أحلامها، تهرب دوما من الواقع إلى الحلم. فالحلم هو طريقة الكاتب في الهروب من واقعه ووقاية نفسه من سقطة عنيفة في أتون الصراع النفسيّ الجارف الذي يجتاحه.
يصارع الكاتب رغبة مجنونة بالهجرة والهروب من الواقع، لكنه يتغلب على هذه الرغبة عن طريق الهروب إلى الخيال؛ حيث يعيش فيه مغامرات سعيدة مع معشوقة يصنعها بنفسه، ويفصّلها كما يريد، ويتحرر بعلاقته معها من كل القيم والحدود التي تحجمه في حياته الواقعيّة.
سلطان مي
يبدو أن الكاتب يعاني من صراع نفسي عميق، وحيرة تعصف به، فيترجمها بكلمات وأحلام متداخلة. فكلما اضطربت نفسه بتلك الأفكار المجنونة الهمجيّة التي تسبب له الوجع والألم، هرب منها إلى الحلم ليصدها عن طريقه، فيخلق قصة خيالية يعيش فيها مع فتاة من صنع أحلامه، تكون طوع يديه، يأخذ منها ما يريد، فيكون هذا الحلم العنيف ردا على عنف الأفكار والاضطرابات التي تعصف به.
يبحث الكاتب من خلال نصوصه عن ذاته، لكنه لا يجدها، فهو تائه بين أفكاره المتلاطمة، غير مقتنع بكل ما يدور حوله. يتساءل دوما لماذا ؟ وكيف؟ لكنه لا يجد الإجابة الشافية على سؤاله، فهو يعاني من عذاب نفسيّ عميق، يعبّر عنه بطرق مختلفة وفي أماكن مختلفة، فالحيرة تلفّه وتهزّ كيانه. وهو يخاف من المجهول ولا يستطيع أن يتوقع ماذا ستجلب له نفسه إنه هو تخلّى عن أحلامه وعن عالمه الموازي الذي يعيشه فيه بعيدا عن الواقع. فهو يخلق لنفسه في كل صباح أو مساء أو ليل فتاة ترافقه، فيتحول إلى عاشق مرهف الإحساس جريء الوصف، فيخلق صورة متحركة يصفها بأدق التفاصيل وكأنها تحدث في الحقيقة. هذه الأحلام تبعده عن الانتحار الذي ينساق إليه كثير من الشباب الذين يقعون في براثن الصراع النفسي والحيرة والقلق، فهو ليس أنانيا رغم تمركز كتاباته حول ذاته، فلن يسمح لجنونه أن يقوده للانتحار، ولن يهرب إلى الموت ويترك العذاب للآخرين، لكنه يختار بدل ذلك أن يهرب من الواقع إلى أحلامه الورديّة.
الشخصية المحوريّة في نصوص الكاتب هي الكاتب نفسه، فهو يبدع في وصف كل الخلجات التي تدور داخله، ويمعن في الحوار الداخلي الذي يدور في نفسه. يقوم بذلك بأساليب متعددة متنوعة ومبتكرة أحيانا، فهو تارة يناجي المرآة وتارة نراه يحاور صديقا أو يحكي عن جارة أو شخصا يقابله في مطعم ثم ندرك أن كل هؤلاء الشخصيات ما هم إلا الكاتب نفسه، يتحدث عن نفسه من خلالهم.
ولا يترك الكاتب القارئ في حيرة من أمره، فيشير بين السطور إلى الأسباب التي قد تكون أوصلته إلى هذه الحالة من اليأس والقنوط والسوداويّة. فهو من قرية مهجرة ويعيش في قرية أخرى لاجئا غريبا، وتعاني هي الأخرى من وطء الاحتلال، وقد عاش طفولة كان فيها ضعيفا ذا بنية جسدية هزيلة لم تكن لديه القدرة على مجاراة أقرانه في استعراضهم لقوتهم، فترك ذلك ندبا في شخصيته.
تبرز الروح الوطنية في بعض نصوصه، فهو ابن فلسطين مؤمن بعدالة قضيتها ناقما على المحتل. لكنه يرى أن الواقع الفلسطيني سيء جدا، تشوبه حالة الانقسام والتشرذم. ولا يبدو مؤمنا بوطنه أو أمته، بل يحكمه التشاؤم عندما ينظر إلى مستقبل الوطن، ويتحدث عن العمل الوطني الفلسطيني بطريقة ساخرة تهكميّة، فهو لا يرى إلا الجانب المظلم، ويغفل عن البطولات التي قدمها ويقدما الشعب الفلسطيني من أجل الخلاص من الاحتلال. وبالمقابل فهو لا يخفي أمله الخافت في زوال الاحتلال، فيقول في صفحة 95: “سأحل عليها لفترة وجيزة كالضيوف الحاليين المحتلين هنا.” ويتطرق بخجل إلى المواضيع الوطنية، مثل إضراب الأسرى عن الطعام، ونلمح قدرا يسيرا من لوم الكاتب لنفسه لانشغاله في أحلام العشق بعيدا عن تضحياتهم.
يكتب الكاتب بعفويّة ويطلق سجيّته على عنانها، فنراه أحيانا ينتقل من السرد إلى مخاطبة القارئ وكأنه شخص ماثل أمامه. ويبدع الكاتب في الوصف ورسم الصور المتكاملة المتحرّكة، فتراه يصف مشهدا عاديا، كأن يسير مثلا في شارع هادئ في الليل، لكنه يحوّل هذا المشهد بلغته الفنيّة وتشبيهاته وصوره إلى عالم خيالي مفعم بالحركة والحيويّة، فيستغل حركة الشجر أو القمر والغيوم لرسم لوحة فنيّة متحرّكة حتى أنك ترى المشهد أمامك كفيلم سينمائي متقن الإخراج.
في مقابل اللغة الفنيّة الجميلة التي استخدمها الكاتب، والتي يخفى معانيه من خلالها وراء الكلمات والنصوص، إلا أنه عندما يأتي لوصف الجنس يتخلّى عن ذلك ويبدو واضحا مباشرا دون تورية، يتعمّد الإخلال بالذوق والابتعاد عن الكلمات المهذّبة. وعندما اختار الكاتب أن يبتعد قليلا عن ذاته ويتحدث عن قضيّة وطنيّة في نص “لينا الفلسطينيّة” نرى الصور والرموز تتضاءل في هذا النص إلى حدّ كبير ويلجأ إلى اللغة التقريرية السردية المباشرة، خلافا لمعظم نصوصه.
وأخيرا فإن الكاتب يمجّد العزلة وكأنه يعيش مع نفسه وأحلامه بعيدا عن الناس الذين لا يؤمن كثيرا بقدرتهم على تغيير واقعهم، فهو يعيش نرجسيّة من نوع خاص لا تعني الاعجاب بالنفس بقدر ما تعني الانحصار داخل النفس والتركيز عليها ورؤية الدنيا من خلالها.