(أقيم في دالية الكرمل يوم السبت الماضي، حفلاً تكريميّا لثلاثة ممن فازوا بجائزة الإبداع في وزارة الثقافة لسنة 2014-2015، وهم الشاعر مجيد حسيسي، الكاتبة ناديا صالح والأديب، الشاعر وهيب وهبة.
الكلمة أدناه، هي ما قاله في وهيب وهبة، نايف خوري)
الإخوةُ جميعًا مع حفظ الألقاب، زيارة مقبولة أتمناها لكم، فلكم عندي في القلب مودة،
أهنئ الشاعرَ المعروف الأستاذ مجيد حسيسي بفوزِه بجائزة الإبداع وبعطائِه المتواصلِ في مجالِ الشعر والأدب، وأهنئ الكاتبة ناديا صالح لفوزِها بالجائزة وبإبداعاتِها الوفيرة.
وأحيي من القلب من قام بهذه المبادرة وأخصُّ الصديقَ الأديبَ والإعلامي فهيم أبو ركن، على هذه اللفتة الجميلة بتكريم ثلاثةٍ من المبدعين الذين برزت أعمالُهم وانتشرت في كل مجال وصعيد.
وبما أن من سبقني من المتكلمين، الدكتور بطرس دلة كبيرُنا، وبيان غضبان صديقُنا، قد تحدثا عمن يخصُّهُما، فأنا اخترت النصيبَ الأوفرَ لأتحدثَ عن الشاعرِ الحبيب وهيب وهبة.
كلنا يعرفُ وهيب، مكانَ ولادتِه ومسقَطَ رأسِهِ، وكم يبلغُ من العمرِ وما هي مؤلفاتُه وأعمالُه وخدماتُه، ويعرفُ عائلتَه الصغيرة والكبيرة، وحتى لونَ شعرِهِ ورقمَ هاتفِهِ، وأنه لا يحملُ الهاتفَ النقالَ في جيبِهِ.
ويعرفُه القاصي والداني بأريحيتِهِ، وكرمِهِ وحُسنِ خِصالِه، وسموِّ أخلاقِهِ وعُلوِّ شأنِهِ، ورفعةِ مكانتِهِ بين أهلِ البلدِ وأهلِ العلمِ والقلم.
وأما أنت يا صاحبي ونِعمَ الصاحبُ، ويا صديقي ونِعمَ الصديقُ، بماذا أخاطبُك، أو ماذا سأقولُ لك، أإنك شاعرٌ وأديبٌ من هذه البلدةِ المِعطاء؟ أم حاصلٌ على اللقبِ الجامعّي في علمِ التربية؟ أم عضوٌ في دارةِ الشعرِ المغاربي، أم كُتبَت عنك دراساتٌ جامعيةٌ وعن شعرِكَ النثري؟ أم عن أعمالِكَ وترجماتِك الغنيةِ والوفيرة؟ أم الجوائز التي حصدتَها وتُشرّفُ كلَّ من حملَها؟
كلا يا صاحبي هذه المرة، لا هذا ولا ذاك، لا هذه ولا تلك. فكيف نقطِفُ الندى عن الزهر؟ وكيف نَمسكُ بالكواكبِ في كبدِ الفلكِ؟ كيف تشرئبُّ أعناقُ البراعمِ حتى تنبثقَ من أكمامِ زهورِها؟ كيف ننطلقُ معك في غياهبِ الفكرِ ودهاليزِ المنطقِ حتى نسبُرَ أغوارَ الروحِ الخالدة؟ كيف نقبِضُ على صهوةِ الريحِ العاتيةِ ونلجُمُ اندفاعَها؟ كيف نُدركُ أنك تسمو فوقَ الصحاري وتتمسّدُ فوقَ الرمالِ، وتتسفعُ تحتَ شَمسِ الحقيقة؟ كيف نتبعُك في مساراتِ الأنهارِ والجداولِ التي لا تنتهي؟ كيف نَنظرُ إلى أمواجِ السَّرابِ وعبقِ الأثيرِ المنبعثِ من شِعرِك؟ كيف نهتدي إلى هُيامِك بالروحِ وولعِك بالمنطق؟
فأنت يا صاحبي، وصاحبُنا، يا من غمرتَنا بسنابلِ خيراتِك اللغوية، ودُرركَ التاجيّة، يا من جعلتَنا نعبُر على جسورِك إلى نعيمِ العطاءِ، وأفضتَ علينا من قبَسِ محبتِك وجنّاتِ وُدّك.
أنت يا من حملتنا على مَنكبَي القصيدة من أقصاها إلى أقصاها، وفتحت لنا شغافَ القلوبِ وحسراتِ الماضي وحنينَ التاريخ.
أنت ألبستَنا سُترةَ النجاةِ في خضمِّ شعرِ الأزل، ولم تزلْ تبعثُ بنا مع الأنواءِ إلى الجهاتِ الأربع، وتقول خذوا وكلوا، خذوا واشربوا.
أنت يا ربيعًا مُخضرّا، وزنبقةً دائمةَ البياض. يا فرحًا لا يذبلُ وكأسًا تفيضُ خيرًا. يا ابتهاجَ الروحِ والنفسِ، وجوهرَ المُعتقد. يا كنزا شعريًا لا ينفد ومَعينًا لا تنضب مياهُهُ. يا جدولا عذبًا يترقرقُ فوق الوجوهِ. يا بئرا عميقةً لا تبلغها دِلاءُ المُنكِرين. يا أقحوانةَ الحقولِ وعوسجَةَ الأودية. يا نسمةً باردةً تلطّفُ لظى السَّعير، يا دفئًا يَقي برودةَ السُّكون، يا مجبولاً بالخيرِ ومعجونًا بخمير البرّ ومخبوزا بالمسرّة. يا راسمًا البسمةَ على مُحيّانا بابتسامَتِك الساحرَة. يا تصفيقا لا يكفُّ بأكفٍ لا تتخدر.
أنت يا صاحبي، ونعم الصاحب والصديق،
ماذا أقولُ عن كتاباتِك، عن أفكارِك، عن شِعرِك وعن نَثرِك، أأقول إني شاطرتُك المشاعرَ والأفكارَ والأحاسيسَ عندما وضعنا مفاتيحَ السماء؟ مَن يحملْ مفاتيحَ السماءِ سوى بطرس، وأنت البطرسُ الذي يحملُ مفاتيحَ القلوبِ ويفتحُ مغاليقَ العواطفِ. وأنت المجاهدُ الذي يُعلنُ المُقاومَةَ في وجهِ الظلمِ والحِقدِ والفسَاد، وأنت الذي تُشهِرُ قلمَكَ سيفًا مُجردًا من غِمدِه لكي تدحَرَ الظلامَ والجهلَ. وأنت الذي تُفضِي إلى النورِ السرمدي، إلى السكينةِ الوادعة، إلى الجمالِ المُطلقِ، إلى عَنانِ السَّماءِ، فساكنتَ بروحِكَ الملائكة، ورافقتَ أُردُنَّ يوحنا المعلم، وطفت في أنحاءِ جليلِ الأممِ مبشرًا بالخيرِ والصِّدقِ والمَحبةِ، وأُفيضَ عليك مِن نِعمِ الخالقِ فكرًا وحسَّا وروحًا. خِلتَ نفسَك تداري الأنبياءَ والرسلَ والصالحين، وإذ بهم يشدونَك من تلابيبِكَ ويُعلنون على المَلأ وأمامَ القُدراتِ العَظيمةِ، أنك ستحملُ صليبًا على مَنكبيك، صَليبَ الذي تعذَّبَ وتألمَّ، صَليبَ بلدِكَ وشَعبِك، وعائلتِك، صَليبَ جسدِك الذي كانَ يعتلُّ أحيانًا ويَسقًمُ أحيانًا ويَبرَأ أحيانا، إنه صليبُ الحياةِ التي يجبُ أن نَصلُبَ عليه مَفاسدَنا، ونُعلقَ عليه آثامَنا، ونَدفِنَها إلى غيرِ رجعةٍ.
أنت يا صاحبي ونِعمَ الصاحبُ، أنت يا صديقي ونِعمَ الصّديقُ،
مُذ عَرفتُك، والسّنونُ طِوالٌ، نضَحَت منك إماراتُ الخيرِ، ورَشحَت من كَلماتِك نُظمُ المَحبةِ، وفَاضَت في شِعرِك خَيراتُ العَطاءِ والنّعمِ، فلَم تَبخلْ بكلِمةٍ جَميلةٍ، ولَم تَضِنّ بجُملةٍ رَشيقةٍ، ولم تُقتِر مَقولةً مأثورةً، بل مَنحتَ قَصيدَتَك كلَ الحُبّ وكلّ الخَيرِ وكلّ النّقاء.
مُذ عرفتُك، والسنونُ طِوال، تُهتَ بي في البراري والصحارى، ارتقيَتَ بي إلى شموخِ الجبالِ واعتزاز الكرمل، مَضيتَ بي إلى ينابيعِ الحُبّ المُتدفِقِ، أرّقتَني من سُهادِ الغَفلةِ وطَرفَة الجُفون، أيقظتَني من نفسِي الحائرة، أرشَدتَني إلى النّقطةِ على الحَرف.
فيا ساكنًا جسدي، ويا مُستوطنًا روحي، جَعلتَ قلبي لك مقرًا، واهتدت أفكاري من نِبراسِك. يا مستحوِذا على الكلمةِ، وجارفًا من معانيها وأبعادِها، يا مُمسِكًا بناصيةِ الحَرفِ في بيتِ القصيد، يا مُقيمًا حارسًا على فمِكَ ورَقيبًا على بابِ شفتيك. يا مُنطلِقًا في سُهوبِكَ، ومُغرّدًا على أفنانِك، نقّل فكرَكَ حيث شئتَ، وهاتِ من ينابيعِ الابداعِ والجَمالِ.
أنتَ أيّها الديوجينُ الجديدُ، الذي يحملُ مِصباحَه في وَضَحِ النهارِ ويسيرُ في طُرقاتِ العالمِ في عِزّ الظهيرةِ باحثًا عن الإنسان. أنت أيّها السّائلُ دومًا وأبدًا عن السّعادةِ التي يجبُ أن تعيشَها، أنتَ أيها المَوهوبُ الوهيبُ، أيّها المتوهّجُ دِفئًا والمُتدفقُ عَطفًا، أتحَفتَنا برحلَتِك البحريّةِ مع المجنونِ، وأغنيتَنا بخَطواتِك فوقَ جسدِ الصّحراءِ، وحَمّلتَنا مَفاتِيحَ السّماء، وأخيرًا قرّبتنا من الجّنة.
فمُنَّ علينا أن نَبقى مِن مُريديكَ الدّائمين؟ ومِن سُعاةِ مَجدِك المُجاورين؟ لأننا سنُعلنُ أننا من مُحبيك الدائمين، وأننا من المُتذوّقين لِشعرِك الرّصين، وأننا من الشّغوفين بإبداعِك المُبين، وأننا بخيراتِ قلمِك من الطامعين، والصّلاةُ والسّلامُ على السّادةِ والأنبياءِ المُرسَلين والصّالحين من الآن إلى دَهر الداهرين.