هذه هي المرّة الثالثة خلال الحرب العدوانيّة على سوريّة التي يُزج مخيم اليرموك في أتونها بدءا بخريف عام 2012، بعد أن أدارت لسوريّة ظهر المجن قيادات فلسطينيّة إذ اكتشفت أن أكناف بيت المقدس على حدود الشام، فهذه المحاولات المتكررة لزجّ الفلسطينيين في الأزمة السوريّة هي محاولات دنيئة “زندقيّة” لم تجيء بمحض صدفة وإنما ثمرة مخطط وليد تفكير تآمريّ جهنمي مدروس.
كتبت هذا الكلام ومثله في المرّات السابقة وأعود لأكرره ليس من باب “فشّة الخلق”، وإنما من باب لعلّ من يرعو منّا نحن الفلسطينيّين الذي ما زال ينظر إلى سوريّة الدولة بشعبها وجيشها وقيادتها ليس من باب مواقفها، وإنما من “الطاقات” الطائفيّة والمذهبيّة التي دخل ساحاتنا منها كلّ أعداء الأمة يعيثون فيها فسادا، ودوابهم من لدّنا.
الموقف السوريّ قيادة وغالبيّة عظمى شعبا من القضيّة الفلسطينيّة، والقناعة السائدة على الأقل عربيّا وإسلاميّا شعبيّا وإنسانيّا تنويريّا أن سوريّة تدفع اليوم ثمن مواقفها من هذه القضيّة اللب، وبالتالي فتعاطف كل من تعزّ عليهم قضيّة فلسطين مع سوريّة في دفاعها عن موقعها وموقفها وأهلها هو ورقة رابحة جدّا في يد القيادة السوريّة اكتشف عرّابو المؤامرة وأسيادهم أنه يجب إسقاطها وحرقها، هذا من ناحية أمّا من الأخرى فإن صمود وانجازات الجيش العربيّ السوريّ وأبعادهما كذلك على القضيّة الفلسطينيّة، القضيّة اللب الأم البوصلة في الصراع الشرق أوسطي، هو ورقة أربح أقضّت مضاجعهم الدافئة، كذلك يجب إسقاطها بحرقها.
حرق هذه الورقة لن يتأتى إلا إذا كان جزء من مهرها دماء الفلسطينيين في اليرموك والرمل والنيرب، ولذا لا بدّ من زجّهم في الأتون، ويتكفل فجّار الأرض من رؤساء وملوك وأمراء وسلاطين وشيوخ وإعلاميين بتحميل الجيش السوريّ وزر هذه الدماء حتّى لو أسالها فلسطينيّو مولد تكفيريّو انتماء وحلفاؤهم من رُعاع أصقاع الأرض.
بغض النظر عن حيثيّات ما جرى هذه الأيام في مخيم اليرموك، لهذا الجزء الذي اقتطع قاطنوه من لحمنا نحن الفلسطينيين عام 1948، وبغض النظر عن المواقف الفلسطينيّة المرتبكة، لكن لنقولها على الملأ: لم يكن ليتأتى دخول الإرهابيين المخيم لا سابقا ولا اليوم لولا أن تراخى البعض فيه وتبيّن لاحقا أن هذا التراخي لم يكن إلا “خيانة خبز وملح”، وزُجّ مخيم اليرموك في أتون الحرب القذرة على سوريّة، ولكن القيادة السوريّة عرفت كيف تخرج من هذا المطبّ رغم اعتقاد البعض أنها ربّما خسرت بعض النقاط على المدى القريب، واكتفت بمحاصرة المخيّم دون الدخول إليه.
رحم الله المناضل ناجي علّوش والذي فارقنا قبل مدّة ليس قبل أن يكشف حقيقة ما جرى في مخيم تل الزعتر في لبنان وكيف حّملت سوريّة وقيادتها وزر المذبحة والجيش العربيّ السوريّ منها براء. المحاولات المحمومة لزج الفلسطينيين في الأتون لم تولد مع دخول أدوات هذه الحرب العدوانيّة المخيم هذا الأسبوع والذي كان هدفها وما زال تل زعتر آخر لإسقاط الورقة الفلسطينيّة الرابحة في يد سوريّة قيادة وجيشا وشعبا على مدى التاريخ.
القضية الفلسطينيّة هي اللبّ من قضايا المنطقة وبالتالي اللب من الصراع العربيّ الغربيّ ورأس حربته إسرائيل، كانت وما زالت وستبقى رغم ما اعتراها سابقا ويعتريها اليوم من محاولات وأد. عرّاب وأدها كانت وما زالت الجامعة العربيّة، لولا أن أزاح الشعب الفلسطيني بكل أماكن تواجده ومعه بعض الدول العربيّة القليلة كمصر في عهد عبد الناصر وسوريّة في كلّ عهودها، تراب الرمس عن وجه القضيّة لتبقى حيّة وتنطلق من تحت التراب.
الشعب السوريّ لم يبخل يوما على القضية الفلسطينيّة بدماء أبنائه لا في ثورة ال-36 ولا في حرب النكبة في ال-48، وما زالت شواهد قبور أبنائه بدء ب- (دير الغصون- قلقيلية) مرورا ب- (سانور – نابلس) وانتهاء ب- (هوشة والكساير-شفاعمرو) شهودا. ويكفي أن نذكر كذلك أن عصب الثوار الفلسطينيين في الثورة الفلسطينية الأولى عام 1929 (الكف الأخضر) كان من الشباب السوريين، وأن أهم معركة خيضت في ثورة ال-36 وبشهادة مصادر صهيونيّة (بلعة) كان عصبها الشباب السوريين، وهكذا في ال-48 في معارك هوشة والكساير واللطرون وبنات يعقوب (مشمار هيردين) وسمخ (دغانيوت).
هذا تاريخ قديم نسبيّا أما في التاريخ الحديث ففقط من هو فاقد بصر وبصيرة أو عبد يستطيع أن ينكر أن سوريّة تدفع في هذه الحرب العدوانيّة القذرة ثمن موقف قيادتها من القضيّة الفلسطينيّة، بدء بمفاوضات ما بعد حرب تشرين 1973 وعدم دخولها كامب ديفيد السادات مرورا بحروب لبنان (الفلسطينيّة) واحتضان المقاومة الفلسطينيّة رغم أن في شقّها ظهر وكأنها كما احتضن أفعى، وكل ذلك رغم ما اعترى العلاقات السوريّة الفلسطينيّة من أزمات خلال هذه الفترة، وانتهاء بدورها في وأد محاولة الوأد الأخيرة للقضيّة في قمّة بيروت ال-2002.
اللاجئون الفلسطينيّون في سوريّة هم الوحيدون من أهل الشتات الذين لم تُضع قيود حياتيّة عليهم، فتقاسم الشعب السوريّ لقمته ومكان عمله ومقعد دراسة أبنائه معهم دون منّة. عندما زرت سوريّة للمرة الأولى في العام 2000 للاشتراك في أربعين الرئيس المرحوم حافظ الأسد وأثناء تجوالي مع بعض أعضاء الوفد في الشآم احتجنا سيّارة نقل تفاجأ السائق أن يرى عربا من ال-48 في سوريّة، ولكن المفاجأة الكبرى أن حين ترجلنا رفض السائق رغم أنه كان باد عليه ضيق الحال وعلى الأقل من حال السيارة، أن رفض تلقي الإيجار وبإصرار، أمام إصرارنا من الناحية الأخرى قال: “أنا ملازم متقاعد قضيت حياتي مستعدا لدفع دمي لفلسطين فكيف سآخذ منكم ثمن هذه الخدمة؟”، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ ما الذي أصابنا في هذا الموقف !
هذا هو وجه سوريّة المتآمَر عليه اليوم والتي تستحق منّا نحن الفلسطينيّون أكثر كثيرا من موقف في هذه الحرب العدوانيّة التي تتعرّض لها من كلّ حثالات الكرة الأرضيّة، ومع هذا أحسن أخوتنا اللاجئون الفلسطينيون في ربوعها الخيار باتخاذ موقف عدم التدخّل في هذه الحرب العدوانيّة وليس من باب ما تصح فيه التسمية “زندقة اللغة – النأي بالنفس”، فلا يمكن أن يكون وطنيّ أو قوميّ أو عروبيّ بمنأى عمّا تتعرض له سوريّة بموقف على الأقل.
لا مصلحة سوريّة وبالمنطق البسيط، في هذه الحرب العدوانيّة أن تسقط شعرة طفل فلسطينيّ، ولذا فالمحاولات المحمومة هذه لزج الفلسطينيين هي الزندقة بعينها وعرّابوها هم نفس عرّابي الحرب القذرة على سوريّة ورغم دلالات الإفلاس فيها، إلا أنه على أخوتنا الفلسطينيين والسوريين قطع دابر هذا المركّب من المخطط الجهنميّ وسدّ هذا الباب على الزنادقة هؤلاء ونحن على ثقة بأنهم قادرون.