في علم الحياة والتجارب والأمم والشعوب، في علم السلوكيات والتصرفات والمعتقدات، في علم الطبقات البشرية في المجتمع، هناك قاعدة معروفة عندما يكون هناك خصام بين اثنين تنقطع العلاقات، ويكون التجاهل بين الاثنين.. حتى في عالم المراهقة تصبح المماحكات بين بعضهم البعض طريقًا لتثبيت الخصام والتأكيد على عزة نفس الواحد على الآخر.
لكن في علم السياسة العداوة تختلف، لأن كمية الأقنعة وعلب المكياج التي تتكوم على طاولة الرئيس وباقي الوزراء والمسؤولين في الدولة تستطيع اخفاء العداوة من أجل مصالح دولتهم، ونرى يوميًّا مئات الصور الرئاسية والوزارية التي تندلق من مزاريب النفاق لتصب في أحواض المصالح.. ولعل أهمها المصالح الاقتصادية.
الاقتصاد اليوم هو العنوان الرئيسي لكل دولة، والدولة القوية هي التي تجعل نجاحها في رفع همة اقتصادها وتصدير منتجاتها المميزة، ونعرف هناك التصدير الفقير والتصدير الغني.. تصدير الصناعات الثقيلة والالكترونية ليست مثل تصدير المربَّى والعصائر والبسكويت.
وعلى مر التاريخ كانت الشعوب تعرف قيمة الاقتصاد و تأثيره على دول الاستعمار التي تحتل شعوبا وتقوم بنهب ثرواتها من اجل اسعاد شعوبها هي، لذلك عندما طلب الزعيم الهندي غاندي من شعبه أن يقاطع البضائع البريطانية، نجح في المقاطعة وتم ضرب تجارة الملح والقماش مما أثر على الاقتصاد البريطاني، وتأكيدًا على مقاطعة القماش كان غاندي يحمل معه مغزل الصوف في كل مكان كي يغزل ثيابه، وشعوب امريكا اللاتينية قاومت جبروت امريكا بمنع استيراد منتجاتها، وبقيت تناضل عبر انتاجها الفقير.
من يدخل الى حوانيت ودكاكين الضفة الغربية، يجد الرفوف مكتظة بالبضائع الاسرائيلية، والدعوة لمقاطعة البضائع الاسرائيلية لم تجد الآذان الصاغية، قد نجد هنا وهناك بعض الاستجابات في بعض الحوانيت لكن الموقف العام ما زال مترددًا، حتى قطاع غزة المحاصر انطلقت منه عدة تقارير مصورة تبين احتلال البضائع الاسرائيلية للأمكنة والرفوف في الدكاكين الغزية. وهذه المسألة عليها نقاشات عديدة، والاحتلال وطد العلاقة مع السلطة الفلسطينية عبر التنسيق الأمني والتهاون، ومن الصعب تفسير ذلك في العلم الاحتلالي الاستعماري. فدائمًا علاقة الاحتلال مع الشعب المحتل هي علاقة القامع والمقموع، القوي والعاجز، وسياسة القبضة الحديدية واغلاق المنافذ طريقة مؤكدة لانعاش اقتصاده، الذي يكون مغلفًا بالسيطرة والقوة ومنع الشعب المحتل من التحرك والتفكير حتى يبقى أسيرًا في قبضته، لا يستغني عنه. وكلما ازداد قمعه ازدادت وحشية اقتصاده و جشعه، وتمسك أكثر وأكثر بمقاليد الاقتصاد حتى يطبق على خناق الشعب.
دخلت مجمَّعًا تجاريًا كبيرًا في احدى المدن اليهودية، وبينما كنت أنتقل بين الرفوف لفت نظري بضاعة غريبة، اقتربت، حلاوة السعودية… منذ متى تنتج السعودية الحلاوة..؟ عصائر الصباح انتاج الامارات العربية.. طناجر للطبخ من صنع قطري.. معلبات المخللات من انتاج الامارات العربية، مربّى التوت والتين والبرتقال.. صنع في مصر، أسماك التونا صنعت في تونس.. بيرة مصنوعة من ماء الشعير صنعت في بغداد.. وغيرها من المنتجات التي غُلفت بالألوان البراقة.
الرفوف تشير بأصابعها الى البضائع عبر العناوين العربية، في عالم البيع والشراء لا يوجد تساؤل، ولكن حين نجد دولًا لم تعقد صلحًا مع اسرائيل، لكن بضائعها موجودة على الرفوف ماذا نفسره؟ قد تقولون التجار والتجارة.. لكن وجود البضائع يدل على تغلغل اسرائيل في هذه الدول حتى تعرض بضائعها أيضًا.. لو كانت هذه الدول عدوة لما سمح الشعب اليهودي بوجودها على رفوفه.. ثم هذه الدول تعرف أن منتجاتها تصل الى اسرائيل وتعرض وتُشترى.. واذا سارت التجارة الاقتصادية اختفت العداوة السياسية..!!
العلاقات التجارية الاسرائيلية العربية تسير على طريق من حرير، والذين يسافرون الى دول الخليج لعقد صفقات تجارية وفتح مكاتب هناك يتناسلون ويتكاثرون، بدون حواجز بدون حدود كهربائية، والطيران العربي الخليجي يهبط في المطارات الاسرائيلية، وقد شوهدت عدة مرات سيارات خليجية تتجول في الشوارع الاسرائيلية. كل شيء يتم في اطار العلاقات الاقتصادية، ولم تعد تشكل هذه الدول العداوة، العلاقات اليوم تشرب العصائر وتأكل المربى وتنام في العسل.. والبضائع الاسرائيلية تتواجد فوق الرفوف العربية تحت مسميات وشركات عديدة، والحكومات تعرف وتراقب بفرح هذا التوطيد ولم يعد في الحلق مساحة لقليل من مرارة المواقف السياسية.
في الخمسينات والستينات عندما كانت بوابة مندلبوم بين القدس الغربية والقدس الشرقية هي مساحة لقاء المسيحيين الفلسطينيين مع اخوتهم في القدس والضفة الغربية والاردن، كان البعض حين ينتهي من لقاء أحبته يشتري بضائع عديدة، أقمشة، فناجين شاي أو قهوة، اباريق، شمسيات.. ساعات.. اقلام وغيرها وعندما يعود الى بلده اما يبيعها أو يهديها، أذكر بقي عندنا طقم فناجين قهوة حيث أسفل كل فنجان كتب صنع في بيت لحم، بقينا نعتز بطقم الفناجين ولا نستعمله حتى أصبح كأنه تعويذة تحمي البيت، كنا نشم في طقم الفناجين رائحة الغربة واللجوء والاشتياق والحسرة والفقدان، مشاعر خليطة، لكن كنا نشعر أيضًا بالاعتزاز اننا نستطيع التواصل بين بعضنا البعض، ورغم الفقر عندهم مصانع تنتج.
لكن أمام رفوف المتاجر اليهودية التي حملت المغلفات والعلب والتنك القادمة من الدول العربية غير العدوة بل الصديقة، كنت أشعر بالخزي من هذه العلاقات التي فضحت أولًا عناوين محتوياتها، حيث العجز العربي المخجل في الصناعات.. السعودية بملياراتها وثرواتها.. تنتج الحلاوة.. وقطر طناجر ومصر مربى.. لا يوجد صناعات ثقيلة، آلات، سيارات، ماكنات للصناعة، طائرات، أسلحة.. الخ وأيضًا امسكت بخيوط العلاقات التي تمتد حتى تصل الى اللقاءات الرئاسية علنًا أو في الخفاء، كل شيء اليوم مفتوح، واللقاءات قد تلتقطها كاميرات التصوير، وقد لا تعرف بها لأنها تهرب من العيون، لكن في النهاية الرفوف في المتاجر تكون أصدق من مئات الخطابات والبيانات التي تحاول القول إن اسرائيل ما زالت عدوة.
لم تعد اسرائيل دولة عدوة.. بل هي دولة صديقة لجميع الدول العربية، وبدون مزايدات.. وقد دفنا الارشيفات والقرارات التي كنا نكتب فوق سطورها حقدنا وكرهنا لإسرائيل، والرفوف التجارية ليست رقصة الحنجلة الأولى، مؤكد أن هناك الكثير من الرقصات.
حتى قرار مؤتمر القمة العربية في الخرطوم عاصمة السودان، أو قمة اللاءات الثلاث بعد حرب 67، لا صلح لا مفاوضات لا سلام مع اسرائيل.. تحول الى مسحوق غسيل غسلنا به الدشاديش التي ظهرت ناصعة البياض في مؤتمر قمة (عاصفة الحزم ) في شرم الشيخ.
واذا قالوا خذوا اسراركم من صغاركم، نقول اللي بفضح اسرار الدول العربية هي المنتجات على الرفوف الاسرائيلية.