قبل مدة استضافتني الإعلامية سوزان نجار في برنامجها الأسبوعي “لمن يجرؤ” والمذاع من صوت راديو إسرائيل بالعربية.
وصلت إلى مبنى الإذاعة في حيفا واستقبلت من قبل طاقم العاملين هناك بحفاوة واحترام؛ عرفت بعض مستقبليّ من قبل، وتعرّفت إلى الآخرين مع فنجان قهوة وحديث عابر، كما يليق بهذه المقامات وما يفرضه سحر الكرمل وعروسه الأبدية.
بعدها انتقلت إلى استوديو متواضع، وفيه واجهت على مدار ساعة من الوقت أسئلة مضيفتي التي تناولت رزمةً من المحاور وتطرقت فيها إلى العديد من القضايا العامة الساخنة:السياسية والاجتماعية.
أذيع البرنامج كلّه على الهواء مباشرةً، علمًا بأنني لم أطّلع على الأسئلة مسبقًا، ولم يقيّدني أحد بإجاباتي، التي قيلت بكلام عربي فصيح وواضح، على عرض المساحة التي أتاحها هواء الحريّة الزرقاء وبحر حيفا الجميل كذلك.
انتهى البرنامج، وتركت حيفا حائرًا. فماذا حصل في راديو اسرائيل بالعربية؟ في الماضي كان محظورًا على أمثالي أن يشاركوا في هذه الإذاعة/البوق الدعائي للمؤسسة الرسمية، واليوم يتاح لي ولكثيرين أمثالي المشاركة والحديث على الهواء بحرية غير مشروطة، لساعات، بدون رقيب ظاهر أو حسيب متخف؟ فماذا جرى؟
في هذا الأسبوع شهدنا حدثين بارزين؛ فكما في كل ثلاثين من آذار تهافتت علينا أخبار يوم الأرض، بما يسبقه من نقاشات مكرّرة، صارت مستهلكة حتى التعب، كحكايات باب الحارة، والثاني، زوّدتنا به الكنيست الإسرائيلية؛ فهل سيقف النوّاب العرب عند إنشاد “هتكفا”؟ وكيف ستكون ردود أفعال قادة الجماهير العربية المنتخبين حديثًا في هذا اليوم الاحتفالي، وقد سعوا إليه بكل طاقاتهم وأحلامهم، فحضروا وعائلاتهم/أعزاءهم ليقطفوا من قفار أورشليم البهية شهدها المشتهى وجاههم المستحق.
فعّاليّات يوم الأرض انتهت كما كان مُقدَّرًا لها، ومثلما يحدث عندما يحتفل العرب في مناسبات يدمن منصّاتها القادة والوجهاء، ويستلذ بعض الشعب على تجرّعها كما يستلذ الطفل شرب الدواء المضاد للكحّة. مسيرة قرى مثلث يوم الأرض، (عرابة، سخنين، دير حنا)، ذكّرتنا، بما يخزّنه شعبنا من طاقة هاجعة، لكنّها بدت معقولة إذا ما قارنّاها بأختها التي أقيمت في مدينة راهط الصحرواية، التي كانت فيها المشاركة هزيلة، كما شاهدنا وكما وصفها أحد القادة المخذولين، حتى يخيل أن أعداد القياديين الذين تراصّوا في الصفّين الأماميين تعادلت، مع أعداد قلة تبعتهم، من أبناء النقب الذي يعاني من عنصرية إسرائيل واضطهادها.
لم تسترعِ أحداث يوم الأرض اهتمام المؤسسات القيادية ولا انتباه الأحزاب والحركات العربية والإسلامية، فلقد مرّت تفاصيلها بهدوء بارز وروتينيّة، مثلما مرّت في الأعوام السابقة، أو ربما قد ميّزها هذه المرّة وأضاف عليها قليلًا من الرمادية، تزامنها مع تداعيات معركة الانتخابات الإسرائيلية وتعيين يوم الواحد والثلاثين من آذار كيوم القسم للأعضاء المنتخبين والاحتفال.
مرّة أخرى زجّنا “الأمل” الإسرائيلي في مأزق، ودارت التساؤلات وكثر اللغط؛ فهل يتوجب على نواب المشتركة أن يبقوا في القاعة عند إنشاد “هتكفا”، نشيد الدولة الوطني؟ فإذا بقوا، كيف عليهم أن يتصرفوا؟ لقد قرر الأعضاء أن يتصرف كل واحد منهم كما يرتئي ويراه صوابًا، فترك بعضهم القاعة، بعد أن أقسموا يمين الولاء للدولة، وبعضهم قرر البقاء، محتجين بأطباق شفاههم ومعلنين رفضهم للنشيد ومعانيه الصهيونية المُقصية لكل عربي وغير يهودي.
لم يثر موقف نوّاب القائمة المشتركة عاصفة في الشارع اليهودي، على الأقل ليست كتلك التي أثارها صمت قاضي المحكمة الإسرائيلية العليا سليم جبران، عندما تعمّد إظهار صمته بينما أنشد جميع قضاة المحكمة العليا ومن معهم على المنصة، نشيد “هتكفا” محتفلين بتعيين القاضي آشر جرونيس رئيسًا للمحكمة العليا في شباط عام ٢٠١٢.
أثار موقف القاضي جبران، في حينه، عاصفة شديدة، لا سيما في الأوساط اليمينية التي انبرى ناطقون عنها بالتهجم عليه والمطالبة بطرده من سلك القضاء. موقف القاضي جبران شكّل، برأيي، محطة مفصلية في العلاقة بين المواطن العربي في إسرائيل وتفاعله مع نشيد الدولة الوطني، فبخلاف ردود فعل الساسة والمواطنين العرب إزاء هذا النشيد، كان موقف قاضي المحكمة العليا جبران، تراجيديًا، وذلك لأنه أجبر عمليًا، كثيرين من قادة الدولة، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة نتنياهو والوزير ياعلون، وقضاة في المحكمة العليا، على الامتثال، علنًا، وإعلان تضامنهم مع القاضي جبران وتأكيدهم على دعمه وتفهّمهم لموقفه.
مضت ثلاثة أعوام على تلك الحادثة، وها هو القاضي جبران يعيّن رئيسًا للجنة الانتخابات الإسرائيلية العليا، بما يخوّله هذا المنصب من صلاحيات واسعة وحاسمة. لقد نفّذ مهامه على أحسن وجه وحظي بإطراءات جامعة، وقد تستدعي هذه التجربة مقالة منفردةً، ولكنني أسوقها لأنني أرى أنها ذات علاقة بتساؤلي الذي تركته في مبنى الإذاعة الإسرائيلية في حيفا.
فماذا جرى في هذه العقود الخالية؟ هل وصلت إسرائيل إلى درجة كافية من ثقتها بقوتها وبكيانها؟ هل حقًّا تخشانا كما يحاول ساستها أن يوهمونا ويوهموا العالم أيضًا؟ هل نحن المواطنين العرب، نخيف إسرائيل حقًّا؟ أم هي بالواقع تفتعل خشيتها منا، وتصنّع هذا الخوف المفتعل ونحن نضيف أحيانًا على نارها نارًا وزيتًا؟
فالإذاعة الإسرائيلية ما زالت وسيلة لبث مواقف اسرائيل الرسمية، وكما كان نشيد “هتكفا” لحظة تجلٍّ لنصر الحركة الصهيونية على العرب، ما زال، بقدر ما يعكسه من تحقيق حلم، يشكل كابوسًا لمن هزم وهجّر وسلب، وأخيرًا، لم تكن،المحكمة العليا الإسرائيلية ملجأً منصفًا للمواطنين العرب وللفلسطينيين، بل قد سوّغت بكثير من قراراتها سياسات القهر والعنصرية بحق من استنصرها وخذلته،
ومع هذا كله يبقى التساؤل ماذا جرى لإسرائيل ولنا، نحن المواطنين العرب؟
قد يأتي يوم وتحتفل فيه كنيست إسرائيل بيوم الأرض، فإسرائيل تشعر أنها دولة قوية والعرب ضعفاء وغير مستعدين. لقد أرادنا قادة إسرائيل حطّابين وسقاة ماء وفشلوا، ولكن هل سيتعلم قادة اليوم حكمة الآباء و ذلك الحطّاب الذي قال: لو خصّصوا لي ثماني ساعات للحطابة، لخصّصت ست ساعات منها لسن شفرة بلطتي، وخرجت إلى الغابة.
لقد قال للحطابة وليس للخطابة.
فللقادة الجدد والعتق ألف مبروك، وأهلًا بكم في هذه الغابة.