قصة “حياة” للقاص محمد علي سعيد و يمكن اعتبارها من انجح القصص المحلية فنيا ، وهي بالتالي من انجح القصص التي أبدعها القاص ، فأحداث القصة الإطار ، تحدث في مكان مغلق هو بيت الشيخ أخي المختار ، حيث يختبئ فيه التأثر علي المحمود ويحيطه الجنود طالبين من الاستسلام ، وما يجعل هذه القصة تمتاز عن الكثير من القصص المحلية التي اتخذت مثل هذا الحدث إطارا لها ، إن وظيفة الإطار مهمشة ولم تتحول لتطغى على شكل شعارات لتفريغ المشاعر الوطنية والمواقف الأيدلوجية ، كان التركيز على نفسية البطل من الداخل وذلك بتوظيف الحوار الداخلي تقنية يطور الكاتب بها مبنى القصة .
لم يعقد الكاتب حوارا نوستالجيا مع تفاصيل المكان في مثل هذه المواقف التي ميزت الكتابة الفلسطينية ، ولم يتحول هذا الحنين إلى فعل المقاومة ـ ومن ثم كان تطور القصة نحو ترسيخ مفهوم الضحية والتضحية في بعدهما الإيديولوجي ، المتمثل في إصرار البطل على المقاومة حتى النهاية ، في استنطاق تفاصيل المكان كمعادل تبعث في الحياة عندما يسيل البطل الشهيد مقدما نفسه قربانا في سبيل قدسية المكان المرسوم في الذاكرة أو الحياة المعيشة ، وبذلك ينزاح مبنى وبين البنيية الذهنية للفئة الاجتماعية .
تتعدى رمزية المكان المغلق بيت الشيخ معناها المعرفي ، الحصار ، إلى مفهوم الحرم الذي لا يجوز المساس به لينكسر حاجز الحرم الأكبر \ الحمام الذي دخله علي المحمود وحياة زوجة الشيخ تستحم ، ليختبئ وان كان مفهوم الضرورة ايديولوجية يفرض مثل هذا التصرف إلا أن الدلالات اللغوية التي وظفها الكاتب تنم عن عدة معاني وقد تجعل عملية تحديد موضع المعنى صعبا .
تبدأ القصة بجملة يمكن إحالة مولودها في بنيتها النصية إلى نص ليوسف إدريس قي قصة ” بيت لحم ” عندما يشير إلى جنس بتشبيه الإصبع والخاتم وذلك يجعل النص منذ بدايته ينحا منحى التشعب في دلالته . ” أحاط الجنود البيت إحاطة الخاتم بالخنصر ” ويتضح كذلك منذ بدايته في هذه الجملة التقريرية ما يمكن أن نطلق عليه “تبئير الحدث” أي : تمركز الأحداث في البؤرة كحزمة من الإشعاعات الدلالية في علاقة القارئ بالنص الذي يسعى أن يفتحه لما اندرج فيه ولما أقصاه المؤلف عنه أيضا ، ومن ثم تصبح عملية استنطاق النص أو فتحه ذات دلالة جسدية تبعث على المتعة مثلما يرى رو لان
بارت في النص الجديد .
انعكست هذه العلاقة في زاوية السرد حيث وظف الكاتب أسلوب ضمير الغائب ليجعل الراوي أكثر موضوعية في سرده الاحداث من جهة ، وفي تحذيره وجوده والداخلي ، ليس فقط كما يتمثل رمزا نوستالجيا في المكان المغلق بل في اكتشاف ذاته واختلاط شعوره بالالتزام الوطني مع شعوره بالالتزام الوطني مع شعوره الذاتي الانوي . وتختلس النظر إلى حياة وفي نظراتك تتوهج الرغبة شبقية ، وكثيرا ما كانت نظراتك تخترق ثيابها المحتشمة وتنزع عنها ثيابها قطعة قطعة وتستمع برؤيتها عارية ، ويأخذ خيالك الشرقي المجنح والمراهق بعيدا فتضمها وتداعبها و …”
أما المحور الثاني ، في علاقة الراوي بقصة الإطار \ حصار الجنود ، فيزدوج صوت المخاطب ليمتاز عن الآخر فيصبح الخطاب الأول صراع لحظة اكتشاف الذات في حقيقة ما تؤمن به من الالتزام الوطني وفي إيجاد المبرر \ حب البطل لحياة غطاء يتعلل به . ” سلم نفسك يا علي المحمود .. سلم تسلم .. لا تحاول المقاومة .. لا تحاول الهروب … سلم نفسك … البيت محاصر من كل الجهات ” .
أما الخطاب الثاني فيطرح وجود الآخر على محور صراع الذات بوضوح تام ، لا يساور البطل شك فيه مثلما عبر عنه في الجملة التي افتتح بها نصه ، وكذلك في تكرار هذه الجملة بلكنة الآخر : ” سلم نفسك يا الي المحمود سلم تسلم .. لا تحاول المكاومة .. لا تحاول .. الهرب .. سلم تسلم .. البيت محاصر من كل الجهات ” ..
إن تكرار الخطاب الاول مرتان بينما تردد الخطاب الثاني مرة واحدة اشارة الى حالة الصراع المضاعفة التي تعيشها الذات مع الذات بالنسبة لصراعها مع الآخر . ونلحظ ان الخطابين يتخذان أسلوب التثليت في بناء السرد في القصة وقد يشير هذا التثليت إلى قداسة الموقف حيث ان موت البطل يعني انتقاله الى دائرة المقدس أو الشهادة ؟
يحمل عنوان القصة “حياة” العديد من المعاني والدلالات فلم يعرف الكاتب الكلمة ليكون التنكير زيادة في تشاكل المعنى ، وليردف الاسم الشخصي لحياة زوجة الشيخ . لا يمكن أن تكون هنالك حياة دون ماء لكونه عاملا رئيسيا ” وجعلنا من الماء كل شيء حي ” في انبعاث الحياة ، وليس صدفة أن يكون مكان انبعاث الحياة في علي المحمود هو الحمام \ مكان الماء ، والمكان الحرم ، عندما ألحّ عليه الشيخ ان يدخل ليصرف نظر الجنود عنه :
” لكل شيء يا شيخنا ، رد علي المحمود باستسلام :
– لا يمكن أن يمسكوك ادخل إلى الحمام ، حياة مثل أختك ، أسرع أسرع ، لا تقل شيئا أسرع أسرع حياة مثل أختك مثل أختك ” .
وحياة \ المحبوبة والحياة التي يلجئ إليها علي المحمود تنبعثان من هذه البؤرة المكانية ذلك لان المرأة نعطي الماء ، وتعطي نفسها للماء ، تستسلم للمادة كما ان عملية التطهر تمر عبر الحسد وفي تلك اللحظة ينحل المكان والزمان في اللامتناهي ” أي أن الموقف قد تصالب ليكون العري هو قمة الحشمة مثلما كانت الحشمة هي قمة العري ، أي ان فاعلية الذات في تصورها للحدث من حيث تبئيره هي المحرك الأساسي في بلورة الموقف تجاه الموضوع ، وولادة القصة الجديدة يحمل في طياته عملية التذكر عاملا أساسيا في رسم موقف البطل :
” ودخلت يا علي إلى الحمام .. وكانت حياة تستحم عارية .. ورغما عنك حانت منك نظرة إليها .. ورايتها في كامل ثيابها المحتشمة . وكان المساء .. وولدت قصة جديدة ” .
إن مثل هذا الانزياح عن قصة الإطار وعدم الوقوف عند الموقف السياسي وتضخيمه لتكون المقاومة أحادية البعد هو ما يميز نص الكاتب محمد علي سعيد ، وبإمكاننا أن نمثل لرأينا هنا في الخطاطة التالية :
” العيش = موت = خطر مهدد .
أنثى = حياة = حرمان = زواجها من قبل الشيخ
إشكالية الموقف : خروج على الحياة = تمرد= مقاومة
حصار الرغبات = تمرد الذات = مقاومة
إشكالية المكان :
البيت حصار = الحمام = حصار = مبعث للحياة – الماء ”
* د. حسين حمزة: محاضر ورئيس قسم اللغة العربية في كلية إعداد المعلمين في حيفا..