جاءت ردود أفعال الأحزاب والحركات السياسية الشريكة في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، على تصريحات نائب رئيس الحركة الإسلامية الشمالية، الشيخ كمال الخطيب، باهتة ومطابقة لدورها الجماهيري الضعيف ونشاطها الوطني المأزوم.
لا أعرف مَن من قادة الجماهير العربية كان قريبًا من الشيخ كمال حين قال بدون لبس أو تردد وأكّد: “نعم قلت وأؤكد، القدس ليست فقط عاصمة الدولة الفلسطينية بل عاصمة الخلافة الإسلامية الراشدة القادمة إن شاء الله”، ففي الإعلام ظهرت صور قادة من حزب التجمع الوطني، وهم يقفون ملاصقة بالشيخ وفي وضعية لا يحسدون عليها.
من الواضح أن التصريح، الذي أُدلي به أمام جمهور، شكل مؤيّدو الحركة الإسلامية غالبيته العظمى، لم يأت من باب الصدفة، أو تفاعلاً طارئًا مع تداعيات واكبت أحداث ما أسمي “بيوم النفير” من أجل المسجد الأقصى، بل كان تصريحًا مقصودًا وبمثابة إشهار مجدّد لموقف معلن تؤمن به الحركات الإسلامية كلّها، لم تخفِه في الماضي، ولن تخفيه حتى في مظاهرة وصفها منظموها بالوحدوية، وشارك بها قادة مثلوا جميع مركّبات لجنة المتابعة العليا؛ فهذه الحركات لن تهادن بقضايا عقائدية، لا سيّما عندما يستند موقفها إلى أحاديث نبوية، كما في حالة القدس ومكانتها، ولذلك سنجد النائب إبراهيم صرصور، الذي ينتمي للحركة الإسلامية الجنوبية، يوافق ويصرّح، في تعقيبه على أقوال الشيخ كمال، قائلًا: “بأن مبتدأ الإيمان كان في مكة المكرّمة ومنتهاه سيكون في القدس وهذا يستند إلى أحاديث نبوية وأقوال العلماء ..”.
لقد كانت لدى من تواجد من قياديين فرصة لإشهار مواقفهم إزاء قضية القدس ومستقبل فلسطين ولم يفعلوا، بل جاءت، في البداية، ردود فعل قادة التجمع الذين تواجدوا بجانب الشيخ، خجولة، وبعد تنامي الاحتجاجات عليهم، من على صفحات التواصل الاجتماعي، وصف النائب باسل غطاس، تصريح الشيخ كمال “بالمتسرّع”، وعلى أنه “تصريح إقصائي، وجاء في غير مكانه في مظاهرة وحدوية”.
بالمقابل، لم نقرأ عن أي بيانات رسمية صادرة عن مثقفين أو عن الأحزاب والحركات السياسية الأخرى التي شارك قادتها في المظاهرة، في وقت أبدى فيه رئيس لجنة المتابعة السيد محمد زيدان تفهّمه لتصريح الشيخ كمال مقرًا: “أن هذه قناعة الحركة الإسلامية ومعتقداتها وموقفها، بأن يومًا سيأتي على القدس وتكون فيها خلافة إسلامية والقدس عاصمتها”، وأردف مضيفًا حَرَجًا على حرج مَن يلوذون بالصمت ويلتحفون بالعجز، حين قال حازمًا: “فموقف الحركة الإسلامية لا يخالف الموقف الجماعي”.
ما حصل في القدس يبرهن، مرّة أخرى، أن الحركة الإسلامية الشمالية تستشعر أنها حركة قوية، وتستطيع أن تقفز عن بعض بديهيات العمل الجماهيري الوحدوي، خاصة وأنها تشخّص ما يعتري الحركات اليسارية والقومية من ضعف وضياع بوصلة. فعندما يطلق نائب رئيس الحركة الإسلامية موقفًا في قضية جوهرية صميمية، وهو يعلم أن معظم من يشاركونه النشاط في ذلك اليوم، لا يوافقونه الرأي، فهو، إمّا أنه يفترض أنهم لن يقووا على نبس بنت شفه، لأنهم أضعف من ذلك، وإمّا أنه لا يأبه لوحدة لا تشكّل بالنسبة له، أكثر من شعار خاوٍ وحالة متخيلة غير واقعية.
على جميع الحالات، كان موقف الشيخ كمال صريحًا وخاليًا من طبطبة، وليس من الصعب، لذلك، أن نتوقع أن أتباع الحركة استحسنوه ورأوا فيه وعدًا غدا تحقيقه قريبًا، خاصة، وأن قادة الحركة قد تنبأوا، قبل مدة قصيرة، أن أوروبا كلها بطريقها إلى الخلافة الإسلامية.
من جهة أخرى، كان وقع تصريحات الشيخ في أوساط علمانية واسعة، محبطًا ومرفوضًا، فعلاوة على أن أقواله لا تخدم قضية القدس- التي كانت وتبقى قضية فلسطينية وطنية، بخلاصها يكمن خلاص الأقصى وجميع الأماكن الدينية الأخرى- كان صداه، في خضمّ ما تمرّ به فلسطين والمنطقة، يطوي عبقًا طائفيًا نحن، الفلسطينيين، في غنى عنه؛ فالحديث عن دولة خلافة إسلامية عاصمتها القدس، ونحن في أوج صراع قومي لتحرير البلاد من احتلال غاشم ومرير، يفتح الباب لمن يؤمن أن فلسطين هي أرض الميعاد وموطن بني إسرائيل، ويجيز له السعي لإعادة بناء هيكل الرب هناك على تلك التلة الحزينة، أو يسهّل على من يطالب أن يكون بفلسطين، مهد المسيحية الأول والأهم، كيان مسيحي، لأنها وطن البشارة والميلاد، ولأنها حضن الصليب والقيامة والخلاص؛ فما دامت القضية دينية، أوّلا وأخيرًا، ومصادر شرعيّتها هي السماء، صار المؤمنون أمامها، وليعنِ اللهُ كلًّا على دينه، سواسيةً، وستبقى القدس عاصمة للخلاف، والغلبة ستكون حتمًا للقوي.
لقد سبب تصريح الشيخ كمال قلقًا كبيرًا، وخاصة بين الأقلية الصغيرة من العرب المسيحيين الباقين في وطنهم وبعض الخائفين منهم على مصيرهم فيه، ومحاولات الشيخ للاستخفاف بمن توجّس منهم ممّا قد تلحقه الدولة الإسلامية المنشودة بهم من أذى، على خلفية ما تمارسه دولة الإسلام الحاضرة في المشهدية العربية حولنا، هي محاولات تتنكر للواقع ولمشاعر خوف حقيقية.
قادة الحركة الإسلامية يمارسون ما يؤمنون به ولا يخفون نواياهم الحقيقية، وهذا بالطبع يبقى حقهم، ولكن، برأيي، يبقى مكمن التقصير والعجز في غياب دور الأحزاب والحركات السياسية الوطنية العلمانية، فتفاصيل أحداث “يوم النفير” وما رافقها من مشاهد تستدعي وقفة جدية ومراجعة جذرية لعناوين ووسائل النضال الوطني الذي على الجماهير العربية في إسرائيل أن تخوضه دفاعًا عن بقائها ووجودها؛ فمن الواضح أن حركة سياسية أو حزبًا لا يستطيع ملء حافلة من أتباعه للمشاركة في نشاط نضالي، أيًا كان، لن يكون ضابطًا لإيقاع ذلك النشاط، وفي أحسن الأحوال، قد يستعين بهم، من يرون الخلافة وراء الباب، كعنصر في جوقة الإنشاد والهتاف، أو مجرد كومبارس سيخفيه الظل وتأكله العتمة.