قصة قصيرة: ملعون من يخنق فكرا؟// ميسون أسدي
في لقاءات الوديان
07/09/2014
كان العرس لواحدة من بنات أختي. أو بالأحرى هو ليس عرس كالمتعارف عليه، فالاحتفال هو للعروس وحدها في بيت أهلها (طلعة العروس)، بمشاركة الأقارب ومعارف العروس وذويها فقط، ويأتي ذوو العريس في نهاية الحفل، لنقل العروس إلى بيتها الجديد، ويكون الحفل الكبير في ساعات المساء الذي يجمع العروسين وذويهما معا. استعرت من صديقتي فستانا أسود بسيطا مكشوف الظهر وارتديته للحفل.
نادرا ما أشارك في الأعراس بسبب ضجيجها وبذخ روادها، ومظاهرها الكاذبة، المصطنعة بالفرح، لكن الأعراس هي فرصة سعيدة للتقارب بين الناس والأهل والأحباء والجيران والأقارب.
بدت التعاسة والتعب والقلق والأغلفة الاجتماعية الكاذبة على وجوه أهل العرس والمهنئين. غط أصحاب العرس في قلق عميق خشية أن ينقص الطعام المهيأ للضيوف، خوفا من الفضيحة، ورعبهم الأكبر أن لا يتم تنقطيهم كما يجب، ومطاردة من يأتي إلى العرس ويضع مغلفا خاليا من النقود، فربما تقع مشاجرة وتفسد العرس. الهمّ الأكبر في الأعراس هو الانشغال بمظاهر الزينة البراقة، حيث تبلغ تكاليف فستان العروس 18 ألف شيكل وأكثر، وملابس الأقارب العادية قد تبلغ تكلفتها خمسة آلاف شيكل. وعندما شاهدت المبذرات، تذكرت كيف تتردد الواحدة منهن عشرات المرات قبل أن تقتني قصة للأطفال أو رواية للكبار بما يعادل (30) شيكل، ورغم لهفة المشاركين للقاء الأقارب والأحباء إلا أن العيون الناقدة والحاقدة تشع من بؤبؤ عيونهم المنكسرة.
التقيت بندى، وهي ابنة عمي وصديقة الطفولة، حيث ألتقيها فقط في المناسبات العائلية. جلسنا معا بعيدا عن الناس حتى لا نندمج مع جملة المُراقبات من الآخرين.
لبست ندى عباءة سوداء غطت كل جسدها حتى تخفي تكور صدرها ومؤخرتها وبطنها، فهي كتلة كبيرة من اللحم تتعدى (120) كغم مجبولة معا. وكشفت أسنانها المتعرية من مكانها طبقة من الاصفرار بسبب تقدم عمرها. ما زالت ندى بسيطة كما عهدتها وأحببتها دائما. ألقت علي سؤالها الأول: ألم يحن الوقت يا ابنة العم لكي تهتدي إلى الرحمان وتتستري بلباسك، فسنك لا يسمح لك بالتعري هكذا؟
وتحين لحظة صمت، أجبتها بسخرية: حين يترهل جسدي أغطيه، ولكنه ما زال غضا جميلا، ناعما أسمر يبعث الدفء بمن يراه، فلماذا أخفي الجمال، الله يحب الجمال يا ابنة العم!
وإذا بزميلة لنا منذ أيام الدراسة الابتدائية تأتي وتحيينا بوجهها الممصوص المستهلك، وفاجأتني بقولها لندى مازحة ومستفزة وكأنها تريد أن تكيدها: كيف تجالسين هذه الكافرة؟
أجبتها بكل جدية دون أن أخفي البسمة عن وجهي: إن الله يهدي من يشاء، أليس ملعونا في دين الرحمن من لا يتقبل الآخر؟
مرت أمامنا امرأة وحيّت أحد الرجال واضعة يدها بيده، فنظرت ندى صوبها بنظرة خبيثة، وقالت لي وكأنها تنفخ في كمها وهي تكشف لي خبرا عظيما: سوف تنشر يدها بالمنشار يوم القيامة.
– لماذا يا ندى، ما العيب في ذلك؟
– حرام وضع يدها بيده..
– إذا وضعت يدها بيده يعني اشتهته واشتهاها؟! ما هذه الترهات والخزعبلات؟ تفسرين ما ينم عن تصرفاتنا بأنها أمور جنسية. لم يفسر أبي وأبوك الدين كما تفسرينه أنت الآن. تحليلك إباحي وهذا ينم عن جوع جنسي.
– حرام عليك أن تتفوهي بهذا الكلام، ستلقين أشد العذاب في جهنم، العبيط مثلك لا عتب عليه، فعلى أمثالي هدايتك إلى الدين الصحيح.
– أليس ملعونا في دين الرحمن من يخنق فكرا؟
اقتربت منا زهرة لتحيينا، وهي زميلتنا من أيام الدراسة أيضا، شقراء منذ الطفولة ولكنها زادت صبغة شعرها وارتدت تنورة قصيرة. نظرت إليها ندى بعيون حادة حاقدة، من أخمص قدميها وحتى قمة رأسها، فتمتمت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مصيرها جهنم وبئس المصير.. سمعتها زهرة. اقتربت منها بوجل وحدقت فيها بعينين ضارعتين وقالت لها:
– عقلك محاط بسياج من الحقد والكراهية والجهل والظلام يا ندى. وإذا تقمصت الإنسان روح الحرية فلن يستطيع أحد إخراجها منه، فالحياة قصيرة ومذهلة، وأحب الاستمتاع بها. تركت لك الجنة يا ندى- أنا أريد الحياة، أجابتها زهرة بغنج.
أخبرتني ندى ووقع كلامها كان كريح باردة تضرب وجهي: زهرة وجميع نساء عائلتها غير متحجبات، ملحدات، كافرات لا يخشين الله ولا يعرفن أهوال القيامة وعذاب القبر. أهل بلدنا يكرهونهم.
تذكرت قول أمي عن عائلة زهرة بأنهم من قوم يأجوج ومأجوج.
سعدت كثيرا بلقاء زميلات الصبا، زميلات لا يشبهن ندى بفكرها، قلت لندى: زهرة حرة لتفعل ما تشاء، أليس ملعون في كل الأديان من يهدر حق إنسان حتى لو صلى أو زكى أو عاش العمر مع القرآن.
ندى: الحجاب فرض واجب علينا. يستر جسد المرأة، وأنا ارتديته منذ أن هجرني زوجي بعد أن أغواه الشيطان واحتضنته فتاة روسية يصرف عليها.
نظرت إليها بشفقة وقلت لها: هل تعرفين شكل الشيطان يا ندى؟ من المؤكد أنه متكوّر ومنفر ويلبس عباءة سوداء يخفي بها شناعته.
توقف حديثنا حين جاءت العروس وهي ما زالت تتخطى سنواتها العشرين بعطش كبير للحياة. وعيناها تفيضان متعة. عاشقة هشة مثل عصفورة. ترتدي ثوب العروس المكشوف والقصير والمزركش، وخلفها كانت أمها المتدينة، ترتدي فستانا ثمينا كابنتها، يلفها لفا من أخمص قدمها حتى قمة رأسها، فهي متحجبة مثل ندى وتقيم وسط بحر من التناقضات .
بدأت حفلة الرقص في طلعة العروس، ومعظم المشاركات نساء. جلس الرجال في مدخل البيت، يعرّون بنظراتهم الثاقبة كافة النساء الوافدات إلى الحفل، امرأة تلو امرأة. لبست معظم الصبايا في جيل العروس ثيابا كنجمات هوليود، من حيث الفخامة والجمال. وحوطت النسوة من كبار العمر حلبة الرقص، يتمعّن بلباس صغيرات العمر ومتوسطات الجيل، ولكن كما يبدو فإن الصغيرات يرفضن طلب الكبيرات اللواتي انغلقت أدمغتهم الصغيرة.
عند الرقص، تمايلت الراقصات بصورة مؤدبة، وبملامح حزينة لا يبدو عليها الطرب أو الفرح.
نزعت الشال عن صدري وكشفت ظهري وبدأت أرقص طربا، وكانت أغنية “الحجالة” التي ترقّص الحجر وتغدو الفتاة بها كالحجل، وبدأ فيلم الرقص الحقيقي الماجن، هز الكتفين والردفين والنهدين. رقصت أمام ندى، حيث ترددت بداية، بقولها “إن الرقص حرام في الدين” ولكنها رقصت خجلى. تأبطت يد أمي الضريرة لأراقصها فقالت: أنا حجة وحرام عليّ الرقص، ولكنها رقصت وهزت صدرها وتمايلت مع الرقص وكذلك كل من في الحفل، وكأنهم كانوا ينتظرون الشرارة الأولى للتحرر من قيود أدمغتهم المنغلقة على ممتلكاتها الصغيرة. وعم الطرب والفرح الحقيقي في حلبة الرقص.
طلبت والدة العروس من الضيوف بوجه مبتسم، شادّة يديها إلى خصرها في وقفة انتباه، التوجه إلى مائدة الطعام، وجلست مقابل ندى. لم يكن لدي رغبة بالطعام لأنني كنت سعيدة ومنهكة من شدة الرقص. شربتُ كأسا من الماء. ولكن رأيت ابنة عمي تدس رأسها في صحن الطعام، وتلتهم ما فيه التهاما، وتتناول كدر اللحم تأكله كدرة وراء الأخرى، وتمصمص العظم ورأسها في الصحن لا تنظر يسارا ولا يمينا، أتت ابنة عمي على الصحن الأول والثاني والثالث ابتلعت كدر اللحم، التهمت كمية تكفي لعشرة أشخاص وأكثر.
ساد صمت قاس ورهيب. سيطر على قلبي إحساس مريع، وندى غير مكترثة. رفعت رأسها عن صحنها فقلت لها: صحتين!
***
بلدي، التي لا أسكن فيها.
ما بعد الغروب بكثير.
يوم الجمعة وغدا السبت.
نسيت في أي شهر نحن.
أضواء الزينة خفتت في ساحة البيت.
الموسيقى صمتت.
الكراسي شبه خاوية.
غبار الزيف ترك أثره في جميع أنحاء الساحة وحتى الكراسي وطاولات الطعام..
– ملعون في دين الرحمن من يسجن عقلا.
2014-09-07