يترو هنافي ب ١٨ شاقلاًِ جديداً \ بقلم رأفت وهيب حرب

“بعد سنوات من الصّراع بين دولة إسرائيل وبين الطّائفة الدّرزيّة، تمّ قبول نقل مقام النبي شعيب، المعروف أيضًا بقبر النبي يترو، في الجليل، لأيدي الطائفة الدرزيّة مقابل مبلغ رمزي يساوي 18 شاقلًا جديدًا.” جريدة “هحداشوت هيوم”- تاريخ 13/8/2014

a

في الأشهر الأولى من بداية العام 2012، تمّ تدنيس مقام النّبي شعيب عليه السّلام من قبل ثُلّة من الحريديم اليَهود، دعوا حينها إلى إقامَة تقديس ديني يرتبط بـ “قصّة يثرون”، وتجاهلوا كلّ القوانين التي تخصّ زيارات الأماكن المقدّسة والتي يتوجّب التّصرف حسبها. الأمر الذي استفزّ مشاعر أبناء الطّائفة في البلاد وخارجها، إضافة لبقيّة الطّوائف، خاصّةُ بعد تكرار أحداث مشابهة في أماكن مقدّسة للطّوائف المختلفة وقتها، فثارَ من ثار، وتخاذل من تخاذل، واستنكر من استنكر، وتجاهل من تجاهل. ردود الفعل كانت متبايِنة فيما بينها بين زعامات الطّائفة، الدينيّة منها والسّياسية على وجه الخصوص، وبين عامّة الدّروز.

لذلك قامَت مجموعة من الشّباب الدّروز بدعوة إلى إقامَة مظاهرة احتجاجيّة لاستنكار التعدّي على المقام، ومنع استمرار تدنيس المقدّسات والاستهتار بمشاعر وكرامة أبناء الطائفة الدّرزية في البلاد. وتحت شعار، “إرفعوا أيديكُم عن مقدّساتنا”، تمّت الدعوة لمظاهرة حاشدة في رحاب مقام النّبي شعيب في تاريخ 2/3/2012.

المظاهرة التي تمّ العمل على إنجاحها كانت محاولة شبابيّة تعتبر الأولى من نوعها لشجب أعمال تدنيس كهذه، إضافة لاستنكار تخاذل وسكوت القيادات، الدينيّة بالأساس، عن التّدنيس الذي حصل في رحاب المقام، فكأنّ أمرًا لم يكن، أدّت لخلق جوّ مشحون في صفوف أبناء الطّائفة، وفي مكاتب اتخاذ القرارات. كان العمل قائم على قدم وساق، فانضمّ لصفوف المتطوّعين لإتمامها العشرات من أبناء الطّائفة ومن أبناء الطّوائف الأخرى، كما وافق “فيسبوكيّا” على حضور الحدث ما يفوق الألفيّ شخص، الأمر الذي أدّى لإحداث بلبلة لدى القيادات لإسقاطات “لا يعرفها سواهم، ولا يفقهها سوانا”.

في تاريخ 29\2\2012 تمّت جلسة طارئة بين منظّمي المظاهرة وبين الرئيس الروحي للطّائفة الدرزيّة الشيخ موفّق طريف وبحضور المجلِس الدّيني، تمّ التداول فيها بأمر التّدنيس والتظاهرة وعواقبهما. في حينها، حاول المشايخ إخفات غضب الشّباب من تخاذل الرّئاسة الروحيّة على أمر التعدّي على المقام. كنت من بين القائمين على المظاهرة والحراك الشّبابي آنذاك، ولذلك كان عليّ حضور الاجتماع المذكور، فحضرته برفقة ناشط آخر ومجموعة من المرافقين. لن أذكر الآن تفاصيل الاجتماع ولا ما دار فيه، ولكنّني بصدد التطرّق للحدث المرفق كعنوان؛ ففي نهاية الاجتماع حاول الشّيخ موفّق طريف تلخيص موقفه من المظاهرة فقال مقتضبًا –”بدناش مشاكل مع الدّولة”-أحضر خريطة تظهر الأراضي المحيطة بالمقام، وأشار بيديه على مشروع يتمّ العمل عليه لتوسيع نفوذ لجنة المقام على مساحة أراضي أكبر حول المبنى -“أيّ مشكلة رح نعملها إسّا مع الدّولة رح توقّف المشروع”.

جَني الثِّمار؛ تدنيس أربعة أعوام ونصف.يسهب الصحفيّ في تفصيل الخبر؛ 170 دونمًا حول مقام النبي شعيب، يشمل مبنى المقام والضّريح، الذي كان موضوع صراع حتّى الآن بين الطّائفة والدّولة، تمّ القبول على نقلهم لسلطة الطّائفة، مؤقتًا. أمر أشبه بعقد للإيجار. يتّضح الآن المشروع الذي تحدّث عنه الرّئيس الروحي آنذاك. عقد إيجار لمدّة 49 عامًا للمقام، الضّريح و170 دونمًا حولهم بقيمَة 18 شيكل فقط.

يبدو من الخبر، أن موضوع المقام كان فترة صراع طويلة الأمد في الماضي، فجاء هذا القرار ليضع حدًا له، لصالح الطّائفة الدرزيّة، بحجّة أن من يعطي يأخذ. في محاولة لـ “ردّ الجميل”. فصل جديد لحلف الدّم “الموقّع” بدمّ شبابنا يضاف لتاريخ الانتماء الأعمى للدّولة، موقّع اليوم بالكرامة والتّاريخ، عوضًا عن الدّم الذي استُنزف وهُتِر. وفقًا لدائرة أراضي إسرائيل، مشروع كهذا سوف يضع حلًا للصّراع المذكور مسبقًا، وسوف توفّر للطّائفة حريّة استعمال المقام والأراضي المحيطة به لإيفاء الحاجيات الدينيّة، وتحويله أيضًا لمكان تراثي أضافةً لاستعمالات أخرى.

يخطر في البال عن أيّ “استعمالات أخرى” يتحدّث الخبر، المنقول عن لسان الوزير أوري أريال، رئيس دائرة أراضي إسرائيل، ولكنّك تتيقّن فيما بعد أن المقام لم يكُن يومًا معدًّا للمراسيم الدّينيّة فقط، فقد تمّ استغلاله لإتمام مراسيم عسكريّة وسياسيّة دنّست بدرجات لا تقل خطورة تدنيس الحريديم له في بداية العام 2012، لحرمته وقدسيّته.

10402468_4475748349931_6312085209123639812_n

عقد إيجار.

إذًا فقد استأجرنا مقام النبيّ شعيب، النبيّ العربيّ الكريم، ضريحًا ومقامًا وأرضًا من دائرة أراضي إسرائيل بـ 18 شاقلًا جديدًا لمدّة 49 عامًا ابتداء من الموافقة على العرض، في سابقة تعدّ الأولى من نوعها، تعويضًا للطّائفة، دينًا وناسًا، عن الانتماء والتّضحية من أجل الحفاظ على الدّولة أمنًا وقوميّة.
إذًا هل نستأجر متنزّهًا كالذي في رحاب المقام بما يقلّ عن 18 شاقلًا؟ وهل نستأجر أراضٍ تعود لأهالي قرية حطيّن المهجّرة عام 48؟ هل نحتاج 170 دونمًا من الأربع جهات لإقامة المراسيم مقابل 18 شاقل؟ هل يستحقّ مشروع كهذا السّكوت عن تدنيس المقام وكرامة الطّائفة؟ هل يُضاف مشروع كهذا لأعمال التّدنيس، خارجيّة كانت أم داخليّة، لحرمة المقام وقدسيّته؟
ثمّ أنّ العقد يشمل الضّريح نفسه، ما الذي سوف يحدث للضّريح عند انتهاء مدّة العقد؟ أو مثلًا لو لم تستطِع الطّائفة كاملة لدفع المبلغ المذكور؟ فـ 18 شاقلًا مبلغ ليس بهيّن، ومن المؤكّد أن جمع مبلغ كهذا سوف يهدّد وضع الطّائفة الاقتصادي، خاصّة بعد حملة التبرّعات الواسعة التي طالت أغلبيّة القرى الدّرزية لإمداد الجنود الدروز في قطاع غزّة بمعجون الأسنان ومعجون الحلاقة. لو أدركنا هذا الأمر يا حضرة الشّيخ لاكتفينا بإرسال رسالات دعم يكتبها صغارنا في رياض الأطفال واستفدنا من المبالغ لمساعدتك على إتمام هذا المشروع العظيم.

السّؤال الأهمّ؛ وماذا بعد؟

أيّ الترتيبات والتحّضيرات تأتي لاستقبال عقد الإيجار التّاريخي هذا؟
لا بدّ أن احتفالًا كبيرًا سيقام في رحاب المقام، سيجتمع رجالات الطّائفة، كبارها، مشايخها وضُبّاطها لتهنئة بعضهم البعض، كما أنّهم لن ينسوا الإشادة بالدّور العظيم لسعادَة الرّئاسة الروحيّة وذكر مناقبهم على الملأ، الأمر الذي قد يؤدّي في نهايَة الأمر في حصر إنجازٍ عامّ كهذا في شخص واحد.

أجهل كيف يمكن القبول بمعادلة كهذه، أن نستأجر مقامنا ومقام نبيّنا، أن نستأجر “أقدس بقاع الأرض” من دولة سرقت الأرض ودنّست المقامات والكرامة. المُعادلة التي “تُملّكنا” هويّة جديدة، قوميّة جديدة ولغة جديدة، “تملّكنا” مجالس منفصلة ومناهِج دراسيّة منفصلة وقانون تجنيد منفصل، وفوق كلّ هذا، “تؤجّرنا” مقامنا ونبيّنا.

أظنّ أنّنا بحاجة ل 49 عام إضافيّ للتفكير في حالنا، في واقعنا، وفي الوضع الذي وصلنا إليه بعد الإهانة والاستهتار بمشاعر وكرامة أبناء الطّائفة ومشايخها، وتدنيس المقامات والمقدّسات. كلّي أمل ألا يتمّ تمديد هذا العقد عند انتهاء صلاحيّته، بل بالاكتفاء بتمزيقه. فهو، بلا شكّ، سيتحوّل لحمل ثقيل سيضاف للعار الذي لحق بالطّائفة منذ قيام الدّولة، أو قبلها، وحتى اليوم.

وداعًا يترو.

غدًا، بعد 49 عامًا من اليوم، عندما نشيخ، ويكون كبار اليوم قد رحلوا، سنبكي ندمًا عندما نزور المقام، لأنّنا سمحنا لعار كهذا أن يتمّ ونحن في عزّ الشباب. ربّما قد نزوره في الغد البعيد، كغُرباء، كما يفعل اليهود اليوم عند زيارتهم للمقام أو لمسجد الأقصى، ربّما يحدُث أن نقتحمه في تاريخ 25/4/2064 لكي نقيم الشّعائر الدينيّة بمناسبة زيارة ما كان يسمّى بمقام النّبي شعيب. عندَها، لسوء حظّنا، وقلّة سعدنا، سيُوقفنا على الباب جنديّ درزيّ صغير، يظنّ بأنّه يخدم دولته، فيمنَع أصحاب البيت من الدّخول إلى بيتهم.
خوفي الأكبر ألّا يبقى لنا سوى أن نتذكّر كيف كنّا نسير إليه مشيًا على الأقدام، في تاريخ الزّيارة. أخشى أن نتحوّل، جميعنا، لنماذج تشبه أجدادنا وجدّاتنا، فأفعل أنا غدًا، كما تفعل جدّتي اليوم، التي تحدّثني عن ماضيها عندما كانت تسير لمقام النبي الخضر عليه السلام في حيفا قبل الاستيلاء عليه وتحويله لمقام لليهود فقط.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .