هذا المقال تحليل لنص الأسطورة الوارد في مقال سابق هنا
بعد قرائتنا لأساطير التكوين البابلية والسومرية وتحليلاتها، لا بد لنا الآن من أن نقف عند نص التكوين الكنعاني، الذي وصل إلينا بقصته الغير المكتملة والفاقدة للكثير من أجزائها التي اجتهد الباحثون في إكمالها لكن النص بمجمله لم يختلف كثيرا عن سابقيه في تحليله. فقد تقاطع التكوين الكنعاني مع السومري والبابلي بفكرة الوجود المائي، والتي تكلمنا عنها سابقاً بأنها تعود إلى نظرية اللاشعور الجمعي عند يونغ المتمثلة بحالة الجنين السابح في رحم أمه.
كما نجد السلطة الذكورية موجودة بقوة في النص الكنعاني، إذ أن الإله “بعل” ما هو إلا محاكاة للإله “مردوخ” البابلي و”أنليل “، الذي أنهى الفوضى وأحل النظام الكوني. ولعل هزيمة “بعل” للإله “يم” تعد الدليل الأكبر على المحاكاة للنص البابلي،الذي بدوره كان محاكاة للسومري، حيث تجلى واضحا الانفراد الذكوري بالسلطة بعد الصراع عليها المتمثل في صراع “بعل” و”يم” وانتصار الأول على القوى الإلهية البدائية، فهو نزاع لإنهاء حالة العماء والفوضى وإحلال النظام الكوني.
لكن يبقى هنالك تساؤل وهو لماذا رضخ أيل لابنته “عناة ” وخاف منها؟ ولعل أفضل تفسير لهذا يعود بنا إلى رضوح القوى الذكرية الأولية للسلطة الأمومية، لكن “عناة” طلبت من “أيل” ان يساعد حبيبها “بعل” في بناء مسكن له، إذا أن السلطة الذكورية تعود لتسيطر على الحكم، فإن السلطة الأمومية كما يفسر النص الكنعاني كانت قد أحكمت سيطرتها على القوى الذكورية البدائية فقط، لكن مع وجود القوى الإلهية الذكورية الجديدة لا مجال للمنافسة الجديدة ويجب عليها الرضوخ.
كما نجد أن هناك رمزية واضحة في فكرة تشييد منزل لبعل فهو يرمز للبقاء والوجود وهو ترسيخ لدعائم سلطته، ولعل المفارقة بأنه نُفذ بعد طلب عناة، رمز السلطة الأمومية. كما أن المفارقة الاكبر هي أن “ايل” ساعده في تشييد منزله، إذاً إن سلطة “بعل” أقيمت على أنقاض سابقتها بالقوى.
وقد صور النص الكنعاني الآلهة الأنثى “عناة” تفتك بالبشر، ولم تحل الخصب على الأرض إلا بعد طلب الإله الذكر “بعل” ذلك. إذاً إن الآلهة الانثى هي من فتكت البشر، وليست هي من أحلت الخصب بل هي من رضخت لبعل وأحلت الخصب، كما يرى النص الكنعاني.
وهكذا نجد بان أسطورة الخلق الكنعانية، وعلى الرغم من صغر نصها وتفاصيله الناقصة، لم تنسى إضفاء معالم الثقافة الذكورية في النص وتشويه الثقافة الأمومية بكون الخلق والوجود كان من الإله الواحد “يم”، الذي لم يكن له شريكة. وكذلك فقد رأينا بشكل واضح العناصر التي تقاطع فيها النص الفينيقي مع سابقيه السومري والكنعاني، وهو دليل كبير على اندماج ثقافات المنطقة بعضها ببعض.