التكوين الكنعاني:
أقام الكنعانيون في سوريا الشرقية وكان لهم وجه بحري تجلى على الساحل السوري، وحتى بدايات القرن الفائت كانت الضبابية تسيطر على الصورة المحيطة بأسطورة التكوين الكنعانية، إلا أنه وباكتشاف مدينة أوغاريت، بدأت ملامح هذه الأسطورة تتضح لنا. حيث تم العثور على العديد من الألواح الفخارية في أنقاض معبد بعل وهي في حالة يرثى لها من التشوه والتلف.
وبعد حل رموز الكتابة الأوغاريتية، ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نقشت على تلك الألواح، هي عبارة عن كتابة أبجدية تنتمي لعائلة اللغات السامية، وأنها أول أبجدية خطتها يد الإنسان.
ومن خلال دراسة موضوعية للإرث الإنساني لهذه الحضارة نجد أن طقوسها وشعائرها لا تختلف عما ألفناه في الحضارات المشرقية في الألف الثالث قبل الميلاد إلا بما فرضه الزمن من تطور عليها، وإنما تميزت بتوضعها على الساحل فقد تجلى هذا التميز من خلال رمز معتقدي خاص بالبحر هو الإله “يم” الذي لا نجده في الثقافات الداخلية.
تصنف الألواح الفخارية التي قدمت لنا الأسطورة الكنعانية ضمن ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى تضم الأساطير المتعلقة بالإله بعل، وعلاقته مع بقية آلهة المجمع الفينيقي، وتنطوي ضمنها أسطورة التكوين الكنعانية. المجموعة الثانية تضم ملحمة (كرت)، والمجموعة الثالثة تضم ملحمة (أقهات).
لا يوجد تسلسل دقيق لمراحل الخلق والتكوين الكنعانية وذلك نتيجة للتلف الذي أصاب الألواح الفخارية، خاصة فيما يتعلق بأساطير بعل، مما أتاح المجال أمام الإسهاب في وضع تسلسلات من قبل الأكاديميين ومترجمي الأبجدية الأوغاريتية.
في هذه الدراسة سنستعرض بإيجاز التسلسل الذي قدمه البروفيسور Cyrus H. Gordon والذي حذا حذوه الباحث السوري فراس السواح.
على غرار التكوينين الكنعاني والبابلي وقبل بداية الكون كانت حالة العماء والتي يمثلها هنا “يم”، ولأنه كان لا بد في لحظة ما أن ينشأ شيء من العدم، كان هناك “بعل” إله الخصب الذي يلعب بهذه الأسطورة نفس الدور الذي لعبه مردوخ في الإينوما إيليش البابلية في قهر المياه الأولى وإحلال نظام الكون.
تصور الأولاح الفخارية النزاع الدائر بين بعل ويم، فتبدأ الأسطورة بأن يعزو يم إلى اثنين من رسله إرسال كتاب إلى مجمع الآلهة، يطلب فيه تسليم بعل ليصبح عبداً له:
“سلموا إلي ذاك الذي تؤوون
ذاك الذي كلكم تؤون
سلموا إلي بعل وأنصاره
ابن داجون، حتى أرث ذهبه”
وبعد وصول الرسولين يقومان بقراءة مطالب يم مباشرةً أمام مجمع الآلهة، فيغضب بعل، وينهض بسلاحه لقتل الرسولين، لكن الإلهتين عناة وعشتار تمنعانه من ذلك، لأن العرف يقضي بصيانة حياة الرسل. بعد ذلك يتعاون الإلهان الحرفيان “كوثر” و”حاسيس” مع الإله بعل، فيقومان بصنع سلاحين فتاكين ليستخدمهما ضد يم، ليسقط يم أمامه معلناً هزيمة الفوضى والعماء:
“وضرب منكبي الأمير يم
في المنتصف، بين ذراعي سيد النهر
لكن يم كان قويا
فلم يهن ولم يقهر
وضرب رأس الأمير يم
في المنتصف، بين عيني سيد النهر
فخرّ يم وتضعضع
وتهاوى ساقطا
تخاذلت مفاصله وهوت قامته”