( الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون/ الأردن 2025 في 111 صفحة من القطع المتوسط)
هل من السهل أن تقف على تفاصيل الذي مضى برواية؟
لا طبعا، فرشيد تناول حكاية جده رشيد في أواخر العهد العثماني، حين كان التجنيد إجباريا، حين كان الناس يحفرون الصخر من أجل لقمة عيشهم، حين كانت القرية صغيرة، والناس يعرفون بعضهم تماما حين كانت العائلة صغيرة مهما كبرب.
رشيد الجد وحيد أبويه، ورغم ذلك يطلبونه للتجنيد، ويتجاوزون القانون، بأمر السلطان العالي. رشيد يرفض أن يكون فراري، ويختبئ في الجبال والأودية، فيواجه الطلب بشجاعة، ويتكل على الله وعلى نفسه الأبية، ويواجه دموع أمه وأخواته ونظرات أبيه بحزم وبثقة. رحلة طويلة من المشي، وركوب عربات تجرها الخيول، وقطار متهالك، من جيبيا إلى القرى المجاورة، إلى بيرزيت، إلى القدس، إلى يافا، إلى الشام. يواجه رشيد كل ذلك بصبر، وهو الشغوف للتعرف على كل منطقة يمر منها، فكل لها ذكرياتها المحكية والدينية والتاريخية، يواجه حر الصيف ولسعات الناموس والعطش والجوع والغربة، فيقيم علاقات مع الذين حوله، يكسر من خلالها وحدته وتعبه والإنغماس في ردود فعل أهله وقلقهم حتى في أصعب الظروف. يعمل رشيد لأن يكون متفوقا، فيصبح مدربا، ويختاره القائد في مهمة سرية، لكن رشيد النبيه، ينتبه لأغراض أخرى في نفوس القادة، ويخرج منها بأمان. تمر الشهور فيتم اختياره في مهمة إلى القدس، وهناك تنتهي الحرب بهزيمة الدولة العثمانية، فيعود إلى أهله.إن ما يحسب لرشيد هو تناوله مرحلة تاريخية قلت الكتابة عنها، فانصبت الروايات الفلسطينية على مفاصل ما بعد الحكم العثماني، وودت أن أقرأ المزيد عن هذه المرحلة، بما فيها وما عليها، خاصة أن هناك وجهات نظر مختلفة مما جرى، فالعثمانيون يرون بأن العرب خانوهم، والعرب يشيرون فقط للجوع والجهل دون أن يتوقفوا عند نهاياتها ومآلاتها التي أتت لنا بمصائب وكوارث لم تنته حتى اليوم. أقصد أننا كما أعتقد لم نر كل ما جرى من نقطة أعلاها، وتبنينا وجهة نظر الغرب من الدولة العثمانية، ورسخنا تقسيم البلاد لسايكس وبيكو، وانحزنا دون أن ندري للثورة العربية الكبرى التي لم تحررنا. فهل كان الفراري حتميا وفي خدمة من؟ حتى لو كانت الدولة العثمانية لا ترى سوى تتريكنا، فالمرويات الشفوية متناقضة أيضا في العداء للدولة العثمانية من جهة، ومعاملة الجنود العثمانيين بإطعامهم ودفن جثثهم فيما بعد. أقصد أن الفقر والجهل لم يكن لدى العرب بالمعنى المتعارف عليه تعليميا واقتصاديا ومعيشيا، بل كان هناك جهل سياسي، ما زلنا ندفع ثمنه.
لم يشر في الأدب المنشور أن الدولة العثمانية هي أول من سمح ببناء المستوطنات اليهودية، ولم يشر أن المدارس التبشيرية قد نخرت البلاد بطولها وعرضها تحت حجج حماية الأقليات، أما ما جاء بعدها في فترة الانتداب فيتناوله البعض بإنشاء المدارس التي
لم تكن إلا في خدمة المستعمر الجديد، والانفتاح الاقتصادي النسبي الشكلي الذي له ما بعده في تشريدنا وإحلال غيرنا. إن عدم رؤية الصورة الكاملة لمراحل راحت، هو جهلنا، وعودتنا الذاتية.
لقد عاد رشيد إلى أهله وبلدته، بعد انتهاء الحرب، بعد هزيمة الدولة العثمانية، وهي عودة فردية على كل حال، فهل كان الفرح الفردي على حساب الرؤية الجمعية للشعوب العربية، وهل الهروب من “الدلف” إلى “المزراب” يشكل عامل فرح؟ وهل الانتقال من بلاد
الشام الواسعة إلى فلسطين المحدودة، والقدس وجيبيا هو حياة جديدة فيها كرامة؟ لا أعرف. فعودة رشيد إلى القدس كانت بمهمة من الدولة العثمانية، وفرحه الفردي جاء صدفة دون دراية بمصير الحرب الدائرة وقتها، فهل قرار العثمانيين بعودة المجندين إلى بلادهم بمهام محددة هو نهاية الإمبراطورية؟
أما شجرة الخروبة، تلك الواقعة في ساحة بيت جيبيا، الدائمة الخضرة، فلها مفاهيم متناقضة، ليس كونها في الواقع هناك، بللها رموز كان يجب التوقف عندها، والإبحار في معانيها، فشجرة الخروب هي رمز للصبر وطول العمر، وهي المخبأ، مخبأ سيدنا زكريا، وربما هذا ما قصده رشيد في روايته، لكنها في الميثولوجيا الشعبية مرتبطة بالجن الذي يسكنها الذي لم يتناوله رشيد، ولم يمسه، وهي الشجرة التي زرعت لخراب هذا العالم (قصة سيدنا سليمان)، وهي التي اتكأ عليها حين مات، فتشير إلى المكان الخراب أو رجل عسير، وقد تدل على أوقات عصيبة أو على فشل في تحقيق الأهداف، والمخاطر الاقتصادية والمادية، واليوم هي الشجرة التي تبيت تحتها الخنازير نهارا، وتعيث ليلا في الحقول خرابا، فالخنازير تشبه الحيوانات المقدسة، يحرم دينيا أكل لحمها. فهل قصد كاتبنا رشيد ذلك، بأن العودة كانت فاتحة أسوأ من قبلها؟ لا أعرف.
إن العمل الفني الكتابي، ليس تسجيلا لما حدث في الواقع، فله رموزه ودلالاته، فاختيار الأحداث والأماكن والشخوص هو قرار الكاتب، فظلت هذه المحطات بحاجة لنقاش أكثر دقة.
أسئلة كثيرة تدور في البال، بعيدا عن الحياة الصعبة وقتها: لماذا تهتم الدولة بواجبات الرعية، ولا تهتم بحقوقهم؟ لماذا يتم تطبيق الدستور بمراسيم القادة حتى لو خالفت الدستور؟
لماذا هزمت الدولة العظمى رغم كل الجهود الفوقية، واحتلت بلادنا فلسطين؟
هل هزيمة الدولة من الأعداء هي الطريقة المثلى للعودة إلى البلاد؟
ما قيمة الإنسان في دولة لا ترى غير مصلحتها الذاتية؟<الخ
أسئلة عديدة ما زالت تطرح، فنحن، جيلنا، لسنا فقط الذين عانينا من الأزمات المميتة، بل ٱباؤنا وأجدادنا، وأولادنا وأحفاد
لأكن صريحا أخي رشيد، أنني وددت أن أقرأ المزيد عن هذه
المرحلة
سعدت بقراءة هذه الرواية، وهي الأولى لك، ومتأكد أنك تملك المزيد من المعرفة والقدرات لتناول مراحل لاحقة.
كل التبريكات والتقدير، وأنت لك بصمتك في القراءة النقدية لعديد الأعمال الثقافية