
ليت للحواكيرِ ذاكرة.. وللسّواقي وأشجار الزّيتون والسندْيان والآبار التي جفّتْ؛ ذاكرةٌ.. تحكي للعالم عن حقبة مؤلمة، مظلمة، ولكنها مشرّفة ليركا وأهلها، رُغم الوجع والخذلان والشّتات.. وهل تحمل ريح الشمال، سيرة أشخاص مرّوا من هنا؟ وتفرقوا كالنجوم في السّماء، هل يذكر الحجر والشجر، وجوه أطفال كانوا يتقافزون كالغزلان، بين كروم زيتون قريتي وبيادِرها اليانعة، وحواريها الحجريّة، وهل تذكر الآبار يد نساء انتشلت ماء الصبر والجبر، وعجنت رغيف الخبز المجبول بالإيثار، والأريحية والوفاء العظيم.. من أجل ضيوف مرّوا من هنا.. ورحلوا دون أن يذكرهم أحد..
ليت الحجر ينطق ومعه ينطق الشجر..
قريتي يركا العريقة، فاتنة الجمال، أصيلة المنبت، عزيزة النفس، المعروفة بكرم أهلها ونخوتهم، وسخاء أياديهم التي كانت وما زالت لا تعرف غير العطاء، بيوتها مفتوحة للقريب والغريب، ونوافذها مشرّعة لكل عابر سبيل؛ أعطت دون منّة أو حساب، في تلك الفترة العصيبة، فترة “الهجيج” أو “النكبة” التي على أثرها قامت دولة إسرائيل الفتيّة..
كان ذلك في أواخر الأربعينات؛ إذ اشتغل غالبية سكانها في الفلاحة في مرحلة مفصليّة، هامّة، غيّرت وجه تاريخ الشرق الأوسط..
قريتي الخضراء أعطت كلّ ما بوسعها، حتّى جفّت مياه البركة التي كانت أكبر مجمع مياه في المنطقة، ومعها مياه الآبار، ومع ذلك نجد اليوم عدد غير قليل يشكّك في منهج وسلوك هؤلاء القوم الأشراف، سلوك بني معروف؛ أثر الزّيارة التي حملت طابعًا دينيّا بحتًا وهدفًا روحانيًّا محضًا، قام بها زمرة مشايخ من حضر السّورية، لمقام سيّدنا شعيّب عليه السّلام. في تلك الظروف الحالكة، هنالك قصص، تحرّك قلب الحجر؛ لها أول ولا يوجد لها آخر على حد قول د. شكري عرّاف.. الذي بفضله وعنايته، وإخلاصه، ومثابرته، وُثّقت تلك الفترة بأدقّ تفاصيلها، وما كان سيعرفها التأريخ دونه؛ حيث نزح عدد غير قليل من قرى ومدن الجليل والشاغور، لقرية يركا والقرى المعروفيّة المجاورة لها، تقاسموا مع أهلهم في تلك القرى النائية، المصاطب والحواكير؛ نسمة الهواء وشربة الماء، رغيف الخبز وهموم الحياة، وكل ما يمكن أن يساعدهم في الاستمرار بأبسط مقوّمات الحياة. في مدّة تراوحت من عدّة أشهر وامتدت لسنوات..
وقد رحل منهم الكثير، ولم يبق غير المعول المكسور والآبار التي جفّت، وذاكرة الشجر والحجر، ومعلومات شحيحة، بقيت عالقة في دهاليز الذاكرة، ولم يوثّقها أحد للأسف الشديد، والشكر موصول للدكتور الأستاذ شكري عرّاف، الذي وثّق الكثير منها في مجلّده الرائع ” لمسات وفاء.. و..” بكل تفانٍ ودقّة ومهنيّة. إصدار مركز الدراسات القروية، معليا. كانون ثاني 2007.
وسأنقل لإخوتي القرّاء، مقتطفات قصيرة من كتاب “لمسات وفاء” للدكتور الباحث شكري عرّاف، الذي لولاه لدُفنت الكثير من هذه القصص الحقيقيّة، في غياهيب النسيان.. وكان لقريتي يركا، نصيب كبير في هذا الكتاب القيّم.
“سرنا صامتين ننظر إلى بعضنا نظرة كآبة حتى وصلنا لموقع الماحوز، إلى الشرق من قلعة التوفانية، القريبة من قلعة صفد شرقي قرية يركا، أويّنا في المساء إلى حرم زيتونة معمرة، فردنا تحتها الفراش، لنقضي ليلتنا حتى إذا أصبح الصباح لنُتابع مسيرنا للبنان..كان السكون شامل والليل يكاد ينتصف هَهْ صوت ينادي من الجهة القبلية:
– هيهْ يا بو حميد.. هيهْ يا بو محمد..
قلت لجدّي: – إسمع..
اقترب الصوت وجدّي يردُّ عليه
– جاي تعال جاي..
كانت ملابس الرجل سوداء، ويعتمر كوفيّة كرّادي.. رأيته يعانق جدّي ويشهقُ بالبكاء.. صار جدّي يشهق ويقول:- مين أخوي سليمان؟ شو يا خوي خرب بيتنا..كنت أعرف من هو سليمان، والمكنّى أبا نوّاف غبيش، صديق جدّي من قرية يركا..
– لا يا زلمة.. ان شالله الحالة بتروق، يلْلا قوموا معي! اللي بيصير عليكوا بيصير علينا، إذا متّوا بنموت وإذا عشتوا بنعيش.. نادوا الكناين وولادهن، يلْلا الكلّ معي على يركا.. ص 638.
ألحَّ العم أبو نوّاف على جدّي ليحوله ليركا، نفضنا فراشنا وقمنا إلى يركا، ولمّا علم أهل قريتنا، قبّبوا قبّة واحدة، وتبعونا ليركا..
“كانت العشرات من ربّات البيوت اليرّكاويات وبناتهن منهمكات في العجن والخبز والطبخ لإطعام النازحين، كانت صفطات خبز الصاج شونة متلّلة، في ساحة الشيخ مرزوق معدّي، وبجانبها خوابي الزّيت للإئتِدام وأذكر أن بركة يركا وهي أكبر بركة في الجليل، كانت قد جفّت مياها جراء شرب طروش النازحين منها، فلم يبق في قاعها غير الطين الأسود الذي خلطَهُ اليراكنه بالموص، وجفّفوه بقوالب خاصّة كي يبنوا القواطع والعزب لإيواء النازحين” ص 640.
“بشيل الدحي عَ كتافي بشيل نينْ
وإذا نان الجبل مرَّة بشيِ لنين
ويومن كانت الجرّة بِشلنين
أهل يركا سقوا العالم شراب”
نعم لقد بيعت جرّة الماء بشلنين فلسطينين، عندما أصبح عدد سكان يركا خمسون ألف نسمة، ولكن أهل يركا لم يبيعوا الماء لا بشلنين ولا بجنيهين وذلك عام 1948. بقلم الشاعر الكبير سعود الأسدي..
وفي الأخير إذا لم ينطق الحجر والشجر! فالتاريخ يشهد على فضل بني معروف من كلّ القرى المعروفيّة، في إيواء النازحين، وإكرامهم بكلّ حميّة ومسؤوليّة وإعادتهم لقراهم الأصليّة وتثبيتهم بها، رغم صعوبة الزّمان وشظف العيش، وبإذنه تعالى للحديث بقية..
ليت الحجر ينطق ومعه ينطق الشجر..
قريتي يركا العريقة، فاتنة الجمال، أصيلة المنبت، عزيزة النفس، المعروفة بكرم أهلها ونخوتهم، وسخاء أياديهم التي كانت وما زالت لا تعرف غير العطاء، بيوتها مفتوحة للقريب والغريب، ونوافذها مشرّعة لكل عابر سبيل؛ أعطت دون منّة أو حساب، في تلك الفترة العصيبة، فترة “الهجيج” أو “النكبة” التي على أثرها قامت دولة إسرائيل الفتيّة..
كان ذلك في أواخر الأربعينات؛ إذ اشتغل غالبية سكانها في الفلاحة في مرحلة مفصليّة، هامّة، غيّرت وجه تاريخ الشرق الأوسط..
قريتي الخضراء أعطت كلّ ما بوسعها، حتّى جفّت مياه البركة التي كانت أكبر مجمع مياه في المنطقة، ومعها مياه الآبار، ومع ذلك نجد اليوم عدد غير قليل يشكّك في منهج وسلوك هؤلاء القوم الأشراف، سلوك بني معروف؛ أثر الزّيارة التي حملت طابعًا دينيّا بحتًا وهدفًا روحانيًّا محضًا، قام بها زمرة مشايخ من حضر السّورية، لمقام سيّدنا شعيّب عليه السّلام. في تلك الظروف الحالكة، هنالك قصص، تحرّك قلب الحجر؛ لها أول ولا يوجد لها آخر على حد قول د. شكري عرّاف.. الذي بفضله وعنايته، وإخلاصه، ومثابرته، وُثّقت تلك الفترة بأدقّ تفاصيلها، وما كان سيعرفها التأريخ دونه؛ حيث نزح عدد غير قليل من قرى ومدن الجليل والشاغور، لقرية يركا والقرى المعروفيّة المجاورة لها، تقاسموا مع أهلهم في تلك القرى النائية، المصاطب والحواكير؛ نسمة الهواء وشربة الماء، رغيف الخبز وهموم الحياة، وكل ما يمكن أن يساعدهم في الاستمرار بأبسط مقوّمات الحياة. في مدّة تراوحت من عدّة أشهر وامتدت لسنوات..
وقد رحل منهم الكثير، ولم يبق غير المعول المكسور والآبار التي جفّت، وذاكرة الشجر والحجر، ومعلومات شحيحة، بقيت عالقة في دهاليز الذاكرة، ولم يوثّقها أحد للأسف الشديد، والشكر موصول للدكتور الأستاذ شكري عرّاف، الذي وثّق الكثير منها في مجلّده الرائع ” لمسات وفاء.. و..” بكل تفانٍ ودقّة ومهنيّة. إصدار مركز الدراسات القروية، معليا. كانون ثاني 2007.
وسأنقل لإخوتي القرّاء، مقتطفات قصيرة من كتاب “لمسات وفاء” للدكتور الباحث شكري عرّاف، الذي لولاه لدُفنت الكثير من هذه القصص الحقيقيّة، في غياهيب النسيان.. وكان لقريتي يركا، نصيب كبير في هذا الكتاب القيّم.
“سرنا صامتين ننظر إلى بعضنا نظرة كآبة حتى وصلنا لموقع الماحوز، إلى الشرق من قلعة التوفانية، القريبة من قلعة صفد شرقي قرية يركا، أويّنا في المساء إلى حرم زيتونة معمرة، فردنا تحتها الفراش، لنقضي ليلتنا حتى إذا أصبح الصباح لنُتابع مسيرنا للبنان..كان السكون شامل والليل يكاد ينتصف هَهْ صوت ينادي من الجهة القبلية:
– هيهْ يا بو حميد.. هيهْ يا بو محمد..
قلت لجدّي: – إسمع..
اقترب الصوت وجدّي يردُّ عليه
– جاي تعال جاي..
كانت ملابس الرجل سوداء، ويعتمر كوفيّة كرّادي.. رأيته يعانق جدّي ويشهقُ بالبكاء.. صار جدّي يشهق ويقول:- مين أخوي سليمان؟ شو يا خوي خرب بيتنا..كنت أعرف من هو سليمان، والمكنّى أبا نوّاف غبيش، صديق جدّي من قرية يركا..
– لا يا زلمة.. ان شالله الحالة بتروق، يلْلا قوموا معي! اللي بيصير عليكوا بيصير علينا، إذا متّوا بنموت وإذا عشتوا بنعيش.. نادوا الكناين وولادهن، يلْلا الكلّ معي على يركا.. ص 638.
ألحَّ العم أبو نوّاف على جدّي ليحوله ليركا، نفضنا فراشنا وقمنا إلى يركا، ولمّا علم أهل قريتنا، قبّبوا قبّة واحدة، وتبعونا ليركا..
“كانت العشرات من ربّات البيوت اليرّكاويات وبناتهن منهمكات في العجن والخبز والطبخ لإطعام النازحين، كانت صفطات خبز الصاج شونة متلّلة، في ساحة الشيخ مرزوق معدّي، وبجانبها خوابي الزّيت للإئتِدام وأذكر أن بركة يركا وهي أكبر بركة في الجليل، كانت قد جفّت مياها جراء شرب طروش النازحين منها، فلم يبق في قاعها غير الطين الأسود الذي خلطَهُ اليراكنه بالموص، وجفّفوه بقوالب خاصّة كي يبنوا القواطع والعزب لإيواء النازحين” ص 640.
“بشيل الدحي عَ كتافي بشيل نينْ
وإذا نان الجبل مرَّة بشيِ لنين
ويومن كانت الجرّة بِشلنين
أهل يركا سقوا العالم شراب”
نعم لقد بيعت جرّة الماء بشلنين فلسطينين، عندما أصبح عدد سكان يركا خمسون ألف نسمة، ولكن أهل يركا لم يبيعوا الماء لا بشلنين ولا بجنيهين وذلك عام 1948. بقلم الشاعر الكبير سعود الأسدي..
وفي الأخير إذا لم ينطق الحجر والشجر! فالتاريخ يشهد على فضل بني معروف من كلّ القرى المعروفيّة، في إيواء النازحين، وإكرامهم بكلّ حميّة ومسؤوليّة وإعادتهم لقراهم الأصليّة وتثبيتهم بها، رغم صعوبة الزّمان وشظف العيش، وبإذنه تعالى للحديث بقية..