جواد بولس
قصف الطيران الاسرائيلي، فجر الأحد الفائت، مبنى المستشفى المعمداني في غزة، مما أدّى إلى تدمير وإلحاق أضرار جسيمة بمبانيه الأساسية. وأفادت مصادر في المستشفى أنّ أحد موظفيها تلقى اتصالا، من شخص قال أنه من الأمن الاسرائيلي، يطالبه باخلاء المبنى.. وبعد هذا الاتصال بربع ساعة تمت عملية القصف الصاروخي فاضطر المرضى والجرحى الى الهروب وافتراش الشوارع المحيطه بحثا عن أمكنة آمنة. وقد تم التبليغ عن وفاة طفل مريض واحد خلال عملية الاخلاء.
لقد تعرض المستشفى المعمداني، المعروف أيضا باسم “المستشفى الأهلي العربي”، للقصف الاسرائيلي أكثر من مرة؛ كانت أقساها يوم السابع عشر من أكتوبر عام 2023 حين أغارت طائرات سلاح الجو الاسرائيلي في ساعات الليل الاولى على مبنى المستشفى وساحاته، مرتكبة مجزرة مروّعة قتل فيها، حسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، ما يقارب 500 شخص، وأصيب ما يقارب 600 شخص. كما وتعرضت، خلال الحرب، معظم مستشفيات القطاع للقصف وللتدمير وللاقتحامات العسكرية ولاعتقال كوادرها الطبية ونزلائها .
لقد صادف الاعتداء على المستشفى المعمداني مناسبة احتفال المسيحيبن في العالم بيوم دخول يسوع المسيح إلى القدس، أو ما يسمى “بأحد الشعانين”؛ فيه يرفع المؤمنون في كنائسهم ومسيراتهم سعف النخيل وأغصان الزيتون، أسوة بالجموع التي خرجت لاستقبال يسوع وهو يدخل القدس ليتمم رسالته على طريق الآلام وليصلب ويقوم في الفصح المجيد، العيد الذي تحتفي به القدس في هذه الأيام ويحتفي معها المسيحيون في جميع أرجاء العالم. لا نعرف فيما اذا تعمّدت اسرائيل قصف هذا المستشفى في هذا اليوم بالذات، وهي مطمئنة لموقف معظم رؤساء الدول المسيحيين ولموقف رؤساء الكنائس العالمية، خاصة وانها تقوم بقصف غزة بوحشية وتدمّر مدنها ومخيماتها وتقتل أهلها منذ عام ونصف ولم يتدخل اولئك الزعماء إلا من باب رفع العتب ودفع ضريبة الكلام وحسب؛ ومثلهم فعل معظم رؤساء الكنائس العالمية على تفاوت مضامين البيانات التي أصدروها.
كان تصريح وزير خارجية بريطانيا، ديفيد لامي، مثالا لمواقف ممثلي الدبلوماسية الغربية الهزيلة أمام ما تتعرض له غزة من جرائم حرب؛ فقد اكتفى بشجب الهجوم الصاروخي على المستشفى واصفا إياه “بالمؤسف” مضيفا على صفحته تعقيبا جاء فيه أن “الاعتداءات الاسرائيلية على المنشآت الصحية قد عرقلت بشكل ملموس فرص تلقي الخدمات الطبية في القطاع. لقد اعتدي على المستشفى مرارا منذ بداية الحرب. يجب أن تتوقف هذه الاعتداءات المؤسفة . طريق السلام هي الديبلوماسية. كفى لسفك الدماء” . لو لم يكن كلامه مستفزا وموجعا لوصفته بالمضحك؛ فبريطانيا، حكومة وكنيسة، هي أول من يتوقع أن تستنفر من الاعتداءات المتكرره على هذا المستشفى بحكم العلاقة التاريخية معه منذ تاسيسه في أواخر القرن التاسع عشر وحتى أيامنا هذه .
أما سكرتير مجلس البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، الكاهن دون باندر، فقد هاجم بشدة قصف المستشفى بالصواريخ، واصفا ما فعلته اسرائيل بأنه “إهانة لجميع المسيحيين ومسًّا خطيرا بالقيم الأخلاقية الانسانية”، مشيرًا الى أن “طائرات من طراز (f- 16) التابعة لقوات الاحتلال الاسرائيلي قامت في الساعات الأولى من يوم “أحد الشعانين” بقصف المستشفى المعمداني وتسببت باصابات مباشرة لمبانيه.” هذا كلام واضح وصحيح، وإن لم يكن كافيا ومتأخرا وغير مؤثر، يبقى أوضح وأصدق مما جاء في بيان أصدرته بطريركية الروم الارثوذكس في القدس، استهلته بالقول “في هذا الأحد المقدس، أحد الشعانين، بينما يرفع المؤمنون حول العالم أغصان الزيتون والنخيل تذكارًا لدخول ربنا يسوع المسيح الى اورشليم، دخول لم يكن بغزو أو بسلاح، بل بتواضع وسلام ورحمة الهية، نجد قلوبنا مثقلة بالحزن والألم والمعاناة في الأرض التي مشى عليها الرب”. وبعد وصفهم مكانة المستشفى “المنهك من الحصار منذ شهور”، ودوره كعنوان للعلاج، وتعرضه “لضربة جوية اسرائيلية أخرجت أقسام الطواريء عن الخدمة” ينتهون الى القول “مع ذلك، حتى وسط هذا الخراب يبقى نور الايمان غير منطفىء” ويؤكدون أن “على الكنيسة التي تحرس قبر المسيح وتعيش يوميًا على درب آلامه وقيامته لا يمكننا أن ندير ظهورنا لهذا الألم، لكننا نرد بالصلاة ونشهد بأن الرحمة أقوى من الكراهية وأن الانسانية حتى وهي مجروحة ليست مهزومة”. ما نفع هذه الديباجات الفضفاضة يا “خواجات ” في زمن هذا “العمى” والموت الرخيص؟ ومن بحاجة لتقولوا لاهل غزة ولجميع الفلسطينيين مسلمين ومسيحيبن، كيف تكون الاهانة ومن هم الذين أهانوهم عبر تاريخ استعمارات كنائسكم ودعم حكوماتكم وأنتم تسرقون مريمتهم وبشارتها، ومهد مسيحهم وقبره، وتركتموهم يسيرون عراة على دروب آلامهم من الجليل شمالا حتى آخر مغارة في بلادهم. فغزة قبل أن تكون بحاجة لرحمة بياناتكم هي بحاجة الى صدق نواياكم ولمواقفكم غير المتزلفة والمترنحة، والى أفعالكم الحقيقية. إن تاريخكم في فلسطين، قبل ذبح غزة، هو كتاريخ جميع المستعمرين البيض، فلماذا سوف تصدقكم غزة وقد تخلّيتم عنها قبل أحد الشعانين وتركتموها تذبح ووقفتم تتمتمون هراءات عساها تعيد بعضا من كرامة صليبكم الذي تقصفه اليوم طائرات اسرائيل في غزة، وقد اهين قبلها في القدس وطبريا وغيرها. لم يُهن أهل غزة لان طائرات إسرائيل قصفتهم في أول ساعات من أحد الشعانين، بل إنهم يقتلون، مسلمين ومسيحيين، ويعرفون أن صواريخ الغزاة في غزة، كما في كل فلسطين لا تفرق بين دين ودين ولا تتوقف في الأضحى ولا في الفصح ولا عند أحد الشعانين.
انكم تشاهدون مأساة غزة وهي تقاوم محاولات صلبها/محوها ودفنها في البحر أو في بطن الرمال، وتعرفون أنه اذا محيت غزة سيأتي الدور على القدس وعلى أخواتها في فلسطين. فلا غرو أن تتذكروا، ونحن وأنتم نحيي ليلة الجمعة العظيمة ونعيش بهجة الفصح المجيد، خلاصات تلك الايام ومعانيها كما روتها الكتب وتناقلتهاالأجيال وحفظها أهل فلسطين . فحين حمل المقدسيون سعف نخيلهم واغصان زيتونهم كانت تلك تحيتهم للمسيح المنتصر، لا على قيصر روما وعلى زبانيته في اورشليم ولا على “طائراتهم” ومكائد أعوانهم من الاسخريوطيين فحسب، بل كان منتصرا على الموت نفسه مقدّما لأهل الأرض أسمى معاني الفداء والخلاص ورسالة تقول إن كل حياة تبدأ بموت وكل فرح يسبقه وجع وآلام؛ فلولا الصلب ما جاءت القيامة. أليست هذه معاني الفصح في بلادكم؟
القدس في الفصح مغتصبة وحزينة وقد أضاعت قيامتها ومسيحها منذ وطأها الغزاة وتُركت لكم فريسة، ووقف اخوتها “يسترقون السمع وراء الباب”. وغزة في الفصح تقتل وهي حزينة لأن اخوتها غابوا وأنتم تخليتم عنها بعد أن تخليتم عن مسيحها. الأيام في فلسطين، رغم بياناتكم ، او ربما بسببها، تسير ثقيلة وكأن الزمن قد توقف منذ دقت المسامير في راحتي “ابن الانسان” وسقي الخل على الصليب؛ ففتشوا عن الحكمة في رواية الفصح وستجدون أن أبناء فلسطين يتجرعون اليوم الخلّ كما تجرّعه ابنها من يد الطغاة وسجن وعذب متهما بالكفر وبالتمرد وحوكم وصلب حتى روت دماء راحتيه أرض فلسطين .
لن استرسل بتفاصيل حكاية أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح؛ فأنا لجأت اليها بعد أن استذكرها رؤساء الكنائس في بياناتهم مخاطبين “قيصر” هذا الزمن، حكام اسرائيل، لكنهم غافلون أو متناسون أن الفصح هو عيد العبور من الخطيئة الى الفضيلة، وعيد التجاوز والانعتاق نحو الحرية والكرامة، وهو عيد القيامة، أي عيد الرجاء والأمل.
هكذا آمنّا صغارًا حين كنا خائفين، وواجهنا المجهول والمطلق وسكن في بلادنا العجز؛ فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددنا ما رددوه فصار يوم الفصح “هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به “، وكبرنا وبقي العيد عيدنا في الشرق، عيد الحياة وعيد التضحية والمحبة والفداء، وعيد فلسطين رغم محاولات الغرب أن يسرقوه منا وأن يتسلقوا على صليبه .
سيحتفي العالم، هذه الليلة “بالجمعة العظيمة” وفي فلسطين سيرنمون “اليوم عُلّق على خشبة الذي علق الأرض على المياه” وسوف “تبكي “عذارى غزة والقدس” على دروب آلامهن كما بكت عذارى اورشليم قبل ألفي عام، وكما بكت معهن امهن مريم ؟ لقد ذهبت روما وبقي قوس “بيلاطس البنطي” في القدس شاهدا على موبقات الظالمين؛ وبقيت غزة كبحّة المدى المذبوح واختًا لفجره الدامي وقطرة ندى السماء. قد يغفو على جفونها الوعد لكنها حتما ستصحو ذات فصح ليحتضن أهلها رقيقو النعال “قاف القمر ويغرفون من خواصر مريماتها نور الازل”، فهم كما قال النابغة:
“يصونون أجسادا قديما نعيمها
ولا يحسبون الشر ضربة لازب”
أي لازم ..
فهل ستعطون نصف عمركم ليبقى أهل غزة وجميعكم، في العيد وبعده، فوق الأرض ؟