الموقف من المرأة (من المتنبِّي إلى الشَّريف الرَّضي) أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن أنَّ اللُّغة يصعب الاحتجاج بها في شأن محاكمة أساليب العصور العَرَبيَّة. واستشهد على ذلك بشواهد على أنَّ لُغة «نَهْج البلاغة» لا تكشف، في ذاتها، عمَّا يُمكن أن يُتَّخَذ حُجَّةً في بطلان نِسبة نصوصه إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، بمقدار ما يتبدَّى ذلك في جانبَي الأساليب والمحتويات.  فقلتُ له:

ـ شرَّقت بنا وغرَّبت، يا مولانا!

ـ لا فائدة ممَّن لا يُشرِّق ولا يُغرِّب!

ـ ممَّا كنتَ ناقشتَه علاقة «نَهْج البلاغة» بالاعتزال. وقد عزوتَ ذلك إلى آثار الاعتزال أصلًا لدَى (الشَّريف الرَّضِي) وأخيه (المرتضَى). وأُحيلك هنا إلى: كتاب عنوانه «الفلسفة والاعتزال في نَهْج البلاغة»، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1987).

ـ شكرًا للإحالة. غير أنَّ من يطالع عنوان هذا الكتاب قد يخيَّل إليه أنه كتابٌ نقديٌّ علميٌّ يُناقش شُبهة ما تشبَّع به «النَّهْج» من التفلسف والاعتزال، وهما مذهب (الشَّريف الرَّضِي) وأخيه (المرتضَى) فكريًّا، بعد مذهبهما البديعيِّ العباسيِّ، وقد تجلَّيا في ثنايا نصوص «نَهْج البلاغة» على نحوٍ لافت، حتى لا أقول: على نحوٍ فاضح.

ـ أ وليس الكتاب كذلك؟

ـ عندما تطالع هذا الكتاب، تكتشف أنَّ مؤلِّفه إنَّما يحاول إقناعنا بأنَّ (عَليًّا) هو أصل الفلسفة، ومؤسِّس الاعتزال! وما دام الأمر كذلك، وما دامت العقيدة منعقدة لتسويغ كلِّ شيء، بأنَّ عَليَّا أصل الفلسفة، والاعتزال، والأدب، والشِّعر، والنثر، والنحو، والصرف، والبديع، وعلم الفلك، وعلم الفيزياء، وعلم الأحياء، وعلم الغيب، وعلم الشهادة، وكلِّ ما يخطر في الذهن من فِكرٍ وعِلمٍ وفلسفة، تطوَّرت عبر التاريخ والتجربة المعرفيَّة البَشريَّة؛ ما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحدِّ من الإيمان الذي لا يتزعزع- مهما خالف المنطق والعقل والتاريخ- فليس يصحُّ في الأذهان شيء، وقد آن لأبي حنيفة أن يمدَّ رجليه!

ـ اللَّهم إنِّي صائم!

ـ لا إشكال في أن تكون صائمًا، شريطة أن لا تكون نائمًا!

ـ لا فرق اليوم؛ فلا صوم بلا نوم!

ـ لا تسجع، وإلَّا نسبتك إلى العصر العبَّاسي الثاني، ولا أبالي! وأمَّا (الشَّريف الرَّضِي) فما أجمله شاعرًا.. وما أشكله ناثرًا! ولقد كان من محاسنه، مثلًا، أنه من أولئك الشعراء الذين أنصفوا المرأة نِسْبيًّا في شِعرهم.

ـ ماذا تقصد؟

ـ كنَّا في مقاربة سابقة([1]) قد أشرنا إلى أنَّ ما حدثَ في التاريخ الاجتماعي بعد الإسلام كان خلافَ المتوقَّع في شأن المرأة.  وما عليك لتُدرِك ذلك سِوَى أن تستقرئ المواقف من المرأة لدَى معدودِين من كِبار الشُّعراء، أمثال (الفرزدق)، و(أبي تمَّام)، و(البُحتري)، و(أبي العلاء المعرِّي).(2)  حتى إنَّك تكاد لا تقف على بكاءٍ على وفاة أُنثى في الشِّعر العَرَبي القديم، إلَّا نادرًا.  حتى إنَّ النِّساء أنفسهنَّ إنَّما كُنَّ يَبكين على أبنائهنَّ، أو آبائهنَّ، أو إخوانهنَّ، لا على بناتهنَّ.(3)  وأمَّا رثاء الجواري في التُّراث، فوافر.

ـ لماذا؟

ـ ذلك لأسباب معروفة، اقتصاديَّة وتجاريَّة؛ من حيث كانت الجارية سلعةً ثمينة، كالناقة والفَرس.

ـ لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! ألم تكن ثمَّة استثناءات؟

ـ كنا قد استثنينا، في تلك الدراسة، بعض الشعراء، منوِّهين بالخِطاب الإيجابيِّ نِسبيًّا لدَى (المتنبِّي)، الذي قد يُحسَب له- مع عُروبيَّته الصارخة- مخالفًا بعض التمييز العنصريِّ ضِدَّ المرأة، الذي تجلَّى، لدَى الشُّعراء وغيرهم، من سابقيه ولاحقيه، ومنهم (البُحتري) و(المعرِّي).  فرثَى جَدَّته، ورثَى أُمَّ (سيف الدَّولة)، ورثَى أُخته.  وقد تبيَّن أنَّ مثل هذا الحِسِّ الإنسانيِّ كان شاحبًا في الشِّعر العَرَبيِّ القديم بعامَّة.

ـ شاحبًا؟ وما علاقة هذا بصاحبك (الشَّريف الرَّضِي

ـ لقد رثى (الشَّريف الرَّضِي) أُمَّه كذلك، بمثل مع رثى (المُتنبِّي) جَدَّته. على أنَّ المستوى الذي وصل إليه المُتنبِّي في تصوُّره لمنزلة المرأة لا يتخطَّاه الرَّضِي. بل يمكن القول: إنَّه كان يترسَّمُه، وكأنه ينظر إلى المُتنبِّي في قصيدتَيه، في رثاء جَدَّته ورثاء والدة (سيف الدَّولة).

ـ اخرجتنا هنا من النثر وأدخلتنا في الشِّعر! كيف؟

ـ يقول (الرَّضِيُّ) من قصيدته الرثائيَّة في والدته (فاطمة بنت الناصر، رحمها الله)، التي يُذكَر أنها توفيت في (شهر ذي الحجة، من سنة 385هـ)، ومطلعها:

أَبكيكِ لَو نَقَعَ الغَليلَ بُكائي   …   وأَقولُ لَو ذَهَبَ المَقالُ بِدائي

… … …

لَو كـانَ مِثلَكِ كُـلُّ أُمٍّ بَـرَّةٍ   …   غَنِـيَ البَـنونَ بـِها عَنِ الآبـاءِ

… … …

شَهِـدَ الخَلائِقُ أَنَّها لَنَجِيبَـةٌ   …   بِدَليلِ مَن وَلَدَتْ مِنَ النُّجَباءِ(4)

ـ جميل!

ـ وهذا يذكِّرنا بقول (المُتنبِّي):

ولَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ   :::   لكانَ أَباكِ الضَّخمَ كَونُكِ لي أُمَّا

كما يذكِّرنا باستثنائه تلك المرأة المرثيَّة من النساء، إذ يقول:

ولَيسَتْ كالإِناثِ ولا اللَّواتي   :::   تُـعَـدُّ لَـها القُـبورُ مِنَ الحِـجـالِ

وهنا يَرِد الاستثناء النمطيُّ لدَى الشاعرَين.  فمع أنَّه قلَّما رثَى شاعرٌ عَرَبيٌّ امرأةً، فإنَّه إذا جُنَّ أحدهم ففعل، سارع إلى الاعتذار، بالإعلان عن هذا الاستثناء، قائلًا: إنَّ المرثيَّة ليست كسائر النِّساء، أيُّها الناس، بل ليست بامرأةٍ أصلًا، وإلَّا لما استأهلتْ الرِّثاء!  إنَّ الشاعر بهذا يحاول تعميد نفسه، للتطهُّر من رجس رِثاء النِّساء، الذي أخبرنا (الفرزدقُ) و(البُحتريُّ) أنَّه يُعَدُّ عيبًا، وعجزًا، وممَّا يُقتَل دونه الشُّعراء حياءً، إنْ خَطَرَ لهم في بال!  ليقول الشاعر المسكين لمجتمعه: كلَّا، لستُ بقليل الحياء، ولا بمجنون، ولا بعاجز، لكنَّني إزاء امرأةٍ استثنائيَّة، «ولَيسَتْ كَالإِناثِ»، ولو كانت كالإناث، ما ارتكبتُ حماقة هذا المنكَر، فاخترقتُ خَطَّه العُنصريَّ الأحمر!

ولَـو كـانَ النِّـساءُ كَمَـنْ فَقَـدْنـا   :::   لَـفُـضِّلَتِ النِّـساءُ عَلى الرِّجـالِ

وما التَّأنيثُ لِاسمِ الشَّمسِ عَيبٌ   :::   ولا الـتَّـذكـيرُ فَـخـرٌ لِـلـهِـلالِ

ـ عجيبٌ أمرك يـ(ذا القُروح)! لا يعجبك العجب، ولا الصيام في رجب!

ـ يعجبني، ما لم يكن صيام النِّيام!

ـ أبياتٌ لقيتْ القبول والذيوع والشُّهرة.. كيف تفسِّر ذلك؟

ـ ما كان لها أن تنال شُهرةً، حتى أصبحت مَضرِبَ المَثل والحِكمة، لولا أنَّها صادف عقولًا ترى في تقرير هذه الحقائق البدهيَّة شِعريَّةً لافتةً، بل مدهشة.  ولو قيلت في أُمَّةٍ أخرى، مختلفة القِيَم، لنُظِر إليها على أنَّها لَغْوٌ سخيف؛ حيث لا يُنظَر إلى التَّأنيث على أنَّه عيبٌ أصلًا، ولا إلى التَّذكير على أنَّه فخر؛ فليسا سِوَى نوعَين متكاملَين، لكلِّ منهما وظيفته ومكانته وامتيازه النوعي.

ـ لن نناقش هذا كلِّه، ولنَعُد إلى حيث كُنَّا، حول (القبانجي)، وتفضيله بلاغة «النَّهْج» على بلاغة «القرآن»!

ـ أمَّا حيث كُنَّا، فكُلٌ حُرٌّ في اعتقاده، مسؤول عنه، بل لعلَّنا نكتفي بتلك الشواهد الدالَّة على كيفية التعامل العابث بالنصوص، والوقوع في مزلقَين: أخلاقيٍّ، وعِلميٍّ.  وهما أمران يبعثان على الاستهجان، عقلًا ومبدأً، بقطع النظر عن أيِّ اعتقاد أو انتماء.  لذا سترى بعضهم يناقش اللُّغة، ويتصدَّى للبلاغة، ويدَّعي نقد النصوص، مع أنه شِبهُ عامِّيٍّ في هذه الأبواب جميعها، بل لا يكاد يُحسِن حديثًا ولا قراءة!  وهذه من الغرائب، أن يخوض عاقل في ميدان، وهو لا يُحسِن أوَّلياته، ولا أدنى بسائطه، فيفتضح على الملأ، وعلى مرِّ التاريخ!  وإن كانت مجمل نقوده للنصوص- أو ما يحسبها هو كذلك- لا تأتي بجديد يُذكَر، فبعضها قديم منقول، وبعضها متداول لدَى الضِّفَّة الدِّينية الأخرى. سِوَى أنَّ الجديد الجرأة، غير العلميَّة، على الاستخفاف بعقول المتابعين، والثقة الساذجة، التي لا تَصدر عن عقلٍ يحترم الحقيقة المعرفيَّة، ويرعى أخلاقيَّات البحث والعِلم. وإذا كان هذا نموذجًا صارخًا على الخَطَل في قراءة النصوص، فإنه نموذج أصرخ على ممارسة الليبراليَّة، على الطريقة العَرَبيَّة، أي ليبراليَّة: «خالفْ، تُعرف»!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  ورقة بحثٍ قُدِّم ملخَّصها في (الصالون الثقافيِّ بنادي جُدَّة الأدبيِّ الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021. للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»:  https://www.youtube.com/watch?v=ZSZF936qzsY

(2)  ويُنظَر كتابي: نقد القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّةٌ لمنهاجٍ عِلميٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العَرَبي، 2006)، 93- 96.

(3)  يُنظَر مثلًا: «كتاب الدُّرَّة في النوادب والتعازي والمراثي»: ابن عبدربِّه، (1983)، العِقد الفريد، تحقيق: عبدالمجيد الترحيني، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 3: 228- 000.

(4)  الرَّضِي، الشَّريف، (1995)، ديوانه، شرح: يوسف شكري فرحات، (بيروت: دار الجيل)، 1: 27، 29.

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .