أمير مخول
من الملاحظ مؤخرا التقلبات السريعة في تصريحات نتنياهو ومواقفه المعلنة وفقا لما صدر عن البيت الأبيض، والتي تعد بحد ذاتها تشهد مفارقات. بالإضافة الى أن كل ما لا يستطيع الالتزام به سياسيا يحيله الى موقف ترامب.
في هذه الاثناء أعلن وزير الامن كاتس عن انشاء مديرية التهجير الطوعي تتيح “لكل شخص من سكان غزة يرغب بالهجرة الى دولة ثالثة، ان يحصل على حزمة “محفزات” ومن ضمن ما تشمله ترتيبات مغادرة استثنائية عن طريق البحر او الجو او البر”. بدوره اعد الجيش تجهيز وحدة كاملة للتوجه الى غزة وفقا للتطورات. فيما صرح سموتريتش بأنه لا بد من تجديد الحرب على غزة لإبادة حماس وتجميع سكان القطاع في منطقة المواصي وتهجيرهم.
يميل نتنياهو الى قناعة، في حال توفرت الظروف لإمكانية تجديد الحرب المكثفة للقضاء التام على حماس، للعودة الى خطاب “الانتصار المطلق”، وليتدارك النقد الواسع لسياسته المترددة بصدد “اليوم التالي” مما جعله في ورطة خياراته، الا ان التطورات الماثلة، تذهب باتجاه انهاء الحرب لا تجديدها. وقد صرح بانه “في اليوم التالي للحرب في غزة، لن تكون هناك حماس ولا سلطة فلسطينية كما وعدتُ” ويضيف ويؤكد أنه “ملتزم بخطة الرئيس الأمريكي ترامب لإنشاء غزة مختلفة”. الامر الذي يشير الى أن تصريحات نتنياهو السابقة بصدد “الانتصار الساحق” باتت تحاصره سياسيا امام جمهوره اليميني، خاصة فيما يتعلق بالجبهتين غزة ولبنان.
ترجمة اقوال نتنياهو على ارض الواقع تعني رغبته بالعودة للحرب وتنفيذ مخطط التهجير المعزز بتصريحات ترامب، الذي لا يمكن تحقيقه من دون حرب متجددة ومكثفة ضد المدنيين، وفي حال أصرت الإدارة الامريكية على موقفها بالولوج في المرحلة الثانية من الصفقة فإن إمكانيات استعادة إسرائيل المبادرة للحرب تتراجع.
مأزق نتنياهو هو ان الدخول في المرحلة الثانية من الصفقة كما أصر المبعوث الأمريكي ويتكوف، معناه ان مصير غزة لن يكون بيديه ولا بقرارات الكابنيت، بل كما صرح ترامب 17/2 بأن على حكومة نتنياهو ان تتصرف كما تراه مناسبا ويضيف “وبالتنسيق معي”. لتتسع حلقة الأصوات الإسرائيلية التي تصف نتنياهو بالتابع لترامب والفاقد للقرار بخلاف مظهر الشخصية القوية وتكرار مقولته بأنه الوحيد الذي يصمد امام الضغوطات الخارجية بما فيها امام إدارة بايدن السابقة.
يؤكد ترامب ان قرار الحرب مشروط بالتنسيق معه مسبقا. في حين ان قول نتنياهو بانه ملتزم بخطة ترامب، وهي خطة قد تتغير لاحقا، فيه أيضا ملاذ سياسي داخلي له، اي انه يحمّل ترامب مسؤولية منع الحرب.
مع كثرة تهديدات سموتريتش بإسقاط الحكومة بسبب الصفقة، وتراجعه عن القيام بذلك مرة تلو الأخرى، ما يدلل على تردده في ترك الائتلاف، ولا وزارتيه في المالية والامن، ولا صلاحياته تجاه الاستيطان في الضفة الغربية، بل يبدو مشغولا في الصراع على بقائه السياسي، وهو ما يدركه كل من نتنياهو وبن غفير.
يبرر سموتريتش الأمر بالمسؤولية الوطنية العليا وبأن امامه مشروع ضم الضفة وتهجير غزة وإبادة حماس. لكن ذلك قد يفضي حصريا الى انشقاق في حزبه، تقوده اوريت ستروك وزيرة المهام الوطنية، الأكثر عقائدية من سموتريتش. ومن اللافت ان نتنياهو يرى بالتصعيد في الضفة الغربية وبالضم والتهجير الزاحفين بمثابة الحلقة الأهم لتثبيت ائتلافه مع الصهيونية الدينية.
في المسار الحالي، يدرك نتنياهو ان المشروع العربي المتبلور في مواجهة مخطط التهجير من لدن ترامب، وتحركات الجيش المصري في سيناء، ووفقا للسفير الإسرائيلي الجديد في واشنطن والمستوطن في الضفة يحيئيل لايتر، فإن مصر اقامت قواعد هجومية في انتهاك صارخ حسب قوله لاتفاقات كامب ديفيد وهو ما نفته مصادر عسكرية إسرائيلية مشددة على ان اتفاقات كامب ديفيد مع مصر من العام 1979 هي ذخر استراتيجي هائل بالنسبة لإسرائيل.
يدرك نتنياهو أيضا، ان التنسيق المصري السعودي الأردني مدعوما بالموقفين الاماراتي والقطري ومعظم الدول العربية على أساس تمسك شعب فلسطين بأرضه، يدفع الى وضع يكون فيه اللاعبون الاساسيون هم الطرفين الأمريكي والعربي، مما يجعل الأثر النوعي لإسرائيل في حالة تراجُع. وحين يطرح العرب إعادة الاعمار مع بقاء الفلسطينيين في غزة، وتوافق عربي مبني أيضا على قبول فلسطيني بعودة السلطة الفلسطينية الى إدارة غزة، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، ومعظم دول العالم. او كما جاء في التحليلات الإسرائيلية بأن إسرائيل متأخرة عن مجاراة التطورات المتسارعة وبأن الدول العربية هي من يبلور صيغة “اليوم التالي” والاعمار، بما فيه من يدير شؤون غزة.
يدلل تصريح نتنياهو بأن غزة “المختلفة” لن تحكمها لا حماس ولا السلطة الفلسطينية، على انها مقولة اعتراضية على الجهد العربي والفلسطيني، بينما يحتاج هذا التوجه الى فرض بالحرب، فيما لا يستطيع نتنياهو التنصل لحد الان من استحقاقات الصفقة والتهرب من الولوج في المرحلة الثانية الأكثر استراتيجيةً، وهي تشمل إدارة غزة ما بعد الحرب المنتهية، وهذا يحظى بتأييد غالبية كبرى في المجتمع الإسرائيلي، الذي يجمع على أن عودة المحتجزين هي الأولوية الأولى والهدف الأهم، مما يجعل خيارات نتنياهو محاصرة وضيقة اكثر مما كانت عليه منذ خمسة عشر شهرا.
بات واضحا أمام نتنياهو انه، لا الحرب متاحة بهذه السهولة كما يصرح او يوهم المجتمع الإسرائيلي، ولا الإفلات من استحقاقات المرحلة الثانية واردة شعبيا وسياسيا وامنيا، اي ان التبعية لقرارات ترامب تعني ان يدي إسرائيل مقيدتين حتى لو صرح نتنياهو خلاف ذلك. ثم ان الشد فعليا نحو التصعيد الحربي ليس متاحا قبل انجاز الصفقة، وعندها ستكون غزة مختلفة عما يريد نتنياهو اي ستدار دوليا وعربيا وفلسطينيا. في حال انتهت الحرب ستقام كما هو متوقع لجنة تحقيق رسمية قد تعصف بكل القيادة السياسية والأمنية بمن فيهم نتنياهو.
الخلاصة، فإن اسقاط مشروع التهجير وإعمار قطاع غزة ببقاء أهله يبدو ممكنا ويتطلب درجة قصوى من التوافق الفلسطيني على إدارة غزة ومن استخدام الدول العربية لمواطن قوتها للضغط على إدارة ترامب. في المقابل لا يستطيع النظام العربي الركون الى نوايا ترامب، فاحتمالات تراجعه ممكنة، بل الرهان على الموقف الفلسطيني الشعبي والقيادي ومدى صلابة الموقف العربي بعدم اتاحة المجال لأية تأويلات بصدد التهجير وتحت مسمى “الهجرة الطوعية”. كما ان التوافق فلسطينيا وعربيا على صيغة إدارة غزة يسحب البساط من تحت ما تخطط له حكومة نتنياهو.
(مركز تقدّم للسياسات)