كلّ شيء كان يمكن أن يخطر على بالك وأنت رهين قضبان سجن “الجلبوع” الأمنيّ، اللّهم إلّا أن تكون فاطمة؛ شابّة في مقتبل العمر يجلّلها انثيال دموع حرّى، شريكة لك تراها ولا تراها.
الجوّ غَوْرِيّ شمسُه حارقة. “القواويش” مفتوحة على مصاريعها والنزلاء يقتعدون “أبراشها” العارية إلّا من بعض أغطية خشنة رثّة، وممّا كتب أو رُسم على أعمدتها وسقوفها من وجدانيّات أسرى في حالات انكسار. “الفورة” بنيّة الأرضيّة قاتمتُها مليئة بعربات حديديّة تنوء عجلاتها الخرِبة بحملها من متاع السجناء، مصدرةً صريرًا مقيتًا مع كلّ تحرّك.
الحَمام واليمام والدوريّ تستظلّ بما توفّره لها ألواح “زِنْك” سقف الفورة من ظلّ، وما يوفّره الشبَك المعدنيّ لها من مرقد استراحة ظُهريّة مبتلعةٍ معها سمفونيّتها الصباحيّة. تذرق “على كيفها” فتصيب مرّة الرؤوس وتخطئ مرّة، فتستلّ ضحكات معذّبة باحتباسها، على “المذروق”، وهذا يجد عزاء نفسه بالفأل الحسن في أساطير الأقدمين، وبطهارة ذُراقها عند الفقهاء.
“المردوان” يتنقّل جيئة وذهابًا بين شبّاك غرفة السجّان المحصّنة وطاقات أبواب القواويش المقفلة، يأخذ التعليمات وينقلها. أفراد وحدة ال”متسادة” القمعيّة ينتشرون حول العربات بعيونهم العبوسة وهراواتهم. والنزلاء داخلون خارجون من كلّ قاووش على انفراد، يحملون القليل الذي يملكون من متاع، والمكوّم كيفما اتّفق في ساحة “الفورة” على العربات وحولها، أكوامَ عشواء فعلت فيها يد السجّان فعلها. إنّه “كرنفال” الانتقال، أو على الأصحّ النقل، من قسم إلى قسم في سجن الجلبوع؛ انتقال قسريّ دون سابق إنذار لا تحتّمه حاجة اللّهم إلّا ساديّة متأصّلة.
كان صالح شابّا في مقتبل العمر عاملًا كادّا، لم يُتِح له تيتّمه المبكّر من أبيه أن يحمل أكثر من همّ العمل الشاق في بيّارات اليهود العربيّة. كان يدور حول جذوع البرتقال المعمّرة بمجرفته التي تفعل فعلها في الأعشاب المخاصمة الجذوعَ مصادرَ عيشها. في الأنحاء كان يحوّم طيف فاطمة؛ حبّه القرويّ الجارف الموعود، تلفّه الرهبة ممّا هو مُقدم عليه كُرمى لرفاق درب تلفّهم الأسلاك.
كان ذلك طويلًا قبل أن يأخذ الشيب من رأسه المآخذ، وتأخذ منه النُّهُر الظلماء في القواويش والزنازين بهاء الوجْنتين. وقبل أن يأخذ منه كساءَ عظامه “سقْطُ متاع” المطاحن وأحواش وأقفاص الدواجن وأسواق الخضار والفواكه، وما يستوطنها من دوابّ الأرض؛ المرئيّة وغير المرئيّة. وقبل أن تفقده روائح الزنازين شذا أزهار البرتقال. وقبل أن يفتقد طيف فاطمة في وجه القمر ولألاء النجوم التي فارقته منذ عشرين ونيّف.
هنالك تحت شجرة البرتقال تلاطما بعنف؛ حبّه فاطمة وحبّه الوطن، أو ما اعتقده حبّا للوطن. هذا اللِّطام الشرس كان قبلًا أخذ منه ليلَه وفجرَه، وأنّت تحته المجرفة، وأنّ ترابُ البرتقال وخصومُه القساة من نبات الرّزين. لم يهدأ اللِّطام إلّا حين توافق والمتلاطمَين على إنّهما خُلقا ليكونا متكاملين لا خصمين، وما الحبّ الثاني إلّا تكملة للحبّ الأوّل، لا بل أكثر من ذلك، فلا حياة للأوّل دون الثاني مأوىً ولا حياة للثاني إن لم يكن للأوّل ملفىً.
انطلق ورفاقه في “العمليّة” كُرمى للحبّ الثاني. لم يخطر على بال صالح، أو إن كان خطر، لم يتخيّل أن الحبّ الثاني موحش الدروب بذلك القدر الذي سيضيع في وحشتها الحبّ الأوّل وتفترسه ضباع الدروب، فافترسته الضّباع من طرفيّ الوادي رغم عسر الابتلاع.
ظلّ المَحبس بين طيّات قلبه رغم دموع مدرارة وليدة بكاء صامت من عيون سوداء سواد عيون المَهَا، غيّبتها القيود لآخر مرّة. لكن المَحبس انتصر على السجّان والقيود والأسلاك متّخذًا من أحشاء صالح ملجأ طال.
حين كان يحكي، كان ناظراه ينصبّان على المَحبس الذي كانت تداعبه أصابعه برفق، يدخله البنصر الأيمن ويخرجه بحركات رتيبة دائريّة. صوته كان كسيرًا حزينًا، وبين الفينة والأخرى كانت تصدر عنه تنهيدة يملؤها الوجع. لم يكن يرفع عينيه تجاهي، فبدا لي أنّه كان يحكي الحكاية لفاطمة البعيدة القريبة.
حين ضجّ باب القاووش الثقيل تحت هراوة السجّان إيذانًا بانتهاء فحص متاع نزلاء القاووش، رفع صالح عينيه ال”كانتا” ذابلتين مكلّلتين بالاغريراق نحوي باسمًا. خلته يطلب بابتسامته هذه إزاحة ثقل حطّه على كاهلي، فبادلته ابتسامة واسعة.
وقمنا نحمل متاعنا وافترشناه كلّ على بُرشه دون كلام، وطيف فاطمة “المَهاويّة” العينين ظلّ معي، ولا أظنّ أنّه فارق صالح وقد كان استلقى وعيناه تحطّان في مكان ما على سقف القاووش الداكن.
من أيّام الجلبوع 16-2015
المولودة أوائل شباط 2025