تقع أحداث الرِّواية بين منطقتي بيت لحم والقدس، في القرن التَّاسع عشر، حين كانت بلاد الشَّام الحبيبة تقع تحت وطأَةِ الحكم العثمانيِّ الظالم والجائر، الذي ما زلنا نعيش نتائج تداعياته، وإِن كان الحكَّام قد تغيَّروا، لكنَّ العثمانيِّين القدامى والجدد، ما زالوا يريدوننا عبيدهم، في أَرضِنا، نعيش تحت إِمرتهم وحكمهم واحتلالهم لنخدمَهم، ينهبون خيرات البلاد ويستغلُّون العباد..
كيف ذلك وقد ولدتنا أُمَّهاتنا أَحرارًا، “متى استعبدتُم النَّاس وقد ولدَتهُم أُمَّهاتُهم أَحرارًا”..
حيث التجأَت العائلة المملوكة سَجاح وزوجها قعدان من منطقة حوران إلى منطقة بيت لحم والقدس، بعد أَن بصَّرت البصَّارة لسَجاح الحامل، عن حملها أَنَّ جنينها ذكرٌ وسوف يُعاني الكثير الكثير في حياته، مع أَنَّه سيكون موهوبًا وشجاعًا ومقدامًا وفنَّانًا وعازفًا ماهرًا وفارسًا مغوارًا، لكنَّ قدره سيكون سيِّئًا ومؤلِمًا وكئيبًا وشقيًّا، فطلبوا من مالِكهم أَن ينتقلوا إلى منطقة أُخرى هربًا من قدرهم، بعد أَن حدَّثوه ما تنبَّأت به البصَّارة لولدهم سَعيد (الجنين) بأَنَّه سيتعرَّضُ للخِصي والموت الزؤام، فاستجاب لطلبهم وقام ببيعهما لتاجر عبيد ومن بعدها قام شيخ قبيلة العقايبة واشتراهما منه..
فهل نؤمن بالقدرِ وقضائه، ولا نعترض على إِرادته أَم أَنَّ هذا مجرَّد محض صدفة، لا سيطرة لأَحدٍ عليها، لقد قالت زُبَيدة لحبيبها سَعيد وهو على فراش الموتِ “يجبُ أَن نواجه قدرَنا بشجاعةٍ ولا نجعله يهزمنا” (ص 243)، لأَنَّ الاستسلام له هو استسلامٌ معيبٌ بحدِّ ذاته، فعلينا أَن نواجهه بجرأَة وشجاعةٍ، “أَعطني جرأَةً أُعطيك قدرًا” (مقولة الكاتب السُّوريِّ حنَّا مينا في روايته مأساة ديمتريو) وهنا تتساءل سَجاح والدة سَعيد عن العدالة الإلهيَّة “..فإن كان القدر من الله فكيف لإمرأَةٍ بدويَّةٍ أَن تتنبَّأَ؟ فهل هي على اتِّصالٍ مع الله؟ ولماذا يحتاج الله لأَن يُطلِعها بوسيلةٍ ما على مصير إِنسانٍ ما أَيضًا، ثمَّ لماذا يرسمُ الله له مصيرًا فظيعًا في الأَصل فما الذي ارتكبه جنينٌ في بطن أُمِّه، كما هي الحال مع سَعيد..”(ص 232)، لكنَّ الإجابة على هذا السُّؤال تأتي في البداية حين يقول قعدان لسَجاح “قدرُنا الذي رسمه لنا سادة الحروب وسادة المال وليس الله”، ويأتي الأمل من سَجاح حين تقول له لزوجها “..سمعتُ أَنَّ هناك من يُطالب بتحرير العبيد.” (ص 16)..
فهل سمعَت سَجاح بثورة العبيد وقائد ثورتها سبارتاكوس الذي حارب الرُّومان الرُّومان المستبدِّين دفاعًا عن المظلومين والمضطَّهدين من أَجل تحريرهم من العبوديَّة، أَو هل سمعَت بمارتن لوثر كينغ الذي انتفض من أَجل الحرِّيَّة وحقوق الإنسان والحقوق المدنيَّة للزُّنوج الأَفارقة الأَمريكيِّين في المساواة والعدل، ناضل ضدَّ المستعمر الأَمريكي الذي سرقهم من وطنهم أَفريقيا وسلب حرِّيَّتهم وأَتى بهم ليعملوا عند بالسُّخرية دون أَدنى حقوقٍ للإنسان..
وكان أَملُ سَجاح كبيرًا في الحصول على الحرِّيَّة من العبوديَّة..
لقد خاف الأَسيادُ من سَعيد العبد، ومن جماله وهيبته وشجاعته وقوَّته وجرأَته منذ أَن كان طفلاً يافعًا حيث كان يغارُ منه شيخ القبيلة عاقب ويخافُ على مستقبله منه، بعد أَن رآه الفتى الأَقوى بين شباب قبيلته من عبيد وأَبناء الأَسياد وشيوخ القبيلة، وكذلك خاف أَن يأخذ مكانه، مستقبلاً في قيادة القبيلة، وأَن جماله وهيبته سوف تُفتن نساء القبيلة وفتياتها وتصبحنَ طيِّعاتٍ له، وفي خدمته في كلِّ أَمرٍ، وحين افتُتن به الشَّيخ عاقب بانتصاره على جميع فتيان القبيلة أَسيادٍ وعبيدٍ “كان الشَّيخ يرقب المشهدَ بدهشةٍ بالغةٍ لجمال الطِّفلِ وقوَّته الخارقة ومهارته”. (81)، ودرءًا لذلك قام شيخ القبيلة بخصيه، “حين رآه يتفوَّق على كلِّ الأَطفال في ساحة اللعب، خصاه الشَّيخ كي لا يكون سببًا في افتتان الفتيات به.. “(ص 7)، في وصفٍ مشوِّق ومخيفٍ ومرعبٍ، يَقطع نفسَ القارئ، حيث نجح الكاتب في فرض المشهد المُخيف على القارئ ليعيشه بتفاصيله المُذهلةِ، “أَشار الشَّيخُ برأسِه إِلى رجالٍ بأَن يُقيِّدوا سعيد. نهض رجلان واقتادا سعيدًا عنوةً إِلى جانب الموقد، شعر سعيد بالرُّعب فشرع بالصُّراخ..قيَّدوه من يديه ورجليه وأَمسك رجلان بيديه ورجلان برجليه”(ص 83)، لأَنَّهم لم يقوَوا على الإمساك به لقوَّته الخارقة وحينها صرخت زُبيدة بأَعلى صوتِها علَّها تحميه من ظُلمِ أَبيها “لا لا”(ص 84)، فأَبعدوها بفظاظةٍ “جاء رجلٌ بخيط من القُنَّب. حصر خصيتَي سعيد أَسفل كيس الخصيَتين وربط الخيط من فوقهما..أَخرج الشَّيخ السِّكين من النَّار فبدا أَحمر كاللهب..مرَّر الشَّيخ السِّكِّين من تحت الخيط فقطع الخصيتَين وأَلقى بهما بعيدًا، فلاحقتهما عيون النَّاس..”(ص 84)..
الغريب أَنَّ سَجاح لم تنتفض على الشَّيخ جرَّاء فعلته بابنها وحيدها، فقد كانت على ذمَّة الشَّيخ عاقب نفسِهِ، بعد أَن طلَّقها من زوجها قعدان، حتَّى تُصبح حلاله وذلك بحسبِ الشَّريعة، قالت “الشَّيخ طلَّقني من قعدان واتَّخذني حليلةً”، لكن عندما أَجبرها على الطَّلاق لم يكن ذلك بحسب الشَّريعة، يُشرِّع ما يحلو له، يُحلِّل ويُحرِّم ما يريد، ويعمل بمنهج الدِّين كما يحلو له، ولقد استمرَّت بحياتها معه كجاريته وزوجته، ولم تفكِّر البتَّة في الانتقام لابنها..
لا أَدري لماذا اختار الكاتب القدير والعزيز محمود أَحمد شاهين أَن يكون اسم البطلة الجارية سَجاح، حيث أَنَّ سَجاح كانت في التَّاريخ الإسلاميِّ صديقةً لمُسيلمة الكذَّاب، وهي امرأَةٌ تميميَّةٌ إدَّعت النُّبوَّة، بيد أّنَّ سَجاح في الرِّواية كانت بطلة وجبَّارة وفطينة وعازفة قديرة ذات صوتٍ حسنٍ وعذبٍ، وتعرف من أَين تؤكل الكتف، وهي أُمُّ بطل الرِّواية الأُسطورة سَعيد الذي كانت نهايته مؤلِمةً حزينةً تعيسةً وكئيبةً بعكس اسمه سَعيد، “سَعيد ورُسم له الشَّقاء قبل أَن يولد، أَيُّ سعادةٍ هذه.”(ص 16)..
أَحيانًا تجدُ معنى الأسماء بعكس حامليها، فيكون اسمها “قمر” وتكون قبيحة الشَّكل أَو اسمه “حليم” ويكون طائشًا أَحمقَ وجاهلاً متسرِّعًا..
يجوزُ أّنَّ الكاتب قصد منحها هذا الإسم لاَنَّها لم تصرخ بوجه الظَّالم وإِن كان زوجها، لم تنتفض عليه ولم تتصرَّف كلبؤةٍ تُدافع عن أَشبالها، فالسَّاكت عن الحقِّ شيطان أَخرس، لكنَّها حكمت على نفسِها وجازت نفسها وجلدت نفسها “بدأَت سَجاح تفقد شهيَّتها للطعامِ وراحت تنحفُ لينقص وزنها..”(ص 87).
شيخُ القبيلة يخاف على مستقبله من طفلٍ عبدٍ، الأَمر الذي يدلُّ على
أَنَّ المستقبل لسَعيدٍ حتمًا..
لكنَّ هناك ثلاث قوىً تآمرت على سَعيد وهم شيخ القبيلة عاقب (هو الذي يُعاقب وهو الآمر النَّاهي في القبيلة) وأَولاده الإثني عشر وجنود عثمان، هؤلاء هم الثَّالوث الدَّنس..
عندما كان سَعيد يعزف معزوفته في المراعي وهو يرعى قطعان الأَغنام، ونساء القبيلة وفتياتها يستمعن له بكلِّ حواسهنَّ، وهنَّ يعرفن قصَّة خصيه، فقد تعاطفن معه بكلِّ جوارحهنَّ ولم يستطعنَ إِخفاءَ محبَّتهنَّ له “لأَنَّ ما سمعناه أَوحى لنا بنداءِ مفجوعٍ من أَعماق القلب يتوسَّل لممارسةِ الحبِّ..فأَحببنَ أَن يبُدين تعاطفهنَّ معك وأَن يُرينك بعض ما حُرمَت منه، أَجسادهنَّ”(ص 230)، وقد تصرَّفت زُبَيدة معهنَّ نفس الشيئ قائلةً لسَعيد حين سأَلها عن حقيقة ما رآه أَم أَنَّ الأَمر قد ﴿..شُبِّه..﴾ له فقالت له زُبَيدة “..تعرَّيتُ لكَ هذا اليوم مع عشرات الفتيات والنِّساء..”(ص 230)..
إنَّ رواية “سَعيد وزُبَيدَة”، هي رواية حبٍّ عذريٍّ صافٍ وخالٍ من الشَّهوات والنَّزوات، حكاية حبٍّ صادقٍ عفيفٍ، لا تشوبه الذَّاتيَّة أَو الأَنانيَّة أَو الخاصِّيَّة أَو الشَّخصيَّة، إِن كان من طرف سَعيد العبد إبن سَجاح وقعدان أَو من طرف زُبَيدة ابنة شيخ القبيلة عاقب وحليمة..
لقد وُلِدت زُبيدة ابنة حليمة والشَّيخ عاقب وسَعيد ابن سَجاح وقعدان في يومٍ واحدٍ، ومنذ ذلك الوقت وهما يعيشان سويَّةً تحت سقفٍ واحدٍ مع بعضهما، فقد كانت حليمة زوجة الشَّيخ تضع طفلتها عند جاريتها سَجاح “كانت حليمة تضع طفلتها زُبَيدة عند سَجاح لتعتني بها مع سَعيد فتعلَّقت الطَّفلة بسَعيد لكثرة ما كان يلعب معها..ولم يكادا يُفارقان بعضهما” (ص 77)، “..يختليان في حقل حنطة ليُمارسا لعبةَ العريس والعروس بوعيٍ غريزيٍّ..”(ص 78)..
منذ الطُّفولة وهو يُفتِّش عن سعادتها وهي أَيضًا تُفَتِّش عن سعادتِهِ..
حين وُلد سَعيد أَضاءت له السَّماء “مرَّ في ذاكرتها البرق الذي قيل إِنَّه أَنار المنطقة لحظة ولادة سَعيد وقالت الدَّاية وقعدان والنَّاس فيما بعد إنَّ سعيدًا طفلٌ مباركٌ من الله، فكيف يجري لسَعيد من الله وقد باركه؟”(ص 232)، “..وقد تنبَّهت إِلى النُّور الذي غمر الكوخ فأَعلنت أَنَّ المولود مبارك، وراحت تُصلِّي على النَّبيِّ..”(ص 66)، “كان المولود جميلاً جدًّا..”(ص 66)، ومبارك من عند الله..
وهنا يبدو الأمر فلسفيًّا يفتح ملفَّات بديهيَّة عقائديَّة دينيَّة تُعيدنا إلى ولادة السَّيِّد المسيح، مع نجمة الميلاد ونجمة بيت لحم، وحياته في المغارة في المذود، وهو ابن الله، الأُقنوم الثَّاني، ما بين الآب والرُّوح القُدس، ثالوث واحد في ربٍّ واحدٍ وإله واحدٍ، كيف يكون السَّيِّد المسيح بتلك المكانة العالية المرموقة ويُجلَد ويُعذَّب ويُضرَب ويُعاني ويُصلَب ويُهان ويُقتَل ويُدفَن..
تقول سَجاح متضرِّعةً إِلى خالقها “إِلهي لا تُفجعني بابني حبيبي الذي لا يوجد في الدُّنيا من هو أَعزُّ منه لديَّ، أَكثر ممَّا فجَعتني يا إِلهي إِنَّك سميعٌ مجيبٌ”(ص 232)..
أُّيُّ عدلٍ وأَيُّ إِنصافٍ هذا وأَحفاد رسول الله، سَيِّد الأَنام، يُهانون من قِبل المسلمين أّنفسهم ويُعذَّبون ويُقتلون ويُقطَّعون إِربًا إِربًا، وتُسبى نساؤهم وتُغتصبنَ وتُقتلنَ أَو يتعاملون معهنَّ كجاريات ومملوكات، كيف للطَّهارة والعفَّة أَن تقع تحت سطوة الأَشرار..
أَين العدالة يا إلهي وأَين العدالة يا دُنيا..
حين كان يعزف سَعيد بإبداعٍ فطريٍّ خلاقٍ، على نايه لحنَه الخاصِّ
تعرَّت النِّسوة والفتيات أَمام ناظرَيه لأَنَّهن شعرنَ بأَلم سَعيد وحرمانه “زُبَيدة وقد عرفت أَنَّ النِّساء يتعرينَ عندما يسمعنَ لحن سَعيد، باتت متخوِّفة أَن يعرف النَّاس الأَمر وتصلُ أَخبار التَّعرِّي إِلى أَبيها ليقوم بإعدام سعيد. شكرَت الله كون النِّساء استطعنَ الحفاظ على هذا السِّرِّ وكأَنَّه صلاة سرِّيَّة مقدَّسة”(ص 232)..
لقد كتمنَ السِّرَّ وحافظنَ على أَنفُسهنَّ وعلى سَعيدٍ..
لقد تضامنَّ بكلِّ جرأَةٍ وشجاعةٍ مع سَعيد..
فقد تحدَّت زُبَيدة والدَها شَيخ قبيلة العقايبة، عاقب، ورفضت أَوامر والدتها بالزَّواج من غير سَعيد، إذ أّنَّه من العيب أّن تتزوَّج إبنةُ شيخ القبيلة من عبدٍ وخادمٍ عند والدها، وأَصرَّت أَلا تتزوَّج من غيره لتكون مخلصةً في حبِّها لسَعيد..
لقد كانت أحداث الرِّواية في القرن التَّاسع عشر، في زمن الحكم العثمانيِّ البغيض لبلاد الشَّام الحبيبة، حيث كانت الفروق الطَّبقيَّة فارضةً نفسها على النَّاس والمجتمع، فطبقة العبيد والخدم والجواري، وطبقة الأَغنياء والمقتَدرين والملاكين والإقطاعيِّين، وكانت تنشب حروبٌ بين القبائل على المراعي ومصادر المياه وعلى محاور التَّنقُّل وكانت كذلك حروب القبائل ضدَّ قطَّاع الطُّرق واللصوص وسرقاتهم من السُّكَّان الآمنين وسطوهم..
وحين غزَوا القبيلةَ وسرقوا مواشيها وأَغنامَها خرج سَعيد بجيشه (بعد أَن عيَّنه شيخ القبيلة قائدًا للجيش مع أَنَّه كان عبدًا عنده) لاسترداد ما سُرق حيث قَتل أَعدادًا كثيرة من الغزاة وأَسر جنودهم وسبى جواريهم وعاد منتصرًا إِلى دياره، وفي حادثة أُخرى، يقوم سَعيد وجيشه ليُحرِّر أَريحا من الغزاة الطَّامعين بحنكته وحكمته وتدبيره بعد أَن أَتوه مستنجدين به طالبين منه تحريرهم وحمايتهم، فناصرهم ونصَرَهم وكان النَّصر التَّحرير، وارتفعت أَسهمه بين قبائل المنطقة وبين أَفراد قبيلته..
بعد هذا النَّصر والعزوة والعزَّة التي فرضها سَعيد، طلب من شيخ القبيلة تحريره ووالديه من العبوديَّة، فأُعتق الشَّيخ عاقب العبدَ سَعيدًا ووالديه، وأّطلق سراحهم، ليكونوا أَحرارًا في حياتهم وعملهم وإرادتهم ومستقبلهم..
بعد أَن نصر سَعيد القبيلة بفروسيَّته وجهوزيَّته بالذَّود عن حياض القبيلة وأَرضها وأَملاكهما ما لم يستطع فعله أَحدٌ من القبيلة، ذاع صيته في القبيلة وبين العقايبة وفي أَنحاء البلاد، وأّصبحوا ينادون الجيشَ بجيش فلسطين، يحمي الأَرضَ والعرضَ، يستنجدون به، حيث تشهد له مناطق عديدة من فلسطين، كيف ذاد عنهم هذا الجيش ببسالةٍ وحماهم وحرَّرهم من قطَّاع الطُّرق واللصوص والغزاة، وكيف تعاضدت معه قبائل العرب في النَّقب وأَريحا بعد أَن نصرهم ولقي منهم الدَّعم بعد أَن ساندهم ونصرهم وحماهم وهزم المُحتلِّين..
ما أَجمل الوحدة، وكم نحن بحاجة إِليها..
وهنا أَثار هذا الأمر حفيظة أَبناء الشَّيخ عاقب بأَنَّ سَعيدًا العبدَ سوف يرث والدهم ويصبح شيخ القبيلة بعد موت والدهم، لقد أَغاظتهم بطولاته ومروءته وشجاعته ومحبَّة النَّاس له، خاصَّةً الفتيات والنِّساء، وأَثارت حسدهم وحقدهم، فجاء الشَّيخ عاقب وسمع لهم وأَطاعهم فبعد أّن وكَّله بكلِّ الصَّلاحيَّات الإداريَّة والعسكريَّة وصنع له ولقبيلته مجدًا، يقوم الشَّيخ بأَعفائه من كلِّ مسؤوليَّاته ووظائفه ومناصبه، حينها قال سَعيدٌ لوالدته بعد أَن لم يرُق لها الأَمرُ ولم يُعجبها هذا التَّصرُّف “نحن عبيدٌ يا أٌمِّي. لا تنسَي ذلك. وإِن كان الشَّيخ قد منحنا بعض الحرِّيَّة والمكانة فلأَنَّنا خدمناه وما زلنا نخدمه كما لم يخدمه أَحدٌ.” (ص 226)، ومنحَ سَعيدًا أَن يكون مسؤولاً عن الرُّعاة وعن كلِّ قطعان القبيلة، وتقبَّل سَعيد مشيئة الشَّيخ برحابة صدرٍ وقناعةٍ، فقد قام بعدها سَعيد بإعفاء الرُّعاة من عملهم ليقوموا بعملٍ آخر مفيدٍ للقبيلة، وهنا تظهر شجاعة سَعيد برعاية القطعان وكان عددها يزيد عن “سبعةِ آلافٍ وخمسمائة شاةٍ” (ص 235)، يرعاهم لوحده بنايه ويرغوله وعزفه وصوته يجمعهم ويفرِّقهم ويسرح بهم ويُعيدهم إِلى حظائرهم لوحده، زد على ذلك أّنَّه طارد الذِّئاب والضِّباع والأَفاعي وأَجهز عليهم، حتَّى أَنَّها اختفت كليَّةً من المراعي التي يتواجد بها، لقد شاهدوا كيف أَنَّ سَعيدًا لوحده يجمع هذه القطعان بعزفه على النَّاي، “أَخذَت الأغنام تهرع من كلِّ صوبٍ وتقف في طوابير منتظمةٍ أَمام سَعيد حيث تمتدُّ مساحةٌ كبيرةٌ من الأرض المستويةِ عكس المكان الذي يجلس فيه وما خلفه من سفح الجبل، ولم تمر سوى بضعُ دقائق حتَّى انتظمت النِّعاج في طابورٍ والمعز في طابورٍ آخر.. لتصل كافَّة الأغنام وتنضمُّ إلى الطَّابورين..(ص 236)..
وهذا يُذكِّرُني بالملك سُلَيمان وكيف علَّمه الله لغةَ الطَّير والحيوان..
وحين رآه جنود عثمان، أُعجبوا برجولته وجماله وقوَّته وبحسِّه ورقَّة إِحساسه وحماسه قرَّروا وضعه عند حدِّه وأَمروا بقطع أَصابعه، وهذا ما كان، الأمر الذي أَدَّى في نهاية الأَمر إلى وفاته، وفاة “..فارس الفُرسان” (ص 246) “ساحِر النِّساء والرِّجال” (ص 246)..
وهنا يبرز صمتُ سَعيد وسكوته على بتر أَصابعه دون أَن يُحرِّك ساكنًا، أَو يمانعَ أَو يُبدي اعتراضه، هل شعر أّنَ ساعة موته قد دنَت، وحان حينُه، ولا يُريد أَن يعارض ذلك، مع أَنَّه برباطة جأشه وقوَّته وشجاعته وبسالته كان يُمكنه أَن يُصارعهم جميعًا ويصرَعهم، فلماذا لم يستعمل بطولته وقوَّته، لماذا لم ينتفض..
“هرع سَعيد خلف الفرسان وهو يُدرك في قرارة نفسه أَنَّه يُسلِّم نفسه إِلى قدره..لحق بهم..لم يكن خائفًا..فأَمسكوا به.”(ص 238).
وهنا يحضُرني ما قاله الإمامُ عليٌّ بن أَبي طالب كرَّم الله وجهه:
أَيَّ يَومَيَّ مِنَ المَوتِ أَفِرُّ يَومَ لا يُقدَرُ أَو يَومَ قُدِر
يَومَ لا يُقدَرُ لا أَرهَبُهُ ومن المقدور لا يُنجو الحَذِر
لا مفرَّ للإنسان إِنْ آنَ الأَوان..
إِقتنع سَعيد أَنَّ ساعته قد دنَت وأنَّ منيَّته قد حانت..
هل كان مُحبَطًا وحزينًا وكئيبًا للوضع الذي وصل به إليه من قائد جيشٍ إلى راعي أَغنام فظهر عجزُهُ أَمام فرسان عثمان..
بعد أَن عاشت زُبيدة موت حبيبها أَمام ناظِرَيها أَقدمت على الإنتحار بسيفه الذي كان بجانبه، حيث شعرت أَنَّ لا حياة لها بعده، وشو بتسوى الحياة بدونك يا روح الرُّوح، “..قبَّلَته على جبينه قبلةَ الوداعِ ونهضت. أَخذَت سيفَه وسحبَته من غمده. وضعت عقبَه على الأَرض ورأس نصله بين نهديها وانحنت عليه بقوَّة ليخرجَ من ظهرها وليتهاوى جسدُها إِلى جانب فراش سَعيد”(ص 246)، موتٌ شجاعٌ وإِخلاصٌ جريئٌ متبادلٌ..
وكانت جنازتهما جنازة مهيبة، كبيرة جدًّا شارك فيها جميع أَهل البلد والقضاء وعلى رأس المشيِّعين كان شيخ القبيلة، “أَكبر جنازة في تاريخ القبيلة لسَعيد وزُبَيدة.” (ص246)، عاشا معًا وماتا معًا ودُفِنا معًا..
وقد وُضعا في نعشٍ واحدٍ ودُفنا في قبرٍ واحدٍ وقد قام الكثير من نساء وفتيات القبيلة بالانتحار حزنًا وأَسىً وجوىً جرَّاء هذا الحدث الجلل، وطلب شيخ القبيلة من أَبنائه أَن يُقيموا أَكبر جنازةٍ، “وأَن يُشيَّع سَعيد وزُبَيدة في نعشٍ واحدٍ إِلى جوار بعضهما وأَن يُدفنا في قبرٍ واحدٍ. وأَن تُشيَّع خلف نعشهما نعوش الفتيات والنِّساء المنتحرات”(ص 246)..
لقد اعترف الشَّيخ بخطئه وظلمه وإجحافه بحقِّهما، لكنَّ هذا لا يُعيد الحياة لابنته زُبَيدة وسَعيد..
كان التَّشييع يليق بسَعيد وزُبَيدة، ويبدو أَنَّ الشَّيخ عرف حجم الخسارة الفادحة فكان على رأس المشَيِّعين، كانت الجنازة منظَّمة ومرتَّبة تليق بالمصاب العظيم حضرها كثيرون من أَبناء الوطن الذين عرِفوا ما هي فداحة الخسارة وما ينتظرهم من مآسٍ إِن لم يأتِ مثله لقيادة القبيلة وجيشها، “موكب التَّشييع شباب وشابات يحملون أَكاليل الورد، كما وضعت فوق النُّعوش أَكاليل أخرى، وحمله ستَّة من فرسان القبيلة ساروا وسط صفَّين من خمسين فارسًا على ظهر خيولهم، منكَّسي السُّيوف وأَعلام القبيلة، ..ومئات الرِّجال، ثمَّ موكب النِّساء تتقدَّمه سَجاح وزوجات الشَّيخ وبعض نساء القبيلة وبعض جواري الشَّيخ ثمَّ مئات النِّساء والفتيات وهنَّ يندبنَ الرَّاحلين، ويشقُّ بعضهنَّ ثيابهنَّ على صدورهنَّ ويلطمنَ خدودهنَّ وينتفنَ شعورهنَّ، وقد خيَّم الحزن على كافة أَحياء القبيلة وبعض القرى المجاورة وحارات المدينة المقدَّسة”(ص247)..
لقد ظُلم سَعيد، حيث أَعماهم حقدهم ولم يرق أَمر تفوِّقه في كلِّ شيئٍ للأسياد فقاموا بالتَّآمر عليه عدَّة مرَّات بدأت بالإخصاء، ومن ثمَّ تجريده من صلاحيَّاته ومكانته ومن بعدها قُطِّعت أَصابعه..
يرون مصلحتهم الذَّاتيَّة الأَنانيَّة “أَنا أَوَّلاً” ويعطونها الأَولويَّة ويتناسَون ويتغاضَون عن المصلحة العامَّة ومصلحة الأَهل والوطن..
إِنَّ نظام الأَسياد والعبوديَّة والدِّكتاتوريَّة على أَنواعها يقتل مبدعيه ومُخلصي الوطن ومحبِّي الوطن، ليبقى الوطن سابحًا وغارقًا في مياهه الآسنة المريضة ويبقى المرض والعاهة والبلاء والآفة تفتك فينا، ويبقى تقدُّمنا إِلى الوراء “مثل بعرِ الجِمال”..
لقد انشغل الأَسياد بالجواري والسَّبايا الصَّغيرات عن حياتهم الإِجتماعيَّة والعائليَّة والزَّوجيَّة وأَهملوها، الأمر الذي أَباح التَّسيُّب والخيانة الزَّوجيَّة ولم يأبه أَحدٌ لحكم شيخ القبيلة، فقد بدأَت الخيانة عنده لزوجاته بعد أَن تَبِعَ غرائزه وفضَّلها على أَن يعدل، وتسلُّط على من حوله وعلى القبيلة وامتدَّت لتصل زوجاته وجارياته وخادماته في
إِباحة جنسيَّة قاتلة مع الخدم والعبيد..
فإذا كان سيِّد البيت بالدَّفِ ضاربًا فشيمة أَهلِ البيتِ كلِّهم الرَّقصُ، وهنا تظهر عفَّةُ زُبَيدة وطَهارةُ سَعيد معًا..
﴿.. فَإِن خِفتُم أَلَّا تَعدِلُوا فَوَاحِدَةً..﴾
خِتامًا..
تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ محمود شاهين، ابن السَّواحرة، القدس، من مواليد عام أَلفً وتسعمائة وستَّةٍ وأَربعين، بصدور ثمرة قلمه، القصَّة الأُسطوريَّة “سَعيد وزُبَيدة”..
فهو كاتبٌ وروائيٌّ وقاصٌّ وفنَّانٌ تشكيليٌّ وباحثٌ وناقدٌ ومفكِّرٌ وشاعرٌ..
وإلى مزيدٍ من العطاءِ الجميلِ والمشوِّق والمُثمِر والملتزمِ..
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ
ملحوظة: صدرت الرِّواية “سَعيد وزُبَيدة” عام أَلفين وثلاثة وعشرين، عن “مكتبة كلِّ شيئ”، حيفا، لصاحبها الأُستاذ صالح عبَّاسي، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وخمسةٍ وستِّين صفحة، صمَّم الغلاف الفنَّان والمُبدع الصَّبور شربل الياس، من مواليد قرية الجشِّ، في منطقة الجليل الأَعلى على الحدود مع لبنان، ويسكنُ مدينة حيفا..