عشرونَ عامًا مِنَ الغيابِ تَزيد يوسف توفيق شحادة مِنَ الحضورِ

(إلى الرّفيقِ الّذي ثبّتَ بقاءَهُ في النّفوسِ الكريمةِ كالإباءِ والشّهامةِ والشّمَمِ، والقائدِ الّذي كلّما غابَ زادَ حضورًا، والإنسانِ الّذي خاطَبَ النّاسَ بلغةِ النّاسِ مُضيفًا إلى وعيِهِم ومفاهيمِهِم الفَهْمَ الكثيرَ، الباقي فينا: يوسف توفيق شحادة، أبو شحادة)

كما تَطُلُّ البهجةُ في الأعيادِ، تَستكشفُ أحوالَ العائلاتِ، كيلا تَصطدمَ بنفسٍ حزينةٍ، قبلَ أنْ تُلقيَ بِجسدِها المُعطَّرِ بالفرحِ، على أجواءِ النّاسِ وفضاءِ نفوسِها، هكذا تطلُّ ذكراه بكلِّ مُروءتِها ورجولتِها وحيائِها، ترصُدُ وضعَ البلدِ، كما اعتادَتْ، تبكي معَ الحَزانَى، وتَسعدُ معَ الفرحينَ، مِنْ خلفِ عشرينَ حَوْلٍ تَحضرُ كأنَّها لمْ تَغِبْ يومًا، أوْ ساعةً، فأيُّ حُضورٍ ساطعٍ هذا يا يوسفُ، تُعيدُ بِهِ إلينا بهجةَ العيدِ الّتي حَمَلْتَها على عجلٍ، في الحادي والثّلاثينَ منْ كانونِ الأوّلِ، عامَ ألفينِ وأربعةٍ!

ما زلْتَ تقومُ بدورِكَ كقائدٍ واعٍ ومسؤولٍ، يتمتَّعُ برؤيا واضحةٍ، واسعِ الاطّلاعِ، مُلتصقٍ بهمومِ النّاسِ ومشاغلِهِم ومشاكلِهِم، لا يَفقدُ البوصلةَ، ثابتِ الموقفِ، راسخِ الوقوفِ، لا تَرجفُ ركبتاهُ مهما اشتدَّ الخَطْبُ، تسندُ الأكتافَ بقامتِكَ المنتصبةِ، وتشدُّ العزيمةَ بروحِكَ الصّلبةِ؛ تأبى روحُ القائدِ فيكَ أنْ تتركَنا وَسْطَ تَهديمِ العالمِ القديمِ حولَنا، كلَّ ما أَلفْناهُ يجري تحطيمُهُ أمامَ ناظرَيْنا، كيْ يَبنوا على أَنقاضِهِ عالمَ ظلمٍ إمبرياليٍّ مُتجدّدٍ، على مقاسِ الظّالمينَ الّذينَ استأثروا بِهيمنةِ المستعمرينَ.

في هذهِ الأيّامِ، إذْ يَنقضُّونَ كالنّسورِ الجائعةِ، على ما تبقّى من حقوقِ للشّعبِ الفلسطينيِّ، ليُكمِلوا المؤامرةَ على القضيّةِ كما يشتهونَ، وهُم يَذبحونَ الأطفالَ، كيْ يَقضوا على المستقبلِ الّذي نَحلُمُ بِهِ، ويُضيّقونَ الخناقَ على رقابِ الباقينَ حولَ ضريحِكَ وأضرحةِ الأحبّةِ؛ يَبزُغُ نورُ ذكراكَ العطرةِ يُضيءُ الظّلامَ الّذي نَشروهُ، فعَطَّلَ الرّؤيةَ عندَ البعضِ، واخترقَ شَغافَ القلبِ فأظلمَتْ قلوبٌ عندَ بعضٍ آخرَ؛ في هذه الأيّامِ تنفرجُ صدورُنا لذكراكَ، فأنتَ كما عَهدْناكَ، ونحنُ كما عَهدْتَنا، نتسلّحُ بالوعيِ الّذي ساهمْتَ في تشكيلِهِ لا يُضلّلُنا مُخادعٌ، ولا يخطفُ أنظارَنا بَريقُ الذّهبِ!

أراكَ على المنصّةِ واقفًا، أيُّها الخطيبُ المُفَوّهُ، تُبدعُ في ارتجالِ الخطابِ، فتَنسابُ الجُمَلُ الرّصينةُ الجَزْلَةُ تَحملُ المعنى وتسيرُ بتأنٍّ واحترامٍ وانتباهٍ إلى وعيِ المستمعينَ، اليَقِظينَ، الفَطِنينَ، المشدودينَ إلى انفعالِ القائدِ الصّادقِ، البارعِ، المُقْنِعِ، المتألّقِ. تطلُّ ذكراكَ اليومَ، عليكَ تُلقي كلامَكَ، وأنتَ فوقَ مِنبرِكَ، لم يصعدْ إليهِ أحدٌ بعدَكَ، فلا أحدَ يُتقنُ حِرفَتَكَ، ويملكُ موهبَتَكَ، وينشرُ شعاعَهُ كشمسِكَ، أيّها المُتكلّمُ الحاذقُ اللّامعُ!

ذكراكَ مرحلةٌ أَنشأَتْنا، صَقلتْ وعيَنا، بَلورتْ شخصيّتَنا، ألهمتْ نفوسَنا ودفعَتْنا نحوَ العملِ النّافعِ واحتضانِ النّاسِ والدّفاعِ عنْ مصالحِهم، ومكافحةِ الظّلمِ، ومُؤاخاةِ المظلومينَ، واستلهامِ الشّمعةِ الّتي تُضيءُ بروحِها المحترقةِ الطّريقَ، للنّاسِ مِنْ حولِها؛ ذكراكَ عودةٌ إلى ذواتِنا، إلى الصّخورِ الّتي بَنينا عليها مَبادءَنا ومواقفَنا وآراءَنا، إلى صفاتِ المناضلينَ الحقيقيّينَ الّذينَ يُؤثرونَ حاجاتِ المُضطّهدينَ على حاجاتِهم و”لو كانَ بهم خَصاصةٌ”، والّذينَ يحملونَ الرّايةَ ويسيرونَ في الطّليعةِ، ولو كلّفَتْهم الشَّجاعةُ أرواحَهم!

تُقبلُ علينا ذكراكَ المجيدةُ حاملةً في جيوبِها الحلوى الّتي كانَ مُستقبلوكَ، أنتَ وماري، (أمّ شحادة)، يقدّمونَها لكما، عندَ مُعايدتِهم، وكنْتَ تُؤثرُ أَنْ تعودَ بها إلى البيتِ، ليتعلّمَ الأبناءُ مشاركةَ الأصدقاءِ والمُحبّينَ وأهلِ البلدِ في السّرّاءِ والضّرّاءِ، كنتَ تزورُ أكثرَ مِنْ مائةٍ وخمسينَ بيتًا، مشيًا على أقدامِ المحبّةِ والاحترامِ، أنتَ وشريكتُكَ المصونُ الحَصانُ الوفيّةُ ماري، على مدار أسبوعَيْنِ، كما أخبرتَني وأنتَ تُعلّمُني كيفَ نشاركُ النّاسَ، وقدْ كانَ درسًا لنْ أنساهُ أبدًا، يا حلوَ العيدِ يا يوسف توفيق شحادة!

أحدُ تلاميذِكَ الّذينَ يَستنشقونَ طِيبَ ذكراكَ العطرةِ

إياد أحمد الحاج

30/12/2024

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .