كان (ذو القُروح) قد زعمَ، في المساق السابق، أنَّ مَن يقرأ كتاب «نهج البلاغة»، لـ(الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)، يُدرِك أنَّ كثيرًا منه نثرٌ وُضِع في القرن الرابع الهجري؛ وهو أشبه بكلام معتزلة العصر العبَّاسي، منه بخطابة الناس في الصَّدْر الأوَّل من الإسلام، أو كلام ذلك الرعيل الأوَّل، بل حتى خطابة عليٍّ نفسه في ما نُسِب إليه من ذلك في المصادر الأقدم تاريخيًّا، كخُطبته يوم أن أراد (عُمَر بن الخطَّاب) الخروج إلى العَجَم المتحشدين بـ(نهاوند). فقلت له:
ـ لكنَّك، يا مولانا، لم تُثبِت لنا ذلك النموذج الذي أشرتَ إليه من خُطَب (عليٍّ) الأُولى، لكي نقارن، فنصدِّق أو نكذِّب!
ـ دونك ما أورده (محمَّد بن جرير الطَّبَري، -310هـ= 923م)(1) من خُطبة (عليٍّ)، حينما استشار (عُمَرُ) المسلمين في الخروج إلى العَجَم بنفسه. فقام عليٌّ، خطيبًا، فقال: «أصاب القومُ، يا أميرَ المؤمنين، الرأيَ، وفهموا ما كُتِب به إليك، وإنَّ هذا الأمر لم يكن نَصْرُه ولا خذلانه لكثرةٍ ولا قلَّة؛ هو دِينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزَّ، وأيَّده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ؛ فنحن على موعود من الله، والله منجزٌ وعْده، وناصرٌ جنده، ومكانُك منهم مكان النِّظام من الخرَز، يجمعه ويُمسِكه، فإنْ انحلَّ تفرَّقَ ما فيه وذهبَ، ثمَّ لم يجتمع بحذافيره أبدًا. والعَرَب اليوم، وإنْ كانوا قليلًا، فهم كثيرٌ عزيزٌ بالإسلام؛ فأَقِم واكتُب إلى أهل الكُوفة، فهم أعلام العَرَب ورؤساؤهم، ومَن لم يحفل بمَن هو أجمع وأحدُّ وأجدُّ من هؤلاء؛ فليأتهم الثلثان وليُقِم الثلث. واكتُب إلى أهل البَصرة أن يُمِدُّوهم ببعض مَن عندهم.» فقل لي: أين هذا الأسلوب من بديعيَّات (الشَّريف الرَّضِي) في «نهج بلاغته»، وتفلسفه وشقشقاته المنطقيَّة؟! ثمَّ أضاف الراوي: «فعاد عُمَرُ، فقال: «إنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام، فتكلَّموا!» فقام (عليُّ بن أبي طالب)، فقال: «أمَّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنَّك إنْ أشخصتَ أهلَ الشام من شامهم، سارت الرُّومُ إلى ذراريهم، وإنْ أشخصتَ أهلَ اليَمَن من يَمَنهم، سارت الحبشةُ إلى ذراريهم، وإنَّك إنْ شَخَصْتَ من هذه الأرض، انتقضتْ عليك الأرضُ من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تَدع وراءكَ أهمَّ إليك ممَّا بين يديكَ من العَوْرات والعِيالات! أَقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم، واكتُب إلى أهل البَصرة، فليتفرَّقوا فيها ثلاث فِرَق، فلتَقُم فِرقةٌ لهم في حُرَمهم وذراريهم، ولتَقُم فِرقةٌ في أهل عهدهم، لئلَّا ينتقضوا عليهم، ولتَسِرْ فِرقةٌ إلى إخوانهم بالكُوفة مَدَدًا لهم؛ إنَّ الأعاجم إنْ ينظروا إليك غدًا، قالوا: هذا أمير العَرَب، وأصل العَرَب، فكان ذلك أشدَّ لكلَبهم، وأَلَّبْتَهم على نفسك. وأمَّا ما ذكرتَ من مسير القوم، فإنَّ اللهَ هو أَكْرَهُ لمسيرهم منك، وهو أَقْدَرُ على تغيير ما يَكْرَه. وأمَّا ما ذكرتَ من عددهم، فإنَّا لم نكن نقاتِل فيما مضى بالكَثرة، ولكنَّا كنَّا نقاتِل بالنَّصْر.»
ـ كلامٌ مُسْكِت! ولو كان يتوخَّى السجع هنا لقال: « نقاتِل بالكَثْرَة… نقاتِل بالنُّصْرَة»! حقًّا، إنَّه يبدو بين هذا الأسلوب ومعظم ذلك الذي في «نهج البلاغة» بُعد المشرقَين. أو قُل: بُعد خطبةٍ شفويةٍ مرتجلةٍ، قيلت في صَدْر الإسلام، وخطبةٍ مكتوبةٍ، مدبَّجة بالحُلَى، تأنَّق فيها شريفٌ رَضِيٌّ في القرن الرابع من الهجرة، ليُعلِّم الناشئة فنون الإنشاء، محمِّلًا إيَّاها أوزار ما وَسِعَ من فنون البديع، وفنون عِلم الكلام!
ـ ذلك، إذن، ما سألتني عنه. وهو أنَّ الأسلوب النثري الذي عُرِف في خطابة صَدْر الإسلام هو بالجُملة الأسلوب النثري الذي عُرِف قبيل الإسلام من خلال الخطابة العَرَبيَّة، وأمثال العَرَب. بما في ذلك خطابة الرسول، عليه الصلاة والسلام، وخطابة صحابته.(2) وهو لا يأخذ من السجع والبديع- كما ترى- إلَّا عفوه، وعارضه السريع، ولا يوغل في شقشقة الكلام، والتمنطق، والصنعة البديعيَّة، التي إنَّما عُرِفت في ثقافة القرون الإسلاميَّة التالية، تصاعدًا إلى ما أُطلِق عليه مصطلح (عصور الانحطاط)، من القرن السابع وما تلاه. وما نراه مصطلحًا مسيئًا، ولا بعيدًا عن تقرير الحقيقة، والوصف العِلمي لحال تلك القرون، لُغةً، وأسلوبًا، وأدبًا، وحضارةً، وسياسةً، وطموحًا، وإنْ رَغِم بهذا المصطلح وضاقَ الغُيُر على سمعة الماضي والآباء، مهما كانوا؛ لسان حال هؤلاء الغُيُر ما قاله آباء آبائهم: «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟!»
ـ أم تُرَى كان أسلوب (عليٍّ) استثناءً من خصائص اللُّغة والأساليب في عصره وبين أهل عصره، بما في ذلك أسلوب رسول الله؟!
ـ تلك عنقاء مُغْرِب نافشةً ريشها! فأنْ يأتي آتٍ ليزعم أنَّ (عليَّ بن أبي طالب) كان استثناءً من ذلك كلِّه، وأنَّ أسلوبه قد نَدَّ عن أساليب البلغاء في صَدْر الإسلام، ليُضْحي نسيج وحده، شبيهًا بأساليب القرن الرابع الهجري وما تلاه- مُحلًّى بما جدَّ خلال تلك القرون من ضروب الأساليب المتأثِّرة بمدارس الإنشاء، لدَى المتكلَّمين والفلاسفة والمترسِّلين ومَن لفَّ لفَّهم من الورَّاقين والكُتَّاب وأرباب المقامات الأدبيَّة- أنْ يأتي آتٍ ليزعم هذا، فليستح؛ ففي زعمه إسرافٌ في الوهم والادِّعاء، من حقِّ صاحبه على أرباب الأدب والنقد النصح بأنْ يتعلَّم قبل أن يتكلَّم، وأنْ يرعى الأمانة فيما يزعم، وأنْ يحفظ للشَّريف الرَّضِي حقوقه الأدبيَّة والفكريَّة، ولعليِّ بن أبي طالب حقوقه الأدبيَّة والفكريَّة، فلا يعمد إلى خلط الأوراق عن هوًى في نفسه. ولقد ساق (الشَّريف الرَّضِيُّ) الخطبتين السابقتين في «النَّهْج»، ولكن ببعض الحذف، ثمَّ ستجد أنَّه لم يسترح حتى حلَّاهما ببعض لمساته البديعيَّة، على هذا النحو: «وهو دِين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدَّهُ وأمدَّهُ، حتى بلغَ ما بلغ، وطلعَ حيث طلع… فكن قُطْبًا، واستدِرْ الرَّحَى بالعَرَب، وأَصْلِهِمْ دُونك نارَ الحَرَب… فيكون ذلك أشد لكَلَبِهم عليك، وطمعهم فيك...».(3)
ـ ماذا عن خُطَب القرن الأوَّل غير ذلك النموذج؟
ـ قارن، إنْ شئت، أسلوب «النَّهْج» بخطبة (أبي بكر الصِّدِّيق) أيضًا، التي رواها (الطَّبَري)(4)، وتمضي هكذا: «إنَّ الله، عزَّ وجلَّ، لا يَقبل من الأعمال إلَّا ما أُريد به وجهه؛ فأَريدوا اللهَ بأعمالكم، واعلموا أنَّ ما أخلصتم للهِ من أعمالكم، فطاعةٌ أتيتموها، وحظٌّ(5) ظفرتم به، وضرائبُ أدَّيتموها، وسلَفٌ قدَّمتموه من أيامٍ فانيةٍ لأخرى باقية، لحِين فقركم وحاجتكم. اعتبروا، يا عباد الله، بمَن مات منكم، وتفكَّروا في مَن كان قبلكم. أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟! أين الجبَّارون؟ وأين الذين كان لهم ذِكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدَّهر، وصاروا رميمًا، قد تُرِكت عليهم القالات؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبثيات! وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعُدوا، ونُسِيَ ذِكرهم، وصار كلا شيء! ألا إنَّ اللهَ قد أبقى عليهم التَّبِعات، وقطع عنهم الشَّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدُّنيا دُنيا غيرهم، وبقينا خَلفًا بعدهم، فإنْ نحن اعتبرنا بهم، نجونا، وإن اغتررنا، كنَّا مثلهم. أين الوُضَّاء الحسنة وجوهُهم، المعجبون بشبابهم؟! صاروا ترابًا، وصار ما فرَّطوا فيه حسرةً عليهم! أين الذين بنوا المدائن، وحصَّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟! قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظُلمات القبور، هل تُحِسُّ منهم من أحدٍ، أو تسمع لهم رِكْزًا؟! أين مَن تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم؛ فوردوا على ما قدَّموا، فحَلُّوا عليه، وأقاموا للشِّقوة أو السَّعادة(6) في ما بعد الموت! ألا إنَّ اللهَ لا شريك له، ليس بينه وبين أحدٍ من خَلقه سببٌ يعطيه به خيرًا، ولا يصرف به عنه سوءًا، إلَّا بطاعته واتِّباع أمره. واعلموا أنَّكم عبيدٌ مَدِينُون، وأنَّ ما عنده لا يُدْرَك إلَّا بطاعته. أمَا إنَّه لا خير بخيرٍ بَعده النَّار، ولا شرَّ بشرٍّ بَعده الجنَّة!» هذا هو أسلوب الخطابة في صَدْر الإسلام. وإنما مَثَل مَن لا يميِّز هذا عن ذاك كالذي لا يميِّز بلاغة الشِّعر الجاهلي والأُموي عن بلاغة شِعر (البحتري) و(أبي تمَّام). فقارن هذا بأكثر تلك الخُطب المنسوبة في «النَّهْج» إلى (عليِّ بن أبي طالب)، لتجد الفرق الصارخ، ثمَّ أنت على نفسك بصيرة! ولك أن تقارن كذلك أسلوب «النَّهْج» بأسلوب ابني عليٍّ، (الحَسَن) و(الحسين)- اللذين لم يقيِّض الله لهما من يصطنع باسمهما نَهْج بلاغةٍ في القرن الرابع!- لتُدرِك البَون بين النَّسجَين. فمن خطابة الأوَّل قوله، مثلًا: «يا أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن يَنْفِر إليه. وواللهِ لأنْ يليه أولو النُّهَى، أمثلُ في العاجلة، وخيرٌ في العاقبة! أجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتُلينا به وابتُليتم…».(7) فتلكم نماذج كثيرة متواترة، اقتصرنا منها على النَّزر اليسير؛ لتدلَّ على ما زعمناه. ذلك أنَّ السجع بخاصَّة والبديع بعامَّة ليسا من البلاغة إلَّا في حدود ما يقتضيه المعنى، دون اصطناع أو تكلُّف. وحاشا أن يكون أسلوب )عليِّ بن أبي طالب( بذلك الزخرف اللفظي الفارغ الممجوج، لا لأنه منافٍ لنمط الأسلوب في زمنه وثقافته فحسب، ولكن لأنه أيضًا ليس بأسلوب البُلغاء الحقيقيِّين، بل أسلوب الصعاليك الفارغين من المعاني، المتلهِّين طفوليًّا بألاعيب الألفاظ وحُلاها. ولأجل هذا كان (عبدالقاهر الجرجاني)(8) يقول: «وعلى الجُملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا سَجْعًا حَسَنًا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبَه واستدعاه وساقَ نحوَه، وحتى تَجِده لا تبتغي به بدَلًا، ولا تجِد عنه حِوَلًا، ومِن ها هنا كان أَحْلَى تجنيس تسمَعُه وأعلاه، وأحقُّه بالحُسْن وأولاهُ، ما وقع من غير قصدٍ من المتكلِّم إلى اجتلابه، وتأهُّبٍ لطلبه، أو ما هو- لحُسن مُلاءمته، وإنْ كان مطلوبًا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة… لا تجد… لفظًا اجتُلِب من أجل السجع، وتُرك له ما هو أحقُّ بالمعنى منه وأبرُّ به، وأهدَى إلى مَذْهبه.» ومع هذا تجد الجرجاني نفسه لم يملك هنا الخروج من إهاب عصره، فسجع! فهل كان «المعنى هو الذي طلبَ سجعه واستدعاه وساقَ نحوَه»؟ كلَّا، لكن يظلُّ الإنسان ابن عصره وبيئته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1967)، تاريخ الرُّسل والملوك، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 4: 123- 125.
(2) مَن شاء الاستزادة، فليرجع في هذا إلى مثل كتاب: (صفوت، أحمد زكي، جمهرة خُطب العَرَب في عصور العَرَبيَّة الزاهرة).
(3) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 353- 354.
وقد ضبطَ (الشيخ محمَّد عبده) كلمة «الحرب» بسكون الراء. وكذا فعل (صبحي الصالح) في تحقيقه، (القاهرة: دار الكِتاب المِصْري- بيروت: دار الكِتاب اللُّبناني، 2004)، 203. وإنَّما مذهب (الشَّريف الرَّضِي) أن يُجانس ويُساجع، ولا يستقيم ذلك له إلَّا بجعل (الحَرَب)- بفتح الراء- في وِزان (العَرَب)؛ ولذلك صوَّره نارًا تأكل الأخضر واليابس، وكذلك الحَرَب؛ فهو ذهاب المال كلِّه. كما قال (أبو الأسود الدؤلي):
قَـدْ يَجْمَـعُ المَـرْءُ مـالًا ثُمَّ يُسْلَبُهُ ::: عَمَّـا قَلِيـلٍ فَيَلْقَـى الذُّلَّ والحَرَبا
(4) م.ن، 3: 224- 225.
(5) في الأصل: «وخطأ ظفرتم به»!
(6) في الأصل: «للشَّقوة والسَّعادة»!
(7) الطَّبَري، م.ن، 4: 485.
(8) (1991)، أسرار البلاغة، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (جُدَّة: دار المدني)، 11- 13.