كتب جواد بولس:
أصدرت المؤسسات الفلسطينية التي تتابع شؤون الأسرى الفلسطينيين, قبل أيام، وثيقة شاملة تحت عنوان “ورقة حقائق” ضمنتها “معطيات حول حملات الاعتقال التي نفّذها الاحتلال بعد السابع من أكتوبر وأبرز التحوّلات التي فرضتها هذه المرحلة على قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعسكرات الإسرائيلية”.
لم تبدأ إسرائيل حربها الوحشية ضد الفلسطينيين في السابع من أكتوبر العام المنصرم؛ لكنّها وظّفت أحداث ذلك اليوم للانتقال الى مرحلة جديدة على طريق تنفيذ مخططات التيارات اليمينية المهيمنة على حكومة نتنياهو وعزمهم تشديد سيطرتهم على الأراضي المحتلة وحسم مستقبل المواطنين الفلسطينيين خارج معادلات وقرارات ما يسمى “الشرعية الدولية” التي كانت مغيّبة نسبيا عن الهواجس الصهيونية السائدة فقررت هذه الحكومة تقويضها بشكل نهائي. وهذا ما تفعله عمليًا جيوش “امبراطورية صهيون /إسرائيل” في حربها على غزة وداخل الضفة الغربية وفي بقاع كثيرة في الشرق الأوسط تجتاحها النيران الإسرائيلية بحرية موجعة ومستفزة على مرأى شعوب الأرض قاطبة وحكامها.
لقد شكّلت قضية الأسرى الفلسطينيين إحدى جبهات الحرب الإسرائيلية الدموية الخلفية؛ ولئن غابت تفاصيل الجرائم الإسرائيلية، المنفذة بحق الأسرى داخل سجون ومعسكرات الاحتلال، عن “مشاهد الموت” العامة ، يبقى حق ضحايا تلك الجرائم دينًا معلقًا في رقاب البشرية وحراس ضمائرها ؛ وتبقى مهمة توثيق هذه الجرائم مسؤولية فلسطينية عليا ومسؤولية المؤسسات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق سكان البلد المحتل وأسراه في زمن الحروب.
تشير “ورقة الحقائق” المذكورة إلى أن عدد الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال تخطى العشرة آلاف أسير حتى بداية شهر أكتوبر الحالي. من بين هؤلاء يبلغ عدد الأسرى الإداريين 3400 أسير. أولئك يحتجزهم جيش الاحتلال بشكل تعسفي حيث لا يحقق معهم ولا توجه لهم أي شبهات عينية ولا لوائح اتهام تمكّنهم من مواجهتها في المحاكم ونفيها بمقتضى الأنظمة والقوانين الأساسية المرعية في معظم دول العالم ووفق المواثيق الدولية وأحكامها. وجاء أيضا أن عدد المعتقلين من قطاع غزة وصل إلى 1618 أسيرًا حيث تم تصنيفهم وفق قانون اسرائيلي خاص تحت مسمى “المقاتلين غير الشرعيين” ويحتجزون على الأغلب في معسكرات خاضعة لسلطة جيش الاحتلال، اشتهر منها معسكر “سدي تيمان” المعروف بعدد الجرائم والاعتداءات التي ارتكبت بحق من احتجزوا فيه وبقوا على قيد الحياة. كما وتشير الورقة إلى أن عدد الأسرى الأطفال يبلغ 270 طفلًا (أي من هم دون سن الثامنة عشر) بينما يبلغ عدد الأسيرات المعلومة هوياتهن 96 أسيرة، من بينهن يوجد 27 أسيرة إدارية. تعيش الأسيرات في ظروف مأساوية تتنافى وشروط الكرامة الانسانية الأساسية ومعيشة بني البشر . لقد استشهد خلال العام المنصرم داخل سجون ومعسكرات الاحتلال ما لا يقل عن أربعين أسيرًا. أولئك من كشف عن هوياتهم وأعلنت أسماؤهم، وتبقى أعداد من استشهدوا، خلال عملية اعتقالهم، أو تحت التعذيب وهم في الطريق الى معسكر الاعتقال، أو بعد اعتقالهم، غير معروفة.
لا يمكن حصر أعداد الأسرى لأنها تتغير بشكل يومي؛ ولا حصر الجرائم والاعتداءات عليهم بشكل دقيق وثابت، فما نقرأه عنها يومياً، على لسان الأسرى المحررين، يفيد بتنوعها وبابتكارات إجرامية إسرائيلية جديدة؛ واللافت أن الجهات الإسرائيلية المسؤولة عن تنفيذ تلك الجرائم وسياسات القمع والاعتداءات الوحشية لا تتستر على أفعالها، بل تتعمّد، منذ السابع من أكتوبر تحديداً، الكشف عن بعض مشاهد اعتداءاتها العنيفة والمهينة للأسرى وعرضها على الشاشات من دون أن تخشى المساءلة أو الملاحقة من قبل أي جهة أو سلطة قضائية إسرائيلية أو عالمية.
لقد بتنا نشاهد بتكرار مقلق على شاشات الإعلام الإسرائيلي أفلاما صورتها كاميرات وحدات حرس السجون ووثقت بمبادرتها عمليات اقتحاماتها لأقسام الأسرى وإخراجهم من غرفهم بمشاهد مهينة تخللها الضرب وأيديهم مكبّلة وأعينهم مغطاة والتنكيل بأجسادهم شبه العارية وما إلى ذلك من ممارسات حيوانية كنا قد قرأنا عنها ووثّقتها المؤسسات، الفلسطينية والعالمية، الحقوقية والإعلامية، المعنية بالدفاع عن كرامات الانسان وعن حقوق الأسرى والمناضلين.
أمارس مهنة الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين منذ أربعة عقود ونصف؛ وقمنا خلالها، مع زملائي المحامين، بتوثيق ما استطعنا من مشاهد التنكيل بالمناضلين، والخروقات الإسرائيلية بحق أفراد الحركة الأسيرة الفلسطينية، لكننا لم نشهد ما نراه في هذه الأيام وقد استفحل الشر حتى تقمّص حالته الخالصة، العدمية، حين يفقد المسكون بها فطرته الإنسانية ويتحول إلى مسخ معمد بشهوة الموت وبإرادة آلهة العدم.
الجديد في المشهد ليس صنوف التعذيب، التي تمارس بحق الأسرى الفلسطينيين على بشاعتها، ولا حتى انتشارها كواقع صار فيه تعذيب الاسير/ة الفلسطيني/ة بمثابة فرض ينفذه الجندي أو السجّان راغبًا وبشكل طبيعي، وحسب؛ الجديد، هو صمت المجتمع الإسرائيلي ومعظم مؤسساته الرسمية العليا والشعبية، وتواطؤ المنظومة القضائية وسكوتها عن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم والمنظرين لها، وتغوّلهم جميعا.
يقف اليوم الأسرى الفلسطينيون أمام مشهد لم يواجهوه في الماضي وواقع ينذر بالنهايات المأساوية الخالدة. لقد خاضوا خلال مسيرتهم الكفاحية مئات المعارك؛ وقد خسروا بعضها وربحوا الكثير منها، لكنهم كانوا يعرفون دائما كيف يحافظون على معادلة البقاء الآمن والحياة الكريمة. لن أستعيد مفاصل ذلك التاريخ المجيد؛ لكننا نعرف وهم يعرفون وعدوهم يعرف أيضا، أن كثيرا من مقومات ذلك التاريخ، وروافع تلك المواجهات الداعمة لم تعد موجودة. وأن معطيات جميع الساحات الفلسطينية والعالمية المساندة، قد تغيّرت وفقدت محرّكات تأثيرها لصالح الحركة الأسيرة.
أما في إسرائيل فنحن نرى أن غالبية المجتمع الإسرائيلي تدعم سياسة التنكيل بالأسرى، لاسيما بعد السابع من أكتوبر، وتعتبر أن ما يجري بحقهم هو جزء مما يستحقه هؤلاء “الارهابيون” الذين باتت معظم وسائل الاعلام الإسرائيلية تصفهم “بمقاتلي النخبة” في محاولة مغرضة لاستعادة أحداث السابع من أكتوبر، وتجييش الغريزة الانتقامية عند سوائب الشعب ضد جميع الاسرى.
لقد زوّدت الكنيست الإسرائيلية الوزارات والهيئات التنفيذية ذات الاختصاص بالقوانين والأنظمة التي من شأنها أن توفر الغطاء “الشرعي” وآليات تنفيذه في تطبيق سياسات القمع وملاحقة الاسرى وإطفاء “جذوات أرواحهم”. وهكذا فعلت المنظومتين التنفيذية والقضائية، بدءا من القوات الميدانية التي تقوم باعتقال الفلسطينيين من مواقعهم، ويأتي بعدهم المحققون والمدّعون حتى ننتهي بجميع القضاة، من صغيرهم حتى كبيرهم. جميعهم عبارة عن أذرع تعمل بتناغم في آلة قمع كبيرة ويقومون “بواجباتهم” جنودا في مملكة ذلك الشر المطلق، ومندوبين عن “آلهة الموت والعدم”؛ أما قرابينهم/ضحاياهم الفلسطينيون، فهم وفق توراتهم وعقائدهم مجرد “أصفار ” لا يستحقون الحياة أو نغزة في ضمير أحفاد يوشع.
ستبقى “ورقة الحقائق” لائحة اتهام هامة وخطيرة تدمغ الاحتلال الإسرائيلي وجميع من يدعم جرائمه. لكنها ستبقى في ذات الوقت رهينة محاكم التاريخ ومن سيكتبه في المستقبل؛ والى أن نصل إلى هناك ستكون أشد الصرخات وأصدقها هي التي تنادي من يسكنون الزنازين وقلاع الصمود وتهيب بهم “يا ساكني الزنازين اتحدوا” الآن وقبل أن يفوت الأوان.