نشرت صحيفة واشنطن بوست اليوم الأحد تقريرا زعمت أنه يكشف خفايا تفجيرات “البيجر” التي وقعت في لبنان في 17 سبتمبر الماضي، موضحة كيف تم تصميم العملية وكيف جمعت الأجهزة التي انفجرت.
وقالت الصحيفة في التقرير الذي استند إلى إفادات مسؤولين إسرائيليين وشرق أوسطيين وأمريكيين مطلعين على الأحداث، إن فكرة عملية أجهزة النداء نشأت في عام 2022، وبدأت أجزاء من الخطة تتبلور قبل أكثر من عام من هجوم “حماس” في 7 أكتوبر، وكان ذلك وقتا هادئا نسبيا على الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان.
وخوفا من أن يتم تحويل حتى الهواتف المحمولة العادية إلى أجهزة تنصت وتتبع تسيطر عليها إسرائيل وهكذا ولدت فكرة إنشاء نوع من اجهزة الاتصالات المحصنة، كما زعم المسؤولون.
وكان “حزب الله” يبحث عن شبكات إلكترونية مقاومة للاختراق لنقل الرسائل، وتوصل “الموساد” إلى بعض الحيل التي من شأنها أن تدفع الحزب إلى شراء أجهزة تبدو مثالية لمثل هذه الوظيفة وهي المعدات التي صممها “الموساد” وجمعها في إسرائيل.
ويدعي التقرير أن الموساد بدأ في إدخال الجزء الأول من الخطة، أجهزة اتصال لاسلكية مفخخة، إلى لبنان منذ ما يقرب من عقد من الزمان، في عام 2015.
وتحتوي أجهزة الراديو المحمولة ثنائية الاتجاه على حزم بطاريات كبيرة الحجم ومتفجرات مخفية ونظام إرسال يمنح إسرائيل إمكانية الوصول الكامل إلى اتصالات “حزب الله”.
وبدأت في عام 2023، المجموعة تتلقى طلبات لشراء كميات كبيرة من أجهزة النداء التي تحمل العلامة التجارية التايوانية “أبولو”، وهي علامة تجارية معروفة وخط إنتاج له توزيع عالمي ولا توجد روابط واضحة لها مع المصالح الإسرائيلية أو اليهودية.
وقال المسؤولون إن الشركة التايوانية لم تكن على علم بالخطة، وجاء عرض المبيعات من مسؤول تسويق موثوق به من قبل “حزب الله” وله صلات بأبولو.
وكانت مسؤولة التسويق، وهي امرأة رفض المسؤولون الكشف عن هويتها وجنسيتها، ممثلة مبيعات سابقة للشركة التايوانية في الشرق الأوسط أسست شركتها الخاصة وحصلت على ترخيص لبيع مجموعة من أجهزة النداء التي تحمل العلامة التجارية “أبولو.”
وقد عرضت في وقت ما من عام 2023، على “حزب الله” صفقة على أحد المنتجات التي تبيعها شركتها: جهاز AR924 المتين والموثوق به.
وقال مسؤول إسرائيلي مطلع على تفاصيل العملية: “كانت هي من تواصلت مع حزب الله، وأوضحت لهم لماذا كان جهاز النداء الأكبر حجما والمزود ببطارية أكبر أفضل من النموذج الأصلي”.
وقال المسؤول إن إحدى نقاط البيع الرئيسية لجهاز AR924 كانت أنه “من الممكن شحنه بكابل، وكانت البطاريات تدوم لفترة أطول”.
وكما اتضح، تم الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج الأجهزة ولم يكن لدى مسؤول التسويق أي علم بالعملية ولم يكن على علم بأن أجهزة النداء تم تجميعها فعليا في إسرائيل تحت إشراف “الموساد”، وفقا للمسؤولين المطلعين على المؤامرة.
وتضمنت أجهزة النداء والتي يقل وزن كل منها عن ثلاث أونصات، حزمة بطارية تخفي كمية ضئيلة من المتفجرات القوية، وفقا للمسؤولين المطلعين على المؤامرة.
وتم إخفاء مكونات القنبلة بحيث لا يمكن اكتشافها تقريبا، حتى لو تم تفكيك الجهاز، كما قال المسؤولون الإسرائيليون.
ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن “حزب” الله فكك بعض أجهزة النداء وربما قام بفحصها بالأشعة السينية.
كما كان من غير المرئي أن يتمكن “الموساد” من الوصول عن بعد إلى الأجهزة، فقد كان من الممكن أن تؤدي إشارة إلكترونية من جهاز الاستخبارات إلى انفجار الآلاف من الأجهزة في وقت واحد، ولكن لضمان أقصى قدر من الضرر، كان من الممكن أيضا أن يحدث الانفجار من خلال إجراء خاص من خطوتين مطلوب لعرض الرسائل الآمنة التي تم تشفيرها.
وقال أحد المسؤولين: “كان عليك الضغط على زرين لقراءة الرسالة”، وفي الممارسة العملية، كان هذا يعني استخدام كلتا اليدين، وقال المسؤول إن المستخدمين في الانفجار سوف “يجرحون اياديهم بكل تأكيد”، وبالتالي “سيكونون غير قادرين على القتال”.
لم يكن معظم كبار المسؤولين المنتخبين في إسرائيل على علم بهذه القدرة حتى 12 من سبتمبر، وقال مسؤولون إسرائيليون إن هذا هو اليوم الذي استدعى فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مستشاريه الاستخباراتيين لعقد اجتماع لمناقشة التحرك المحتمل ضد “حزب الله”.
وبحسب ملخص للاجتماع عقد بعد أسابيع من قبل مسؤولين مطلعين على الحدث، قدم مسؤولو “الموساد” لمحة أولى عن واحدة من أكثر عمليات الوكالة سرية.
وبحلول ذلك الوقت، كان الإسرائيليون قد وضعوا أجهزة اتصال مفخخة في أيدي وجيوب الآلاف من عناصر “حزب الله”.
وتحدث مسؤولو الاستخبارات أيضا عن قلق طويل الأمد: مع تصاعد الأزمة في جنوب لبنان، كان هناك خطر متزايد من اكتشاف المتفجرات ويمكن أن تسفر سنوات من التخطيط الدقيق والخداع بسرعة عن لا شيء.
وقال المسؤولون إن نقاشا حادا اندلع في جميع أنحاء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وأدرك الجميع، بما في ذلك نتنياهو، أن الآلاف من أجهزة الاتصال المتفجرة يمكن أن تلحق أضرارا لا حصر لها بحزب الله، ولكنها قد تؤدي أيضا إلى رد فعل عنيف، بما في ذلك ضربة صاروخية انتقامية ضخمة من قبل قادة حزب الله الناجين، مع احتمال انضمام إيران إلى المعركة.
وقال مسؤول إسرائيلي: “كان من الواضح أن هناك بعض المخاطر” وقد حذر البعض، بما في ذلك كبار المسؤولين في قوات الدفاع الإسرائيلية، من احتمالات التصعيد الكامل مع “حزب الله”، حتى في الوقت الذي واصل فيه الجنود الإسرائيليون عملياتهم ضد “حماس” في غزة، ولكن آخرين، وعلى رأسهم “الموساد”، رأوا في ذلك فرصة لزعزعة الوضع الراهن من خلال “شيء أكثر كثافة”.
ولم تكن الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لإسرائيل، على علم بأجهزة النداء المفخخة أو النقاش الداخلي بشأن ما إذا كان ينبغي تشغيلها، كما قال مسؤولون أمريكيون.
ووافق نتنياهو في نهاية المطاف، على تشغيل الأجهزة في حين أنها قد تلحق أقصى قدر من الضرر.
وبدأ “الموساد” على مدى الأسبوع التالي، الاستعدادات لتفجير أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية المتداولة بالفعل، واتسع النقاش في تل أبيب بشأن الهجوم على “حزب الله” ليشمل هدفا آخر بالغ الأهمية: زعيم الحزب حسن نصر الله نفسه.
ويزعم التقرير أن “الموساد” كان على علم بمكان تواجد نصر الله في لبنان لسنوات وكان يتتبع تحركاته عن كثب، كما قال المسؤولون، ومع ذلك، امتنع جيش الاحتلال عن إطلاق النار، على يقين من أن الاغتيال سيؤدي إلى حرب شاملة مع الحزب، وربما مع إيران أيضا.
وكان الدبلوماسيون الأمريكيون يضغطون على نصر الله للموافقة على وقف إطلاق نار منفصل مع إسرائيل، دون ارتباط بالقتال في غزة، على أمل التوصل إلى اتفاق يمكن أن يؤدي إلى انسحاب مقاتلي “حزب الله” من القواعد اللبنانية الجنوبية التي تهدد المواطنين الإسرائيليين في المجتمعات القريبة من الحدود.
وبينما كان النقاش محتدما في أعلى دوائر الأمن القومي في إسرائيل في 17 سبتمبر بشأن ما إذا كان ينبغي ضرب زعيم “حزب الله”، كانت آلاف أجهزة النداء التي تحمل علامة “أبولو” تدق أو تهتز في آن واحد، في مختلف أنحاء لبنان وسوريا، وظهرت على الشاشة جملة قصيرة باللغة العربية: “لقد تلقيت رسالة مشفرة”، واتبع عناصر “حزب الله” التعليمات بدقة للتحقق من الرسائل المشفرة، بالضغط على زرين، فمزقت الانفجارات الأيدي وفجرت الأصابع في المنازل والمحلات التجارية، وفي السيارات وعلى الأرصفة.
وبعد أقل من دقيقة، انفجرت آلاف أخرى من أجهزة النداء عن بعد، بغض النظر عما إذا كان المستخدم قد لمس جهازه أم لا.
وفي اليوم التالي، أي في 18 سبتمبر، انفجرت مئات من أجهزة اللاسلكي بنفس الطريقة، مما أسفر عن مقتل وإصابة المستخدمين والمارة.
وأمر نتنياهو بالهجوم الذي استهدف مركز قيادة مدفونا على عمق كبير في بيروت، أثناء سفره إلى نيويورك لحضور خطاب في الأمم المتحدة أعلن فيه متحدثا إلى حزب الله “كفى”، وفي اليوم التالي 28 سبتمبر أكد “حزب الله” اغتيال نصر الله.
بالمقابل وعلى عكس ما نقلته واشنطن بوست، كان موقع والاه العبري قد نشر بعد يوم من مجزرة البيجر، نقلاً عن ثلاثة مسؤولين أميركيين كبار لم يسمّهم بأنّ إسرائيل قررت، تفعيل أجهزة بيجر التي حملها عناصر من حزب الله في لبنان وسورية خشية أن يتمكن الحزب في الفترة القريبة المقبلة من اكتشاف الثغرة الأمنية في أجهزة الاتصال المذكورة.
وقال مسؤول أميركي رفيع لم يسمه الموقع، واصفاً الأسباب التي قدمتها إسرائيل للولايات المتحدة في ما يتعلّق بتوقيت الهجوم: “وصلت إسرائيل إلى نقطة، إما أن تستخدم فيها أجهزة بيجر المفخخة وإما أن تفقدها”.
ونقل الموقع عن مسؤول إسرائيلي سابق لم يسمّه قوله إنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية خططت لاستخدام أجهزة بيجر المفخخة التي تمكّنت من “زرعها” لدى عناصر حزب الله، كضربة استباقية مفاجئة في حرب شاملة، من أجل شلّ التنظيم بشكل مؤقت، ما سيمنح إسرائيل أفضلية كبيرة في الهجوم.
وبحسب ما نقله الموقع عن مسؤول أميركي لم يذكر اسمه، في الأيام الأخيرة، تزايد القلق في إسرائيل من أنّ حزب الله قد يكتشف أنّ أجهزة الاتصال تمثل خرقاً أمنياً. وبناء على ذلك، جرت مشاورات طارئة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزراء كبار ورؤساء المؤسسة الأمنية وأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية، أسفرت عن اتخاذ القرار باستخدام النظام السرّي الآن بدلاً من المخاطرة باكتشافه من قبل حزب الله.
وبلغت حصيلة ضحايا تفجيرات أجهزة الاتصالات اللاسلكية أكثر من 37 شهيدا وآلاف الجرحى.