تعرَّفتُ على الكاتبة الرَّائعة صباح بشير، ورائعتها الإجتماعيَّة والواقعيّة، رواية “فرصة ثانية” من خلال نادي حيفا الثَّقافيِّ، منارة الأدب والثَّقافة، حين اقترح عليَّ زميلي العزيز على مقعد الدِّراسة الثَّانويَّة، الكليَّة العربيَّة الأرثوذكسيَّة، ورفيقي في الجبهة الدِّيموقراطيَّة للسَّلام والمساواة، المحبُّ والشَّغوفُ والقارئ النَّهمُ، الاستاذ والمحامي ومدير ومؤسِّس نادي حيفا الثَّقافي، فؤاد نقَّارة، قراءتها..
فاقتَنيتُها..
لقد مُنحت هذه الرِّواية هذا الاسم، “فرصة ثانية” لأنَّها تحمل في طيَّاتها الأملَ والمُرادَ والطَّمأنينةَ، ولأنَّ الحياة لا تنتهي بفشل تجربةٍ في الحياة، عاطفيَّة أو اجتماعيَّة أو حياتيَّة..
تبدأ الرِّواية بمأساة وفاة الأمِّ، فاتن، في غرفة الولادة.. تبدأ بالموت وتنتهي بثلاثة أفراح، وحياة كريمة للمولود الجديد يحيى..
أمّا ابراهيم فقد مرَّ بتجربة عاطفيَّة فاشلة لم تثنه عن إعادة التَّجربة رغم صعوباتها وعقباتها والخوف من الفشل، فتزوَّج زواجًا ثالثًا ناجحًا بعد زواجين فاشلَين، الذَين احبطاه، وبقي بنفسيَّةٍ حزينة متشائمةٍ وآثر العيشَ لوحده وأصدقائه، لكنَّ جارته نهاية أتته مخلِّصةً لخيبَتَيهِ ومخلِصَةً له، لتكون نهايةً لبؤسه، وجد فيها بدايةً لسعادته، بعد أن كان لا “يجرؤ على التَّحليق مرَّةً أخرى” (ص 90)..
يقول ابراهيم: لو أنَّني بقيتُ مغلق القلب ممتنعًا عن الحبِّ، لما منحتني الأيَّام فرصةً ثانيةً للفرح، ففي كلِّ قلبٍ مغلقٍ، هناك مساحة واسعة للحبِّ، تنتظرُ فقط من يفتح لها الباب لإستقبال الفرص” (ص 258)..
وتقول الكاتبة صباح بشير عن ابراهيم في تجربته الثَّالثة: “انطلقَ في طريقهِ مقبلاً على مستقبلٍ يموج بالاحتمالات، عازمًا على تحويلِ جراحِهِ إلى علاماتٍ تُذكِّره بقوَّتِهِ وعزيمتِهِ، فهو يستحقُّ السَّعادةَ. قرَّر أن يفتحَ أبواب القلب والعقلِ معًا، وأن يواجّه الحياة بكلِّ ما فيها من تحدِّيات وفُرص، وينطلقُ نحو حبيبته نهاية” (ص151) التي وضَعَت نهايةً لآلامه وعذابه.. فكانت كما نقول في العامِّيَّة “الثَّالثة ثابتة”.
لقد دخلتُ الرِّواية من باب غرفة الولادة، الولادة الصَّعبة التي تنتهي بوفاة الأمِّ، وولادة يحيى يتيمًا، وقلبي على قلب ابنتي مي الحبيبة في عملها، قابلة في المستشفى، فقد عشتُ معها تلك الصَّفحات الرَّائعة الأولى للرِّواية، حيث طلبَت منِّي بحماسٍ وشوقٍ، تسليفها الرِّواية بعد إتمام قراءتها، فبعد يومين بالتَّمام، أهديتها الرِّواية، محذِّرًا إيَّاها: بابا لن تستطيعي تركَها للحظةٍ، بل ستكون قراءتها متواصلة..
وعُدتُ على قراءتها مرَّةً أخرى، والمرَّة الثَّانية كانت أمتعَ من الأولى.
لقد كان يحيى محور الرِّواية، حيث أحياها يحيى في تقاربِ القلوبِ والتَّعارفِ والحبِّ والمودَّةِ التي انتهت بالسَّعادة والفرح، انتهت بالزَّواج، رغم الألم والحزنِ والفاجعة..
“اختار مصطفى اسم يحيى لمولوده، ليحملَ معنى الحياة والأملِ، الذي لا يريد له أن ينطفئ حتَّى في أحلك اللّحظاتِ، أراد أن يُعبِّرَ عن عظمة الحبِّ الذي جَمَعَ بينه وبين فاتن، وأثمر بهذا المولود، ففي لحظة فراقِها الأبديِّ عنه، لم يجد عزاءً سوى بتسميةِ ابنه يحيى، وكأنَّه بذلك يُحيي ذكرى حبيبتِهِ ويُخلِّدَ حبَّهما الأبديِّ” (ص 26). ﴾..وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى.. ﴿
لقد بدأت الرِّواية بمأساةٍ، بموت فاتن الوالدة، وانتهت بزواج والد يحيى مصطفى لخالته أخت فاتن هُدى، التي احبَّت وأخلصَت وافتدَت حياتها لابن اختها يحيى، من أجل سعادة يحيى، وكان شاغلها الدَّائم المولود يحيى، فقد أهدت هُدى حياتها وقدَّمتها قربانًا من أجل يحيى، فلم تظلمه بل كانت له أمًّا حنونًا رؤومًا مثاليَّةً، أمًّا رقيقةً، رغم الصُّعوبات والعراقيل التي كادت أن تحول دون هذه النِّهاية الجميلة، وذلك بفضل الجميل الذي قدَّمه مصطفى للبوَّاب والخادم والعامل فيصل عنده، في معرضه لبيع السَّيَّارت، حين كشف له ألاعيب سناء التي كادت أن تدخل بين قلبين وتدسَّ السُّمَّ في عسلِهما، ” استمع فيصل بذهولٍ لكلمات سناء، كلُّ كلمةٍ تكشف عمقَ خبثِها ودناءة تفكيرها، شعرَ بغضبٍ عارمٍ تجاهها، وعزم على إخبار مصطفى بما سمعه ورآه” (ص 171)..
بفضل جميلِ ابراهيم، بانت ونبتت بذور الوفاء والامتنان والعرفان والمعروف عند فيصل.. لقد فشل كيدُ سناء، رغم إغرائها له، فظهرت رخيصةً حين قالت له : “سأكون معكَ كلَّما احتجتَ إليَّ” (ص 76).
ما أجمل أن يُردَّ الجميلُ بالجميلِ.. رحمَ الله امرئ عرف قدر نفسه، فلزِمهُ، فيعترف مصطفى أنَّه: “أنا أدرك أنَّني لستُ زوجًا مثاليًّا، فأنا أكبرُ منها سنًّا، ولستُ مثاليًّا بأيِّ شكلٍ من الأشكال” (ص141). “يا إلهي، ماذا فعلتُ بنفسي وبهدى؟ كم أنا أنانيٌّ!” (ص182). ومن ناحية ثانية يصف هدى: ” أكنُّ لهدى كلَّ تقديرٍ واحترامٍ، هي إنسانةٌ رائعةٌ طيِّبةُ القلب، وأنا مقتنعٌ أنَّها ستكونُ زوجةً صالحةً، واُمًّا مثاليَّةً ليحيى، أعرف أنَّها تقدِّم تضحيةً كبيرةً بموافقتها على الزَّواجِ، لكنَّها تفعلُ ذلك بدافع الحبِّ والمسؤوليَّة فهي تحبُّ يحيى كثيرًا. (ص141).
لكنَّ هدى قرَّرت، “لم تستلم لمشاعرها السَّلبيَّة، تذكَّرت حبَّها الشَّديدَ لأختِها وقرارها بأن تصبرَ على زوجها، وتحافظَ على يحيى وبناء بيتٍ من الحبِّ على شاطئ الذِّكريات، بيت يملأه دفءُ العائلة وسعادة الأطفال” (ص 189).
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾
لقد انتصرت الكاتبة بابداعها وسلاسة سردها بعد أن زرعت شكوكًا في قلبي، حيث آلمني الأمر بأنَّ هذا الزَّواج لن يتمَّ، ممَّا دعاني أن أحرثَ الصَّفحات، صفحة تلو اختها، إلى أن اقنعتني أنَّها انتصرت بتتمَّة هذا الزَّواج الذي أردتُه أن يكون منذ البداية، من أجل سعادة يحيى..
وهذا ما تمنَّيتُه ساعة وفاة فاتن متسائلاً عن مصير يحيى وحياته، “فحبِّي ليحيى هو امتدادٌ لحبِّي لشقيقتي ورفيقة روحي” (ص 36)، “أختي تعيشُ في هذا الطِّفلِ” (ص49).
انتصرت هدى على عجزِ ومحنة مصطفى: “سو ف أساعدك على تجاوزِ حزنكَ” (ص 191).
لقد كرِهتُ لبنى وتصرُّفاتها مع زوجها عبد الله، واستبدادها وسيطرتها العقيمة عليه بعد أن تزوَّجها حبًّا وكان متيَّمًا بها، بينما كان زواجها له هروبًا من سجن والديها البيتيِّ العنيفِ والمتزمِّتِ، الذَين تحكَّما في حرِّيَّتها حيث فرضا عليها القيود والقوانين المُتَعصِّبة والمُتشدِّدة التي تُكبِّلها بصرامة مفرطة، فوجدت في زواجها من عبد الله هروبًا من سجنها، “لذلك هربتُ من سجنهم، بزواجٍ لم يكن حبًّا حقيقيًّا، هربتُ نحو مجهولٍ رسمتُه رغبةً في الهربِ، فقد كان عبدُ الله بوَّابتي الوحيدة نحو عالمٍ جديدٍ ينبضُ بالحرِّيَّةِ والانفتاحِ، عالم يغدقُ عليَّ فيه حبَّه وعنايتَهُ واهتمامه دون حدودٍ” (ص 253)..
لقد كان عبدُ الله زوجًا مُهمَلاً هامشيًّا في حياتها “حتَّى في الفراش، لم يعُد له حقٌّ في مشاعر زوجتِهِ ولم يجرؤ على لمس جسدها أو الاقتراب منها، فأصيبَت روحه بجروحٍ غائرة” (ص 220). حيث وجدت في ذلك أن تنتقم من عبد الله، لتحلَّ عقدتها التي سحبتها معها من بيتها، بدلاً من أن تقابله الحبَّ والإخلاص والحنين، فهو لم يُفقدها حرِّيَّتها بل منحها كلَّ ما تريد، لكنَّها قابلته بكيدها العظيم ولؤمها واضطهادها واحتقارها له، بل وكانت في قمَّة السَّاديَّة معه، إلى أن انتفض عليها بتهديده لها بالطَّلاق وإخبار أهلها بذلك.
“ينفجرُ عبدُ الله غاضبًا: لا أريدك زوجةً بعد اليومِ، أنانيَّتُكِ تُنهكني، لا تُفكِّرين إلا بنفسِكِ، سأتَّصلُ بوالدك الآن، سأخبرُهُ بكلِّ ما يدور بيننا بِدقَّةٍ سأوضِّحُ له الأمورَ، فأنا لم أعد أطيقُ صبرًا أكثر من ذلك، سأذهبُ غدًا إلى المحكمةِ للبدء بإجراء الطَّلاق، أعدِّي نفسك لذلك” (ص 237).
انتفض عبدُ الله على الظُّلم والغبن والاستبداد والاستعباد والاجحاف وانتصرَ..
لقد انتهت الرِّواية بفرح عوَّضنا عن لحظات الألم والغضب: “حضر والدا هدى ووالدا لبنى، وعبدُ الله مع زوجته لبنى الحامل في شهرها الثَّامن، ومصطفى وهدى الحامل أيضًا في شهرها السَّادس، وصديقهم إبراهيم وزوجته نهاية” (ص 257).
لقد تعرَّفتُ في هذه الرِّواية على سيمفونيَّة نينوى، التي “ترجعُ إلى القرن السَّابع قبل الميلاد، عثر عليها المنقِّبون مدوَّنةً على ألواحٍ طينيَّةٍ بين خرائب نينوى القديمة، فأعادوا عزفها بعد فكِّ شفرة سلَّمها الموسيقيِّ القديم ” (ص 68)، وبدأتُ أبحث عنها وأسمعها مرَّة تلو أخرى، مما أثرى معلوماتي وساهم في زيادة معرفتي بالحضارة الأشوريَّة، والحياة الآشورية والثَّقافة في أرض ما بين الرَّافدين
العزيزة، وهناك من يُناقض هذه المعلومة بقوله من أنَّها سمفونيَّة حديثة لموسيقارٍ ايرانيٍّ حسين علي زادة، واسم المعزوفة “ناي نوا” أي عزف على النَّاي على مقام النَّوا (هو مقامٌ موسيقيٍّ شرقيٍّ يتفرَّع من مقام النَّهاوند)..
شكرًا لحيفا التي احتضنت أحداث الرِّواية..
تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتبة صباح بشير بصدور ثمرة قلمها “فرصة ثانية”.
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ.
ملحوظة: صدر الكتاب بالتَّعاون بين نادي حيفا الثَّقافيِّ ودار الشَّامل للنَّشر والتَّوزيع (نابلس مقابل جامعة النَّجاح الأكاديميَّة)، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وتسعٍ وخمسين صفحة، لوحة الغلاف الرائعة للفنَّان الفلسطينيِّ جمال بدوان، (الدكتور جمال بدوان ابن قرية عزُّون، قضاء محافظة قلقيلية، فلسطين، يعيش في أوكرانيا ويحمل جواز سفر أوكراني)، الاخراج الفنِّي سمير حنُّون (بلدة عنبتا، محافظة طولكرم، من سكَّان رام الله)..