حين تنتظر القدس الحريق// جواد بولص

لا أعتقد أن المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة توقعوا أن تستمر عملية “رد الفعل” الإسرائيلي على أحداث السابع من أكتوبر كل هذه الشهور؛ ولا أعتقد أنهم تخيّلوا أن يكون الرد بهذا الحجم وبهذه الدموية والوحشية التي استهدفت نيرانها، وما زالت تستهدف، جميع البشر وكلّ التراب والحجر. ولا أعرف ماذا كان سيكون موقف قادة حركة “حماس” حيال عملية السابع من أكتوبر لو كانوا يتوقعون وحشية الرد الاسرائيلي وتداعياته المأساوية  على الوضع الفلسطيني؛ لكن العالم يعرف ما هي مخططات حكومة اسرائيل الحالية وما هو موقفها المعلن تجاه الاحتفاظ بجميع الأراضي الفلسطينية، وسعيها من أجل تحقيقه منذ اليوم الأول لاقامتها  قبل عشرين شهرًا؛ ويعرف العالم كذلك، والفلسطينيون طبعا، ما هي حدود القوة الإسرائيلية وأشكال التنكيل والترهيب التي استعملت ضد الفلسطينيين خلال سنوات الصراع الطويلة بين منظمات الحركة الصهيونية والمواطنين الفلسطينيين العزل منهم ومن حملوا السلاح أيضا . واذا عدنا ليوم السابع من أكتوبر سنجد أن ردود الفعل الأولية التي أطلقتها القيادات العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية، وفي طليعتها بنيامين نتنياهو، تحدثت حينها عن ضرورة خوض عملية عسكرية معقدة وطويلة؛ وأوضحوا أنهم لن يتوقفوا إلا بعد القضاء على “حركة المقاومة الإسلامية” وتحييد منطقة غزة وتحويلها من خطر يهدد أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها الى عمق آمن لها وتحت السيطرة. من الواضح أن رؤية حكومة نتنياهو كانت مرسومة قبل السابع من أكتوبر وعكستها دائما مثابرته على ترسيخ فصل القطاع عن الضفة الغربية كجزء من مخطط تقويض فرصة تحقيق حل الدولتين. كان الهدف معدّا والعمل على تحقيقه جاريا، حتى جاءت عملية السابع من اكتوبر فوظّفتها حكومة نتنياهو من أجل الانتقال السريع الى المرحلة التالية التي صار يضبط ايقاعها أقطاب حكومته المتطرفين والمتنفذين في ترسيم احداثيات السياسة الاسرائيلية الجديدة وسرعة تقدّمها نحو اقامة مملكة اسرائيل بين نهر الأردن شرقا وحتى البحر غربا، أو كما يخطط بعضهم وفق حدود أوسع رسمتها توراتهم ودعمتها صلوات انبيائهم.

لقد أثار الصحفي المعروف ناحوم بارنيع حفيظة الوزير سموطريتش بمقالة نشرها بتاريخ 9/9 في جريدة “يديعوت أحرونوت”، وأتى فيها على تفاصيل ما جرى ويجري في دهاليز ما يسمى “الادارة المدنية الاسرائيلية” في الضفة المحتلة، وكيف تسلّط الوزير ورجاله بدعم حكومة نتنياهو، على مفارق الحياة المدنية للسكان الفلسطينيين وأتمّ عملية ضم الأراضي الفلسطينية بصورة فعلية لسلطة القانون الاسرائيلي. يعيدنا بارنيع إلى  “خطة الحسم” التي وضعها  الوزير سموطريتش في العام 2017  وأعلن فيها ضرورة تفكيك السلطة الفلسطينية ومنع اقامة دولة فلسطينية ومواجهة سبعة مليون فلسطيني موجودين بين الأردن والبحر بواحد من ثلاثة خيارات: الموت أثناء مواجهتهم سياسة اسرائيل، أو الهجرة، أو البقاء للأبد كمواطنين من درجة ثانية؛ ويرى أن الوزير سجّل نجاحات استراتيجية كبيرة، وهذا يثير “تخوف الأجهزة الأمنية الاسرائيلية والبيت الأبيض الذي تخشى ادارته من تأثير انتشار الكهانية في الضفة على رفع منسوب الارهاب” وأضاف: “إن ما يحصل في الضفة لا يبقى في الضفة وحسب”. لقد كان رد فعل الوزير على المقالة غاضبا وواضحا فقال : “كم يجب أن تكون معزولا عن الواقع كي تستمر بعد السابع من أكتوبر في دعم اقامة دولة ارهاب في وسط البلاد، وأن تهاجم من يعمل من أجل منع اقامتها؟ إن مهمتي في الحياة هي بناء أرض اسرائيل وتقويض امكانية اقامة دولة فلسطينية . هذا ليس أمرا سياسيا، هذا شأن قومي ووجودي”. من المهم طبعا أن تخرج أصوات معارضة للجرائم التي تمارسها  اسرائيل بحق الفلسطينيين، لكنني على قناعة أن تأثير هؤلاء اليوم داخل اسرائيل بات محدودا، فالكهانية استفحلت واشتد عودها أيضا بسبب مواقف بارنيع وأمثاله حين كانوا يشاهدون ممارسات جيش الاحتلال وجرائم سوائب المستوطنين، وجل ما كانوا يفعلونه هو أن يسكتوا أو أن يكتبوا مقالا ينتقدونهم فيه بدافع وطنيتهم الصهيونية ومن خوفهم عليها، أو من باب الاشارة الى تعارض تلك الجرائم مع بعض القيم الاخلاقية والانسانية واليهودية. لا بد أن نقول أن وقوفهم حيثما وقفوا طيلة سني الاحتلال ساهم في وصولنا الى هذا الجحيم وتخييرنا كفلسطينيين بين الموت خلال المواجهة أو الرحيل عن وطننا أو أن نحيا كعبيد في دولة اليهود، دولة سيواجه فيها ناحوم بارنيع وزملاؤه خياراتنا الثلاثة عندما يتمكن من رقبته حكّامها الجدد.

لقد سمعنا في الأسابيع الأخيرة رئيس جهاز المخابرات العامة يحذر بدوره قيادته السياسية من تعاظم ظاهرة الارهاب اليهودي في الضفة المحتلة؛ وسمعناه، إلى جانب مسؤولين كبار في أجهزة الأمن الاسرائيلية يحذرون من التحرشات اليهودية في “الوضع القائم” في المسجد الأقصى، لا سيما بعد اعلان عدد من وزراء حكومة نتنياهو عن عزمهم على تغيير القواعد السائدة والسماح لليهود في الصلاة في منطقة الحرم وزيارته بدون شروط وحتى أن بعضهم بدأ يفكر ببناء هيكلهم هناك.

لن تنجح تحذيرات قادة الأجهزة الأمنية في عرقلة مخططات هذه الحكومة في الضفة وفي القدس وضد مواطنيها الفلسطينيين في الداخل. وعلى الأرجح أن تتفاقم الأوضاع على جميع الجبهات، وأقربها للانفجار سيكون في الضفة الغربية. ولذلك يقوم جيش الاحتلال وكتائب المستوطنين بزيادة وتيرة عملياتهم العسكرية التي تستهدف ضرب امكانية تشكل حالة نضالية متماسكة في الضفة وخلق ميزان رعب تفترض اسرائيل انه سيردع الفلسطينيين الى أجل بعيد أو يدفعهم الى الهجرة.

وسوف تلحقها القدس، مدينة الحروب الأبدية؛ وطن الملائكة والشياطين. جميعهم يتقاتلون على بخورها وهي مختبئة في قلوب ياسمينها وفوق أجفان قبابها؛ وتنتظر مجيء “الحريق” . يقول الخبر أن رئيس جهاز الشاباك حذر حكومته من أن المساس بالأقصى سيشعل انتفاضة شعبية وسيؤدي الى احتجاجات كبيرة والى توحيد الجبهات الداخلية في فلسطين وربما في مواقع اخرى عربية واسلامية على حد سواء . سمعت القدس الخبر فأجهشت بالضحك؛ وتذكرت حين أضرم دينيس مايكل روهان، مواطن استرالي مأفون، يوم 1969/8/21 النار في الأقصى. دمّر الحريق الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من المسجد وسبب لهما اضرارا  جسيمة، واتى على المنبر المعروف بمنبر صلاح الدين. حمّل الفلسطينيون اسرائيل مسؤولية الجريمة وكذلك فعلت معظم الدول العربية والاسلامية. خرجت مظاهرات الاحتجاج في فلسطين وفي عدة دول عربية واسلامية التي شجب زعماؤها اسرائيل وباشروا باقامة الاتصالات “المكثفة والحثيثة” وتباحثوا بينهم حول سبل التحرك السريع ضدها. لا تتسع هذه العجالة لسرد تفاصيل ذاك الفصل الهزيل من تاريخ الامة؛ فالامور، كما نعرف، تقاس بخواتيمها. خافت الحكومات الغربية من ردات الفعل المتوقعة لكنها تفاجأت بأن الحراكات الشعبية خمدت أو تم “استيعابها” من قبل الانظمة بعد أيام قليلة، ولم تفضِ مباحثات الزعماء الى عقد قمة عربية متفق عليها فولدت فكرة انشاء “منظمة المؤتمر الاسلامي” التي أصبحت أكبر منصة رسمية “للتعاون” بين الدول الاسلامية. ونجحوا بما يشبه لم الشمل واستصدروا  قرارا “مؤدبا ومتواضعا”بحق إسرائيل في مجلس الأمن .

ينسب الى جولدا مئير، أنها قالت بعد اقفال ملف حرق الاقصى: “لم أنم ليلتها وأنا أتخيل العرب سيدخلون اسرائيل أفواجا من كل صوب، لكن عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة”.  سواء قالت غولدا مئير هذه الجمله أم لا ، يبقى مضمونها صحيحا في حالة الأمة، ووقعها يسري في شراييننا منذ قرن من الزمن، حيث تشتعل الحرائق وتخمد ويبقى حطبها أهل القدس والفلسطينيين.

 لن تردع تحذيرات رئيس المخابرات حكومة نتنياهو، خاصة بعد أن هاجمه بعض وزرائها ووصفوه بعدوهم وبكونه عقبة أمام تحقيق اهدافهم السياسية؛ فيبدو أن الانفجارات قادمة وستشجب الدول العربية اسرائيل وسيجتمع القادة العرب والمسلمون للتشاور وعلى الأغلب لن يتفقوا إلا على ضرورة انشاء جسم جديد قد يكون اسمه هذه المرة “اتحاد ابناء ابراهيم”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .