ناقشنا في المساق السابق ما نقله (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، ـ638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار» من حكاية مديح (علي بن الجهم، ـ249هـ= 863م) لـ(المتوكِّل العبَّاسي، ـ247هـ= 861م)، بقوله:
أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ ::: دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاعِ الخُطُوبِ
أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا ::: مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذَّنُـوبِ!
وإضافةً إلى ما يظهر من اختلاق تلك الحكاية، فقد أشرنا إلى أنَّ لُغة الشِّعر أوسع من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمعٍ بعينة. ومَن قاسَ بهذا المقياس، فإنَّه لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات. نعم، ليس بالضرورة أن يقفز الشاعر من التحليق في السماوات والتجريد إلى القول، مثلًا: «هاتِ الرَّبابةَ.. هاتِ الرَّبابة»، من نحو قول (الثبيتي):
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وَطَنًا فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قُلَلِ القَومِ قَهْوَتَكَ المُرَّةَ المُسْتَطَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوْجَةً بِاللَّظَى
وقَلِّبْ مَواجِعنَا فَوقَ جَمْرِ الغَضَا…
ثُمَّ هاتِ الرَّبابةَ
هاتِ الرَّبابةْ!
ومثل هذا، في غير الشِّعر، قد يثير السخرية! «مُهجة الصبح.. الوطن المصبوب في الكؤوس.. الذي يدير الرؤوس.. الشاذلية.. السحابة.. اللَّظَى… إلخ»؛ حتى ليُخيَّل إلى السامع أنَّ الشاعر سيخرج من إهاب الكون، ثمَّ في الآخِر: «هاتِ الرَّبابةَ.. هاتِ الرَّبابة»؟! ما يبدو انتكاسةً في الخيال إلى مضارب البادية والبدائيَّة، «وكأنك، يا أبا زيد، ما غزيت»! غير أنَّ طبيعة اللُّغة الشِّعريَّة تستوعب هذا القفز بين اللُّغات المختلفة، أو حتى المتضادَّة، وبين الأجواء المتباينة، للتعبير عن معنًى من المعاني، وإنْ كان للناقد أن يتوقَّف في النهاية للتساؤل عن مدى التوفيق أو الإخفاق في التعبير عن ذلك المعنى؟ وهذا ميدان النقد تحديدًا، لا أن يُفاضِل بين الشعراء على أساس أنَّ هذا لغته حَضَريَّة وذاك لغته بَدْويَّة، أو ذاك يستعمل لُغة جاهليَّة وهذا يستعمل لغة معاصرة. الشاعر الحقُّ يبحث عن معجمه التعبيري خلال لُغات العالم، والتاريخ، ولا يحصر نفسه في عصرٍ أو مكان، إلَّا إذا كان شاعرًا عاجزًا أصلًا، أو كان محض إعلاميٍّ دَعِيٍّ في عالم الشِّعر؛ لا يفقه- وإنْ نظريًّا- طبيعة الشِّعر ووظيفته. والفنُّ بعامَّة هو خَلْق واقعٍ مُوَازٍ، لولاه ما كان الفنُّ فنًّا، وليس الفنُّ بتوثيقٍ تاريخي، أو تذكيرٍ معرفي، أو تقريرٍ للحقائق والوقائع، ليصحَّ حينئذٍ أن يُنعَت الفنُّ بالصدق الواقعي أو الكذب؛ لأننا لم نسمع منه «نشرة أخبارنا» كما أَلِفْناها، أو كما نحبُّ أن نسمعها! غير أنَّ الفنَّ، في المقابل، ليس بمحض تسلية، وإلهاء، ودغدغة عواطف، باستثناء الفنِّ في (كوكب العُربان)، حيث لا وظيفة للفنَّان هنا أكثر من الإسهام في تضييع الأوقات والعقول، وتتفيه القِيَم والأذواق.
قلت لـ(ذي القُروح):
– لا تخرج بنا عن الموضوع، كعادتك! فما زال في النفس شيء من (حتَّى)! أعني من تكذيبك حكاية (ابن الجهم)، في وصفه (المتوكِّل) بالكلب! وبخاصَّة أنَّ لابن الجهم علاقة بالكلاب وإعجابًا بها!
– كيف؟
– أورد (الزمخشري)(1) عن (محمَّد بن الجهم)، أخي (عليِّ بن الجهم)، قال: «دعاني المأمون يومًا، فقال: قد نبغَ لك أخٌ بقول الشِّعر، فأنشدْني له! فلم أذكر إلَّا قوله في الكلب:
أُوصـيـكَ خـيرًا بـهِ فـإنَّ لــه ::: سـجـيَّــةً لا أزالُ أحـمدُهـا
يَدُلُّ ضيفي عليَّ في غَسَـقِ الــ ::: ـلَّيلِ إذا الـنَّـارُ نـامَ مُوقـدُهـا
فقال: أحسنَ الموصي بالكلب، وأمرَ لي بمال.»
– كان بإمكانك القول: كأنَّ هذا الخبر التبسَ على الرواة، أو وضعوا على غراره حكاية (ابن الجهم) مع (المتوكِّل)! ولكن:
أوَّلًا، أمامنا ديوان (ابن الجهم)، وهو مذهبٌ واحدٌ من الشِّعر الحَضَريِّ الرقيق.
ثانيًا، لم يكن الرجل بدويًّا أصلًا، بل هو قُرَشيٌّ، حضريٌّ أبًا عن جَد! ويُنسَب إلى (خراسان)، ويُذكَر أنَّ مولده في (بغداد). فكيف يستقيم الزعم أنه أعرابي، قَدِم بغداد، وإنَّما هَذَّب أسلوبه فيها؟! هذا علاوة على أنَّه نشأ في أُسرة علمٍ وأدبٍ وثراء، وكان أخوه (محمَّد) معدودًا من أهل الكلام، يجمع بين الثقافة العَرَبيَّة واليونانيَّة. أمَّا شاعرنا، فقد ظلَّ اهتمامه بالشِّعر والعَرَبيَّة. وقد مال (عليُّ بن الجهم) عن الاعتزال، الذي ساد في عصره، إلى مذهب أهل الحديث؛ فربطته علاقةٌ فكريَّة بـ(أحمد بن حنبل)، كما ربطته علاقة شِعريَّة بـ(أبي تمَّام)، وَفق ما نقرأ في تراجمه.(2)
– كيف حدث ذلك التلفيق، إذن؟
– إنما هذا نموذجٌ ممَّا يَعُجُّ به تراثنا من الأباطيل، التي تستدعي التمحيص. وكنتُ أشكُّ في هذه الأقصوصة الواضحة التلفيق، رغم تواترها، حتى وجدتُ أنْ قد نَبَّهَ إلى ما فيها من زيف بعض الدارسين، ومن هؤلاء محقِّق «ديوان علي بن الجهم».(3) على أنِّي أضيفُ هنا: أنَّ حكاية (ابن الجهم) تبدو مظهرًا من مظاهر الصراع بين ثقافة المدينة والبادية إبَّان العصر العبَّاسي. ومعلوم أنَّ (أبا نواس الحَكَمي، ـ198هـ= 813م) كان بطل ذلك الصراع شِعريًّا، ما أدَّى إلى سحب الجنسية العربيَّة عنه، ونِسبته إلى الفُرس. بل قل: إنَّه الصراع بين القوميَّة الفارسيَّة والقوميَّة العَرَبيَّة، الذي تغلغل إلى بلاط الحُكم العبَّاسي نفسه، حتى لقد أفضى إلى أن قتل (المأمونُ، ـ218هـ= 833م)، (ابن مراجل الفارسيَّة)، أخاه (الأمينَ، ـ198هـ= 813م)، (ابن زُبيدة العَرَبيَّة). ومن المفارقات في هذه المعمعة أنَّ إحدى التُّهَم التي وُجِّهت إلى الأمين أنَّه كان على صداقة مع أبي نواس، الشاعر الماجن؛ وبناءً عليه اغتيل (الأمين وصديقه الشاعر الماجن) في السنة نفسها!(4)
– والشاهد؟
– الشاهد: «هاتِ الرَّبابة.. هاتِ الرَّبابة»، أو «دَعِ الرَّبابة.. دَعِ الرَّبابة»! مع البادية أو ضِدَّها، عنصريًّا! فتلك حكايةٌ وُلِدت من رَحِم الصراع العنصري والسياسي العبَّاسي. وربما صحَّ القول، أيضًا: إنَّ أبيات (ابن الجهم) لُفِّقت للنَّيل من (المتوكِّل)، وإنْ بصورةٍ مبطَّنة؛ فلقد كان ابن الجهم على وفاقٍ معه، بخلاف علاقته بسابقيه من الأمراء، الذين تبنَّوا الاعتزال. وقد أنشد ابنُ الجهم المتوكِّلَ– لمَّا اعتلى عرش الإمارة العبَّاسية- قصيدةً غمزَ فيها المعتزلة. ومن ثَمَّ حظيَ لدَى المتوكِّل، حتى بات نديمه، وكاتم أسراره. فمن المتصوَّر أن يحمل ذلك الخصومَ من المعتزلة على تصوير علاقة ابن الجهم بالمتوكِّل وإعجابه به بعلاقةٍ بكلب وإعجابٍ بتيس!
– وهذا يذكِّرك بأبيات (دعبل بن علي الخزاعي، ـ246هـ= 860م)(5) عن (المعتصم، ـ227هـ= 842م):
مُلـوكُ بَني العَبَّـاسِ في الكُـتْبِ سَـبْعَـةٌ ::: ولَـمْ تَـأتِـنـا عَـن ثـامِـنٍ لَـهُـمُ كُـتْبُ
كَـذَلِكَ أَهـلُ الكَهفِ في الكَهفِ سَبعَةٌ ::: خِـيــارٌ إِذا عُـدُّوا وثـامِـنُـهُـمْ كَـلْـبُ
وإِنِّــي لَأُعْلِـي كَـلبَـهُـمْ عَنـكَ رِفْـعَـةً ::: لِأَنَّــكَ ذو ذَنْــبٍ ولَـيْــسَ لَـهُ ذَنْــبُ
كَـأَنَّـــكَ إِذْ مُلِّــكْـتَـنـــا لِشَــقـائِـنـا ::: عَـجُـوزٌ عَلَـيها التَّاجُ والعِقْـدُ والإِتْـبُ
– والشاهد، بالإضافة إلى ما سبق، أنَّنا نقف اليوم أمام تاريخٍ متطاولٍ من الروايات المُريبة، المسيَّسة أحيانًا، المصادمة للعقل والواقع كثيرًا- لدَى من تبصَّر بملابساتها- لن ينهض بمراجعتها سِوَى تظافر الجهود المؤسسيَّة الشاملة. وهو مشروع لمَّا تنهض به مؤسَّساتنا العِلميَّة والثقافيَّة بَعد- إنْ كانت سوف تفعل أبدًا- بل إنْ لم تكن تنهض بنقيضه، من إعادة تدوير ذلك التُّراث، بعُجَره وبُجَره، مستميتةً في الدفاع عنه، ومحاربة مراجعيه وناقديه.
– ولذلك فأنت لن ترى مَدخلًا للطَّاعنين في التاريخ والتُّراث والدِّين أكثر خِصبًا وخدمةً لأغراضهم من الروايات التُّراثيَّة نفسها!
– نعم! وهي رواياتٌ كانت- في أكثرها- أحاديث أسمار، وأطراف أخبار، قد لا يُعرَف أصلها ولا فصلها، ولا يَتحرَّى ناقلوها صحَّتها غالبًا، أو حتى اتساقها واقعًا وعقلًا.
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1992)، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، عناية: عبدالأمير مهنا، (بيروت: مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات)، 5: 383. والبيتان في ديوان: ابن الجهم، علي، (1980)، تحقيق: خليل مردم، (بيروت: دار الآفاق الجديدة)، 130.
(2) يُنظَر: الباشا، عبدالرحمن رأفت، (1967)، علي بن الجهم: حياته وشِعره، (القاهرة: دار المعارف)؛ ابن الجهم، ديوانه، مقدِّمة الديوان.
(3) يُنظَر: ابن الجهم، ديوانه، 143. وكذلك ما كتبه (عبدالله خلف)، تحت عنوان «علي بن الجهم.. حضري تفوق في الفلسفة وعِلم الكلام»، صحيفة (الوطن الكويتيَّة)، 15/ 11/ 2012، على الرابط: https://bit.ly/3pejcvl
(4) يُنظَر بحثنا تحت عنوان: «أبو نُواس الحَسن بن هانئ (قراءةٌ جديدةٌ في: الشَّخصيَّة، والثَّورة، والتلقِّي)»، (مجلَّة «حُقول»، (النادي الأدبي بالرِّياض)، العدد 11، ذو القِعدة 1434هـ= سبتمبر 2013م ، ص1- 48).
(5) (1983)، شِعر دعبل بن علي الخزاعي، صنعة: عبدالكريم الأشتر، (دمشق: مَجْمَع اللُّغة العَرَبيَّة)، 49- 50/ 5-8.