العودُ محميٌّ بحزمته د. حاتم عيد خوري

قيل “إن لم يكن ما تريد، فارد ما يكون”. أردتُ كغيري من أترابي التلاميذ في الصف الخامس الابتدائي، وربما في الصفوف الاخرى ايضا، في مدرسة فسوطة الإبتدائية الاسقفية، ان يكون لديَّ في بداية السنة الدراسية الجديدة (49 / 1950) كتبٌ ودفاتر جديدة. إلا ان شحّ، والاصح إنعدام، هذه المتطلبات في السوق بعد الاحتلال الاسرائيلي سنة 1948، والتقييدات التي فرضها الحكمُ العسكري على التنقل، وكذلك أنظمة التقنين التي شملت جميعَ المواد المستهلكة، فضلا عن الحدود التي باتت مقفلةً مع لبنان، قد حالت جميعُها دون وصول ما كانت احلامنا المتواضعة تتطلع اليه.

فكان لا بدّ من استحداث بدائل متيسرة كاعتماد الكتب الدراسية المستعملة التي كانت قد أدّت دورها كاملا في خدمة من سبقنا من التلاميذ، والسعي إلى تكرار استعمال دفاتر النسخ القديمة التي كانت قد عاشت معنا، في السنة الماضية، غزواتِ اقلام الرصاص، فاستسلمت صاغرةً لممحاةٍ تفرك وجهَ صفحاتها، عساها تستعيد نضارتَها. لكن كيف تُستَعاد النضارة وقد تركت عمليةُ المحي أثرَها فغدت اوراقُ تلك الدفاتر منكمشةً ومجعدةً ومنظرُها متهالكا تماما كمنظر الكتب المستعملة، ممّا يقتضي تجليدها هي ايضا.

لكن التجليد بات أمرا متعذرا في تلك الايام، لانعدام الورق السَّميك فكان لا بدّ من اجتراح حلٍّ لهذه المعضلة. ولان الحاجة امُّ الاختراع، فكان الحلّ هو اللجوء الى استعمال اوراق اكياس الإسمنت إنْ توفّرت… وكيف يمكن أن يكون الإسمنت متوفرًا في أعقاب حربٍ واحتلالٍ قد جعلا أهالي فسوطه يشعرون انهم هم أيضًا على كفّ عفريت وانهم قد يلاقون ذات المصير من اقتلاعٍ وتهجير، الذي لاقاه سكان القرى الاخرى المجاورة كديرالقاسي والمنصورة وسحماتا وسعسع والصفصاف وإقرث وكفر برعم وغيرها من قرى الجليل الغربي ومدنه ؟ فتوقف الناس عن البناء مُكتفين بهذه المرحلة وريثما تنجلي الأمور، بما لديهم من حيّز متاح للسكنى حتى ولو كان ضيّقا تعزّيهم المقولة ” بيت الضيق بوسع الف صديق”.

لكنّ هذه القاعدة ما كانت لتنطبق على جارنا أيّوب السّالم ذلك لان سقف بيته الترابي لم يصمد امام كتل الثلج التي تراكمت عليه، سنة 1950 المعروفة باسم سنة الثلجة. إنهارَ السقفُ الذي فوق السدّة. علت أصواتُ الإستغاثة فهبّ الجيران لإنقاذ العائلة. لكن سرعان ما تبيّن لهم، رغم الظلمة الحالكة، أنّ ايوب وزوجته واولادهما الصغار الخمسة لم يُصابوا بأذى ربّما لأنّهم كانوا نائمين في زاوية أخرى من البيت، حول الموقدة التي تحت الداخون.  فرح الناس رغم الأضرار المادّية، وسارعوا إلى احتضان أفراد الأسرة واستضافتهم وتهدئة خواطرهم بالتعابير المألوفة “الحمد لله على السلامة” و “الحامي الله” و”بالمال ولا بالعيال” وغيرها من عبارات التشجيع والمواساة… كما تجنّدوا صباح اليوم التالي لترميم السقف المنهار بإشراف معلم العمار. باشروا العمل لكنَّهم سرعان ما توقفوا عندما تبيّن لهم أن خشب السقف قد نخره السوس فبات واهنًا ضعيفًا أمام ثقل التراب ناهيك عن الثلج المتراكم فوقه، ممّا يستوجب استبدال السّقف الخشبي الترابي بسقف من الباطون..

هذا الأمر ما كان ليتحقق على الفور بسبب تساقط الأمطار وعدم توفّر المواد المطلوبة من رمل واسمنت وحديد وحصى، فكان لا بدّ من الانتظار بضعة أشهر.. هذه الأشهر كانت ثقيلةً جدًّا على أيوب الذي بات واسرته دون سقفٍ كان يأويهم. أوليست قضية العمر بالنسبة لأي انسان ان يكون له على الاقل سقفٌ  يأوي تحته مع اسرته؟  أوليس “بيتو للواحد قميصو” و “هلي بطلع من ثيابو بيعرى” كما قالت امثالنا الشعبية؟. لكنّ أيوب، إزاء ما قوبل به هو واسرته، من احتضان الأقارب والجيران والأصدقاء واهل بلدنا عموما، لم يشعر “بالعُريّ”، ولم يعان من عوز، وبالتالي لم يقل ما قاله لي ذلك المغترب، حيفاوي الأصل، عندما التقيتُه في كندا وسألتُه عن أسباب هجرته، فأجاب قائلا: “اضطررنا، انا وزوجتي وطفلانا الصغيران، ان نهاجر الى كندا سنة 1973، وذلك بعد ان وضع البنك يده على الشقة التي كنتُ املكها في حيفا، بسبب تأخّري عن تسديد دفعات قرض الإسكان المستحقة، في اعقاب فصلي التعسفي من الشّركة الإسرائيلية التي كنتُ أعمل فيها. لقد ضاقت الدنيا في وجهي”. بدا محدثي منفعلا جدا… توقف عن الحديث برهة ثم تابع كلامه بعد تنهيدة عميقة، قائلا: “إنّ وطنًا لا يوفر لي سقفًا أستظلّ به، أنا في غنى عن سمائه”…

مرّت شهور الانتظار بثقلها، وزال احتمال سقوط الأمطار، وتمَّ بشقّ النفس توفير الموادّ المطلوبة، فقال أيّوب لزوجته ولمن حوله من الجيران والاقارب، انه قد عيّن موعدًا نهائيًا لصبّة الباطون وابلغ الناطور بذلك كي يتولى تعميم الخبر على أهل البلد.. كان أيوب يدرك جيدًا أنّ أهل البلد مجنَّدون للمساعدة كعادتهم، وبالتالي فهم ليسوا بحاجة الى دعوة شخصية، إنما الى إعلام فقط.. وهكذا ما ان أعلن الناطور وهو يقف على سطح الكنيسة في مركز البلد، بصوته الجهوري الذي ينفذ الى معظم البيوت: “يا اهل البلد، يا سامعين الصوت، الحاضر يعلم الغايب، يوم السبت صباحا صبّة باطون سقف بيت أيوب السالم”، حتى انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم او كما يقول أبناء بلدنا: “انتشار النار في بيدر أبو عزيز”.. فما ان انبلج الصباح حتى أخذ الشباب يتوافدون الى الموقع مشمِّرين عن سواعدهم وحاملين معهم أدوات العمل المناسبة كالرفش والطوريّة والمجرفة وغيرها.. تجمّع عشراتٌ منهم وكأنهم بهذا كانوا يترجمون بصورة عمليّة ملموسة ما قاله زجال لبنانيّ بهذا الصدد:

“لمّا جاري صبّ السطح    ما دفع اجرة عُمّال

ما قبل ما يشقّ الصّبح       كان حدّو ميّة رجّال”

لم يكن الحضور وقفا على الرجال، إنما ضمّ أيضا مجموعة من الشابات، فضلا عن رهط من الأولاد الصّغار الذين استنفرهم خبرُ صبّة الباطون فهبّوا راكضين باكرا نحو بيت أيّوب السّالم، عساهم يفوزون بكيس إسمنت فارغ او ببعضٍ من أوراقه لتجليد كتبهم ودفاترهم. كنتُ واحدا من أولئك الصّغار الذين ضربوا طوقا حول الرّجال والنساء المتحلّقين بدورهم حول أكوم ألحصى والرمل واكياس الإسمنت وبراميل الماء..

كان الجميع في حالة تأهّب، فما أن هتف شيخ الشّباب أبو برهوم “ولّع الباطون ولّع” إيذانا ببداية العمل، وأعقبته القابلة ام رشيد بزغرودة (بزلغوطة) من أعماق حنجرتها، حتى تحركت سواعدُ الرجال وابتدأ العمل.. بعضُهم يخلط الرملَ والحصي، وبعضهم يشقّ أكياس الإسمنت ويفرغها فوق الخلطة، وفريق اخر يصبّ الماء فوقها، وكلهم سويّة يحرّكون الجبلة بالرفوش والطوريات ويتابعون العمل مناوبةً، مردّدين الواحد للآخَر “يعطيك العافية، عنّك يا شب (أي دعني اعمل مكانك)” او غالبا “عنّك يا أبو فلان”. هذا المشهد استحوذ عليَّ فتسمّرتُ في موضعي، اتابع بنظري ما يدور أمامي. بدوتُ كمَن نسي الغرض الذي اتى من اجله.. لم يُغرني منظرُ رفاقي الأولاد وهم يغادرون المكان وكلٌّ منهم يتأبّط كيس إسمنت فارغا او بعضّا من أوراقه، وكأنه قد فاز براس كليب..

بدوتُ كمن يشاهد ويتابع مراحل خطّ إنتاج في مصنع عصريّ: خلْطٌ فجبْلٌ فصبٌّ في نُصّيّات (أي انصاف تنكات معدنية) يتمُّ نقلها الى السطح، على رؤوس السيدات اللواتي كنّ قد اتين للمساعدة. أذهلتني رؤية خالتي وعمتي وجاراتنا ام عاطف وام حنّا وام الياس وغيرهن الكثيرات من النساء اللواتي كنّ آنذاك صبايا في عمر الشباب، يقمن مبتسمات بهذا العمل الشّاق. كانت الواحدة منهنّ تحمل نصّيّةَ الباطون على رأسها وتتسلق وهي منتصبةَ القامة، أحدَ السلالم الخشبية العالية المؤدّية الى سطح بيت أيوب السالم حيث يتم تفريغ النصّيّة… تتكرر العملية هبوطًا وصعودًا المرة تلو الأخرى دونما توقف، لئلا يجمد الباطون قبل وصوله الى السطح.. إنه

عملٌ جماعيٌّ بامتياز يرفده جهدٌ فرديٌّ دؤوب، ذكّرني في حينه ببيت النمل في بيدرنا وبقفير النحل في حاكورتنا.. وما زال هذا المشهد يرفدني بطاقاتٍ تأبى ان تشحّ، وترفض ان تستسلم لشيخوخةٍ يفرضها العمر، كما باتَ هاجسا يرافقني منذُ ما يربو عن سبعة عقود وبوصلةً حدّدت، وما زالت تُحدّد، توجهي الاجتماعي، القائم على قناعة مطلقة بأهمية التعاون والتعاضد والعمل كفريق، التي عبّرَ عنها الشّاعر هشام الجخ حين قال:

“العود محميٌّ بحزمته/ ضعيفٌ حين ينفرد”..

30/6/2024

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .