صبي مُترف
ولد جندح الكندي الذي اشتهر بلقب “امرؤ القيس” في وقت ما من مطلع القرن الخامس الميلادي، في نجد بقرية مرات عاصمة مملكة أبيه بجبل عاقل (ديار بني سعد)، ونشأ مترفاً لأبيه حجر بن الحارث، الذي كان ملكاً على بني أسد وغطفان، بينما حكم أعمامه الثلاثة كلاً من بني بكر وقيس وتغلب وسعد، وكان والده وأعمامه في النهاية يدينون بالولاء والطاعة لملوك حمير اليمنيين.
وربما يجهل كثيرون أنّ “امرؤ القيس” ما هو إلا واحد من الألقاب التي حملها ذلك الشاعر الكندي، فـ “القيس” هو واحد من أصنام الجاهلية التي كان العرب يعبدونها وينسبون أنفسهم إليها.
كما ذُكر امرؤ القيس في كتب التاريخ بألقاب عدة، منها: المَلكُ الضِلّيل وذو القروح، وأبو وهب، وأبو زيد، وأبو الحارث.
أخواله كليب والمُهلهل
أمّا أم “امرؤ القيس”، فهي فاطمة بنت ربيعة التغلبية أخت كليب ملك التغلبيين والشاعر المهلهل، الذي علّم “امرؤ القيس” الشعر منذ نعومة أظفاره، ولولاه ربما ما كان ليصبح واحداً من أهم شعراء العصر الجاهلي على الإطلاق.
وليست صلة القرابة وحدها هي القاسم المشترك بين “امرؤ القيس” والزير سالم أبو ليلى المهلهل، فقد تشارك الرجلان في قضاء معظم أوقاتهما شغفاً بحياة اللهو وحب الشعر وعشق النساء.
ذُكِر امرؤ القيس في كتب التاريخ بألقاب عدة، منها: المَلكُ الضِلّيل وذو القروح، وأبو وهب، وأبو زيد، وأبو الحارث
وكونه ابن ملك من علية القوم، نشأ امرؤ القيس مترفاً مرفهاً، وبحكم العلاقة القوية التي جمعته بخاله “الزير” فقد كان يتهتك في غزله ويفحش في سرد قصصه الغرامية، وهو يعتبر من أوائل الشعراء الذين ادخلوا الشعر إلى مخادع النساء.
ورغم أنّ والده هدّده مرات عدة ونهاه عن حياة اللهو التي كان يعيشها، إلّا أنّ “امرؤ القيس” لم يكف أبداً عن نظم الشعر الماجن، ومغازلة النساء وشرب الخمر ومصادقة الصعاليك من العرب.
ورغم تعدد مغامراته العاطفية وعشقه وتغزله بالكثير من النساء، فإنّ حبه الحقيقي كان لابنة عمه فاطمة، وهي التي قال فيها معلقته الشهيرة التي تبدأ بـ:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ | بِسِقطِ اللِّوى بَينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ |
ويكمل:
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل | وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي |
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ | فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ |
أغرّكِ مني أن حبك قاتلي | وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ |
وأنك قسمت الفؤاد فنصفه | قتيلٌ ونصفٌ بالحديد مكبلِ |
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي | بسهميك في أعشار قلب مقتلِ |
ورغم حبه الشديد لفاطمة؛ فإنه لم يستطع سبيلاً إلى وصلها، ربما بسبب شهرته باللهو والمجون بين العرب.
ويُجمع الكثيرون على أنّ الملك كان غاضباً من ولده “امرؤ القيس” بسبب أشعاره ونمط حياته الماجنة، وطرده إلى موطن أعمامه في حضرموت، آملاً أن ينصلح حاله، لكنّ ذلك لم يغيّر من أمره شيئاً، فقد بقي لاهثاً وراء حياة التسكع واللهو والصيد وغزو القبائل الصغيرة لسلب متاعها.
الملك الضليل
وتشير المراجع إلى أنّ الملك حجر كان قد فرض على بني أسد أتاوة سنوية يجمعها جابياً منهم فتكون هذه الأتاوة بمثابة مبايعة للملك وإعلان من بني أسد بأنّهم تابعون له، مطيعون لأمره، مناصرون لحكمه.
لكنّ هذا الحال لم يدم طويلاً، حيث أمسك بنو أسد بجابي الملك حجر وضربوه ضرباً شديداً متمنعين عن دفع الأتاوة، وما إن علم الملك بما حدث لجابيه حتى جمع جيشاً من ربيعة وكنانة وقيس، هاجم به بني أسد واستولى على ثرواتهم وجعل يضربهم بالعصا فأطلق عليهم عبيد العصا.
يُجمِع المؤرخون على أنّ امرأ القيس توفي بينما كان مارّاً في موضع من بلاد الروم “أنقرة” حيث احتضر هناك
ولكنّهم وعلى غفلة منه غدروا به في أحد الأيام وقتلوه، وكان للملك حجر عدة أولاد أصغرهم امرؤ القيس، الذي كان شاباً في الـ 25 من عمره في ذلك الحين، وفق ما أوردت صحيفة “الاتحاد”.
ويروي بعض المؤرخين أنّ الملك قد أمر وزيره بأن يطوف على أولاده بعد موته، وأن يوصي بالخلافة لذلك الذي لا يبكي عند سماع خبر الوفاة، وفعلاً طاف الوزير على جميع أولاد حجر بن الحارث، ولم يكن أحدهم رابط الجأش سوى امرؤ القيس، الذي كان جالساً يشرب الخمر، ولما سمع النبأ قال: “رحم الله أبي، ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً. لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غداً، اليوم خمر وغداً أمر”.
ثم شرب حتى ثمل، ولما أفاق من سكرته أقسم ألّا يدهن بطيب ولا يشرب الخمر ولا يقرب النساء حتى يدرك ثأر أبيه على عادة العرب، ثم بدأ امرؤ القيس بجمع حلفائه وأنصاره من بني بكر وتغلب لمهاجمة بني أسد، الذين فاوضوه وعرضوا عليه أن يقتص من 100 منهم أو يقبل فدية عوضاً عن دم والده، أو يمهلهم على الأقل قبل خوض الحرب، إلا أنه أبى وبدأ بملاحقتهم.
واستطاع امرؤ القيس ومن معه الإيقاع ببني أسد فقاتلوهم وأسقطوا منهم الكثير من القتلى والجرحى، وفر من بقي منهم هاربين، لكن امرؤ القيس أراد ملاحقة من بقي منهم وإفناءهم عن بكرة أبيهم.
رغم أنّ والده هدّده مرات عدة ونهاه عن حياة اللهو التي كان يعيشها، إلّا أنّ امرأ القيس لم يكف أبداً عن نظم الشعر الماجن، ومغازلة النساء وشرب الخمر ومصادقة الصعاليك من العرب
لكن بني تغلب وبني بكر رفضوا مرافقته، وقالوا له ها قد بلغت ثأرك، إلا أنه قرر جمع حلفاء آخرين والاستمرار بمعركته، فلجأ إلى قبائل عديدة يطلب مناصرتهم حتى أمده أخيراً أحد قادة “حمير” بـ 500 رجل، كما استأجر رجالاً آخرين من قبائل صغيرة متفرقة فسار بهم إلى بني أسد وظفر بهم محققاً ثأره.
لكن العداوات التي خلقها امرؤ القيس بجمع الحلفاء من قبائل، وقتال قبائل أخرى ساندت أعداءه بني أسد، وأثارت على ما يبدو حنق المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، فأمر برأس “امرؤ القيس”، فتفرق بنو حمير وباقي الرجال من حوله وهم يعلمون أنه لا طاقة لهم بجيوش ملك الحيرة المدعوم من قبل كسرى ملك الفرس.
فاضطر امرؤ القيس إلى الهرب والطواف على القبائل التي رفضت نجدته ومساندته في حربه مع المنذر حتى أطلق عليه لقب “الملك الضليل”.
امرؤ القيس وابنة ملك الروم
انتهى الأمر بـ”امرؤ القيس” مستغيثاً بأحد وجهاء تيماء، اليهودي السموأل بن عادياء الذي أكرمه وأحسن منزله، وتوسط له لدى قيصر الروم بالقسطنطينية لينجده ويمده بدعم حلفائه البيزنطيين من قبائل العرب.
وهكذا توجّه امرؤ القيس إلى القسطنطينية بغرض لقاء القيصر جستينيان الأول، مع عمرو بن قميئة، أحد خدم أبيه، وعندما وصل إلى القسطنطينية بعد رحلة طويلة وشاقة أكرمه القيصر ورفع منزلته ووافق على مدّه بجيش كبير لمواجهة المنذر.
الجدري أم حلة مسمومة؟
وقد روي أنّ “امرؤ القيس” عشق ابنة ملك الروم وقال فيها شعراً على عادته، لكنّ العديد من المؤرخين يصنفون هذه القصة كواحدة من القصص الكثيرة المختلقة التي أحاطت بـ “الملك الضليل”.
ويُروى أيضاً أنّ رجلاً من بني أسد يدعى “الطماح” كان امرؤ القيس قد قتل أخاً له، كاد له عند ملك الروم وقال له: “إن امرؤ القيس قال إنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وقال فيها أشعاراً أشهرها في العرب”، فغضب ملك الروم مما سمع، وقرر أن يبعث من يقتل امرؤ القيس.
قيل إنّ ملك الروم قد بعث لامرئ القيس بحلة مسمومة منسوجة بالذهب، وكتب له: “إني أرسلت إليك حلتي التي كنت ألبسها إكراماً لك، فالبسها واكتب إليّ بخبرك”
ولا نستطيع الجزم بالطريقة التي مات بها امرؤ القيس، إذ تضاربت الروايات حول ذلك، فقيل إن ملك الروم قد بعث له بحلة مسمومة منسوجة بالذهب، وكتب له: “إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها إكراماً لك، فالبسها واكتب إليّ بخبرك”، وما أن ارتداها امرؤ القيس حتى سرى السم في جسده وبدأ يتقرّح شيئاً فشيئاً، ولُقب بعد هذا بـ “ذي القروح”، ثم توفي على أثر ذلك.
ولكن تشير مصادر أخرى أنّ القيصر لم يفِ بوعده لـ “امرؤ القيس”، لكنّه لم يسممه كذلك؛ بل أنّ موته كان بسبب إصابته بالجدري، فتقرّح جسده كله ومات نتيجةً لذلك.
وبغض النظر عن الاختلاف حول سبب موته، يُجمع المؤرخون على أنّ “امرؤ القيس” قد توفي في طريق عودته، بينما كان مارّاً في موضع من بلاد الروم “أنقرة”، حيث احتضر هناك.
وقبل موته وجد قبر امرأة من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجانب جبل يدعى “عسيب”، فقال:
أجارتنا إن الخطوب تنوب | وإني مقيم ما أقام عسيب |
أجارتنا إنا غريبان هاهنا | وكل غريب للغريب نسيب |
ثم مات هناك، حيث يوجد ضريحه اليوم في تركيا، تحديداً هضبة خضرلك المقابلة لقلعة أنقرة.
(حفريات)