د. رباب سرحان
(نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب، في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 16.5.2024)
تُطلّ علينا الشّاعرة هيام مُصطفى قبلان في مجموعتها القصصيّة “بعدَ أن كَبُرَ الموج” وتأتينا فيها كاتبة مبدعة عميقة، مُتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة، قابضة على ناصية اللّغة. ولستُ أقول هذا محاباة أو مجاملة، بل أقوله بكلّ صدق وبكلّ موضوعيّة ومنذ بداية المداخلة. ذلك لأنّ قصص المجموعة، بصفة عامّة، أعادتْني إلى القصّة القصيرة التي نريد. إلى فنيّة القصّة التي نفتقدها وأصبحنا نشتاق إليها ونتوق لقراءتها. فكثيرة هي المجموعات التي تصدر، والتي يريد كاتبُها أن يرى فيها مجموعة قصصيّة، إلّا أنّنا نجد أنفُسَنا أَمام، إمّا لوحات أدبيّة أو مقالات صحفيّة أو خواطر أو تأمّلات، لا نسمح لأنفسنا بتسميتها قصصًا قصيرة!
حُكْمنا هذا على مجموعة هيام قبلان القصصيّة، جاء بعد الوقوف على أطراف العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ممثّلة في الكاتب والنّصّ والقارئ، والعلاقة التّكامليّة بين هذه الأطراف والتي من شأنها أن تُشكّل الذّائقة الأدبيّة وترتقي بها. فالكاتبة في عملها الأدبيّ هذا، تحرص على شحن عواطف المتلقّي وانفعالاته عبر اكتمال عناصر هذا العمل وتغليفها بجماليّات تترك أثرًا لديه. إذ تُقدّم لنا قصصًا اعتمدت في نسيجها على مقوّمات السّرد القصصيّ مثل: حضور الرّاوي، الشّخصيات، الزّمان والمكان، إلّا أنّها افترضت شكلًا آخر من التّعامل مع هذه العناصر، بحيث نراها لا تُعير المكان والزّمان اهتمامًا كبيرًا، ويبقى تركيزها الأكبر على الشّخصيّة. كما أنّها تُظهر قدرة في تعاملها مع الحبكة القصصيّة، إذ تبني قصتها بناء محكمًا، وتتعامل مع اللّغة بشكل مكثّف وبإصرار على الطّاقة الفعليّة للمفردة وللجملة. فلغتها قويّة متميّزة استطاعت أن تقول الكثير، وأن تحمل العديد من الرّؤى والدّلالات المباشرة المفتوحة على دلالات أكثر عمقًا واتّساعًا.
والمعروف أنّ الشّاعرة والأديبة هيام قبلان تتعامل مع مختلف الأنواع الأدبيّة، فكتبت الشّعر والقصّة والرّواية، وإن كان الشّعر يبقى أهمّها وأقربها إليها وهو الذي يستهويها. فقد صدر لها خمس مجموعات شعريّة، وهذا ما يؤكّده حضور “هيام الشّاعرة” بشكل واضح في قصص هذه المجموعة، سواء في توظيفها للّغة الشّعريّة في السّرد أو تضمينها عدّة قصص أبياتًا شعريّة. فامتداد وشيجة الشّعر إلى هذه المجموعة القصصيّة، يؤكّد أنّ الكاتبة لم تتحرّر من طبيعة الشّعر ولا من مجازاته، وأنّ توجّهها لكتابة أجناس أدبيّة أخرى لم يكن مبتوت الصّلة عن الشّعر الذي ظلّ موصولًا بعالم هذه الأجناس، الأمر الذي أكّده الكاتب الفرنسيّ ميشال بوتور حين قال: “انقطعتُ عن كتابة الشّعر منذ اليوم الذي بدأتُ فيه كتابة روايتي الأولى، لأحتفظ لها بكلّ طاقتي الشّعريّة”.
في مجموعتها هذه، لا تلتزم هيام قبلان نمطًا معيّنا في بنائها للقصّة، وإنّما نراها تغيّر في الحبكة بين قصّة وأخرى. فمثلًا في قصص: “أفقد نفسي” و “العار” و “جمرٌ وأمرٌ” تلتزم البناء الهرميّ: بداية، ذروة ونهاية. بينما في قصّة “أشتهيك يا موت” مثلًا، نراها تبدأ من النّهاية ومن ثمّ تعود بنا إلى بداية الحكاية عبر أسلوب الاسترجاع، في حين نجدها في قصّة “منفضة” تتخلّى تمامًا عن هذا البناء، وتوظّف لغة شعريّة مكثّفة جعلت القصّةَ قصيدة.
تقول الشّاعرة البحرانيّة حمدة خميس إنّ كتابة المرأة: “تنبعث من الصّراع الدّاخليّ بين المكبوت- والمُعلن، بين الرّغبة في التّحقّق- والغياب المقنّن، بين التّوق للتبدّل والتّغيير- والسّكون القسريّ. وهذا الصّراع هو الواقع الذي تعيشه كلّ النّساء بوعي أو بدونه”.
وهيام قبلان في هذه المجموعة القصصيّة، تُعبّر عن حقّها، كامرأة، في القول والكتابة والحياة، عبر إبراز دور الأنثى وجعلها المستحوذة على دور البطولة والسّرد في غالبيّة القصص. وحتى القصص التي يكون فيها السّارد رجلًا، تبقى المرأة حاضرة وبقوّة، وهي الشّخصيّة التي يراقبها القارئ ويتابعها بكثافة واهتمام كبيرين، وهي التي تستدعي عطفه وانحيازه. وبناء على هذا، تطرح الكاتبة في المجموعة قضايا تخصّ المرأة، وتُصوّر حالات وتجارب وتحدّيات تعيشها المرأة وتعكس واقعها المرير، بهدف انتقاد هذا الواقع ورفضه ومحاربته. والمقصود هنا، الواقع الذي تحكمه وتتحكّم به العقليّة الذكوريّة. ويبدو أنّ استغراق نصوص هيام قبلان في قضايا المرأة وهمومها ومحاولتها الكشف عن دواخل الذّات الأنثويّة، جعلها تجد في ضمير المتكلّم أسلوبًا “يتيح تفجير طاقات الأنا النسائيّة المُثقلة بهمومها وعذاباتها ومشاعرها وأوجاعها النفسيّة”. (حفيظة أحمد- بنية الخطاب في الرواية النسائيّة الفلسطينيّة) فيدعونا للتّعاطف معها والدّعوة إلى تغيير واقعها عبر طرح صُوَر مُتعدّدة للمرأة، تُمرِّر الكاتبة من خلالها فكرة أو موقفًا.
في قصّة “أفقد نفسي” مثلًا، يتعاطف القارئ مع “رحيل” التي توفّت أمّها واضطرّت للخروج للعمل ومعاركة الحياة منذ كانت طفلة صغيرة. ومن ثمّ مواجهتها “رحمة”- زوجة والدها، المرأة اللّعوب والمتسلّطة والخائنة. وهذه الصّورة للمرأة المتسلّطة نجدها كذلك في قصّة “جمر وأمر” في شخصيّة “فوز”- الزّوجة والأمّ التي تعمل في الشّعوذة وقراءة الفنجان لنساء القرية، ممّا دعاها إلى حرمان ابنتها “فاتن” من إكمال تعليمها العالي لتساعدها في أعمال البيت، ثمّ التّخطيط لتزويجها من رجل غنيّ يكبرها في السنّ. إلّا أنّ فاتن، تُفاجئُنا وتُثير إعجابنا بجرأتها وشجاعتها حين تُقرّر الهروب من البيت قبل أن تُنفّذ والدتها مُخطّطها. ولكن، هذا الإعجاب سرعان ما يخبو ويتحوّل إلى خيبة أمل حين قرّرت فاتن أن تبقى في دير الراهبات الذي لجأت إليه وتعيش فيه بقيّة حياتها. وكم كنتُ أودّ لو ذهبت الكاتبة بهذه الشّخصيّة إلى مكان آخر نراها فيه تتمسّك بحلمها بمتابعة دراستها الجامعيّة وتقاتل وترفض وتتمرّد وتُصرّ على تحقيق هذا الحلم. فلا يُمكن أن نقنع بالنّهاية التي رسمتها الكاتبة لهذه الفتاة ولا بالمكان الذي حدّدته لها لمجرّد ارتباطه بالدّين! فهذه النّهاية تعني الضّعف والتّراجع والاستسلام والتّخلّي عن الحلم، بل قَتْل الحلم الذي طالما تمسّكت به وأصرّت على تحقيقه.
في قصّة “العار” تطرح الكاتبة، من خلال شخصيّة “سماح”- المرأة الضحيّة، حقيقة أنّ المجتمع العربيّ، للأسف، لا يزال يحصر قضيّة الشّرف بالمرأة دون الرّجل. فسماح دُمّرت حياتها عقب تخلّي خطيبها سالم عنها بعد علمه بحملها منه، وقيام والدتها بدفن المولود لغسل عارها. وتصوّر الكاتبة “سماح” في نهاية القصّة، في مشهد قاس ومؤلم، تسير هائمة على وجهها في الشّارع، تُلاعب دمية صغيرة في حضنها، تلفّها بثوب من السّواد، وتنتحب على مناديل الذّاكرة (ص 40).
أمّا القهر الجسديّ والعنف والاغتصاب الذي يقع على المرأة من قِبل الرّجل ويتركها جريحة الرّوح والجسد، فيظهر في قصّة “هناء” وهو اسم البطلة- الأرملة التي اغتُصبت من قِبل سيّد البيت الذي تعمل فيه مُستغلّا غياب زوجته: “لم يمهلها أبو سالم، حاصرها بيديه القويّتين… وهي تقاوم وتقاوم، لكنّه باغتها بجسده وقامته الطويلة، ولم يكترث بتوسّلها وصراخها ونشيجها وتركها كالذبيحة تلملم ثوبها وتغطّي عُريها” (ص 115).
هذه النّظرة الضّيّقة إلى جسد المرأة، نجدها كذلك في قصّة “أشتهيك يا موت” حيث نشهد حادثة اغتصاب الفتاة على يد صاحب مزرعة القرية مُستغلًّا حاجتها إلى مكان تلجأ إليه بعد أن قُصف بيتها الذي تسكن فيه بمفردها بعد رحيل والديها. فتصف لنا الكاتبة حالتها النّفسيّة المحطّمة وهي تغسل آثار الجريمة: “عدّت قطرات النّدى المتساقطة على حوافّ الوجع، وأغلقت أسارير القلب. تفقّدت أصابعها، وجهها، شفتيها، شعرها ليليّ الملامح، وخاصرتها التي لعقت نزف الشّوارع. لم تنتحب، ولم تجعر كذبيحة العيد على عتبة البيت. وقفت عارية كما في البدء، حافية كما النهر حين يفقد خريره. كانت فقاعات الصّابون تتناثر على الحيطان، وبرغوة طفوليّة يصرخ الجريح في أحشائها، تتأوّه، وترمي بقايا من قطع القماش الملوّثة بدم بتوليّتها إلى سلّة المهملات” (ص 30).
تقول النّاقدة نازك الأعرجيّ في كتابها “صوت الأنثى”: ” إنّ الخطاب السّرديّ النّسائيّ يُقدّم عدّة نماذج تصف الآخر بسلبيّة وتكون أشبه بمقاومة طبيعيّة للأيديولوجيّة الرجوليّة التي عانت منها المرأة”. وهيام قبلان في مجموعتها هذه تصف تجربة المرأة المريرة مع الرّجال. فالرّجل: هو الكاذب والمخادع والجبان والحقير في قصّة “العار”، وهو الأحمق والوحش المفترس في قصّة “أشتهيك يا موت”، وهو الخائن في قصّة “خطيئة”، والضّعيف والمهزوم في قصّتي: “أفقد نفسي” و “جمر وأمر”. ونراها في قصّة “ثرثرة”، تُعلن موقفها من الرّجل بشكل واضح في قولها: “النّساء هنّ النّساء، يُحببن الرّجال، يحلمن ببيت وأطفال، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه، تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه، يشتهيها قبل إفراغ شهوته، يتأبّط رجولته، ولا يفكّر إلّا بما بين فخذيه” (ص 28).
أمّا القصص الأجمل في المجموعة، برأينا، هي تلك التي كُتبت بأسلوب السّرد الذّاتيّ الذي يُمثّل البوح الشّخصيّ للكاتبة، وحيرتها وضعفها وقوّتها وإخفاقاتها وخيباتها وتطلّعاتها. ونستبعد هنا أن تُنكر الكاتبة الصّلة بينها وبين هذه النّصوص، وأن تدّعي أنّها تدخل في لعبة التّأليف القصصيّ لا غير. فهذه القصص يصعب فيها فصل الرّاوي عن الكاتب، إذ يبدو واضحًا أنّ الكاتبة وجدت فيها متنفّسًا لاسترجاع ذكرياتها وللتّعبير عن همومها ومشاعرها وألمها ووجعها. فنراها تكاشفنا بلحظات ضعفها، وتفجّر عبر الكتابة ما في أعماقها من أسرار وألم وغضب وأسئلة واحتجاج وخيبات ولوم وعتاب. ولا سيّما تلك القصص التي تتناول فيها مسألة المرض وفقدان الابن. الأمر الذي يؤكّد ما نؤمن به: أنّ الكتابة أوّلًا وأخيرًا حالة إبداعيّة إنسانيّة، ولا يُمكن سلخ الكاتب عن نصّه. كما أنّ توظيف الضّمير الأوّل في هذه القصص يُعزّز شعور القارئ بمصداقيّتها وذلك لارتباط هذا الضّمير بقول الحقيقة. فالقصّة، بصفة عامّة، تستمدّ مصداقيّتها من ارتباطها بحياة كاتبها وتجاربه، وهذا ما نشهده في قصص: “سرب ضجيج” و “دون خيار” و “فوق سرير أبيض” حيث تطرح الكاتبة تجربة الرّاوية القاسية مع المرض وكم تمنّت الوحدة بعد إصابتها به، وكأنّ مصيبة فقدانها لابنها لا تكفي، حتى يداهمها هذا المرض ويفتك بجسدها ويُضعف عزيمتها ويؤثّر سلبًا على نفسيّتها التي بدت محطّمة ويائسة على الرّغم من نصيحة الأطبّاء بأن لا تحزن وأن تحاول النّسيان وأن تتشبّث بالأمل، إلّا أنّها “تركت كلّ شيء دون خيار.. هي الحياة بمرارتها أو الموت بعلقمه، لا فرق عندها في الخيار” (دون خيار، ص 91). بالمقابل، نجدها في قصّة “سرب ضجيج” تُصرّح أنّ ألمها الأشدّ والأعمق، والذي ولن يفهمه أحد سواها، هو حؤول هذا المرض دون قُدرتها على الكتابة: “أمّي لا يُمكنها أن تعلم أنّ القصيدة لا تزورني. أعتصر بقايا فتيل لقنديل خافت، تعتقلني الكلمات، تحاصرني بالأنين، وتتهافت عليّ الهلوسات..” (ص 56). ونراها تُعيد حساباتها في فكرة الخضوع للمرض وللموت، وتتنبّه إلى أنّه ما يزال في جعبتها الكثير لتعطيه وتُقدّمه وتقوله وتكتبه: أفكار وأحلام وقصائد وإبداع. تقول: “انتعلتُ المساء، التحفتُ بالألم، باحثة عن وجهي العابث في المرايا المتكسّرة أتساءل: إن كنتُ لا شيء يا قدري، وإن كانت نهاية الغيث قد اقتربت، فمَن سيوقف هذا النّزف؟ مَن يقبض مرّة على الرّيح، أمنحه قلمي ومداد الرّوح، أمنحه ذاكرتي.. فأيّة مواجهة تدفنين أيّتها النّفس، في ظلّ المطاردة؟ وأيّ المدافن باستطاعتها محوَ ثورة الرّيح المحتومة؟” (ص 57).
إنّ حادثة فقدان الابن هدَّتها وتركت شرخًا كبيرًا في روحها وحزنًا مزروعًا في قلبها. فقد فارقها وأهداها الحزن، ومناديل الرّحيل، وذاكرةً من أشلاء صُوَر ٍمعلّقة على الحائط (فوق سرير أبيض، ص 94). هذه المأساة تأخذ حيّزًا بارزًا في هذه المجموعة حيث تُصوّر الكاتبة كيف ترك رحيله جرحًا عميقًا نازفًا وصمتًا قاتلًا وصرخة مخنوقة وغصّة موجعة ومؤلمة تُعبّر عنها بكلمات مشحونة بالألم والغضب والّلوم والتّساؤلات والقهر والخيبة، تُقطّع الفؤاد وتُدمع العين. فبرحيله تَرَك أمًّا مكلومة فقدت كلّ أمل في الحياة. فالموت أخذه بسرعة خاطفة حتى أنّها “لم تعلم كيف سبقها إليه مُحتفلًا بالأسوَد، ولم تعلم كيف تدلّى عنق النّجم، ولم تُسعفها خطواتها لتحتضن وجهه” (هودج الأحزان، ص 107). تقول: “لم يمهلني الموت كي أُسرع وأحتضن جسدك المسجّى فوق الأرض، والعيون الجاحظة التي لا ترحم تبتعد دون مبالاة.. لم تمتدّ يداي لتلامسك، ولم أهمس لك بما كنت أريد قوله قبل الوداع الأخير..” (لوم، ص 64). وتلوم نفسها وتنتقد تخاذل المجتمع الذي يتغاضى عن جرائم القتل التي تحصل: “ألومني، إذ لم أملك القدرة على انتزاع الحقّ، أو إطلاق صرختي ضدّ الباطل. طال صمتي وخيّم الليل على قلمي واختنق، كي لا أكسر عصا الطّاعة.. في مجتمع مزيّف، انعدمت فيه العدالة الاجتماعيّة والإنسانيّة..” (لوم، ص 65). وهي تعتبر أنّ الدنيا فانية، وما حدث لابنها يُثبتُ أنّ لا وجه حقّ فيها ولا عدل ولا ميزان (هودج الأحزان: ص 106). ولكن، سرعان ما تتنبّه إلى ضرورة أن تُلملم حزنها وخطورة أن تسمح للغضب أن يقودها إلى حيث لا تريد ولا ترغب. فنراها تُحكّم عقلها وتُصفّي قلبها وتنظر إلى الحياة بعين التّفاؤل والاستمرار، ليس تراجعًا أو ضعفًا أو استسلامًا، بل من موضع قوة وتحدًّ وإصرار وبوعيٍ بدورها كأمّ وشاعرة وكاتبة ومثقّفة تحمل على عاتقها واجبًا اجتماعيًّا يقضي بالإصلاح والتّوعية والتّثقيف. تقول: “هذه الأصابع العشر المجبولة بدمك، ستُضيئ من أجلك قناديل َالأمل والمدى الطويل. سأستمرُّ ولو سرت وحدى فَرْدى. إنّه زماني الخطأ” (لوم، ص 67). تشعر أنّها خُلقت في زمان لا يناسبها ولا يتوافق مع مبادئها وقناعاتها، وفي مجتمع يضيق على أفكارها وتطلّعاتها وطموحاتها وقدراتها وأحلامها. ولكنّها، ومن أجل ابنها، ستستجمع قواها وستُضيئ قناديل الأمل وستستمرّ على الطّريق التي تؤمن بها وستتحدّى وتُواجه، وستعمل على أن تكون الحياة أفضل، وأن تسود المجتمعَ قِيَمُ الحقّ والعدل والإنسانيّة.
أمّا قصّة “شغف” فهي سيرة ذاتيّة، تُعيدنا فيها الكاتبة إلى بدايات شغفها بالقراءة والكتابة. فتُحدّثنا بسرد جميل شائق عن شدّة تأثير قراءاتها لمؤلّفات جبران خليل جبران على مسيرتها الأدبيّة. حيث كانت تقرأ داخل شجرة الرمّان في كرمهم، وقد أخفت عشقها هذا للقراءة خوفًا من ردّة فعل أهلها وأمّها بالذّات. تقول: “سترتُ السّرّ وعراء فكري، داخل شجرة الرمّان التي علق لونها بذهني، وطعمها بحلقي، كالفرح المغرّد النّابت داخل العتمة، يتفتّح على شكل حبيبات من الرمّان المتورّد. خشيتُ من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحًا متمرّدة، وعرائس مروج، ودمعة، وابتسامة، وعواصف، وموسيقى، ورملًا وزبدًا..” (ص 21). وتتذكّر حين ابتاع لها والدها ما اختارته من كتب، وكيف أدمنت في ريعان صباها مكانًا تُفرغ فيه شهوتها ومتعتها المجنونة في القراءة، وراء صخرة قرب البحر في حيفا حيث كانت تتحايل على جارتهم لتقلّها معها وتحلّفها أن لا تخبر أمّها وإخوتها، وكيف ازداد خوفها وصراعها الدّاخليّ حين تحوّل شغفها بالقراءة إلى عشق الكتابة. هذه الصّخرة التي شهدت قراءات الكاتبة الأولى، والتي تذكرها الكاتبة في أكثر من قصّة، تؤكّد قول غاستون باشلار في كتابه “جماليّات المكان”: “إنّ المكان لا ينطوي على البيوت والأثاث فحسب، بل يحمل ذاكرتنا وأرواحنا وأحزاننا”. أمّا الأم والأهل هنا، فيُمثّلون التحدّيات والعوائق الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، والاعتراضات الحادّة التي تُواجهها المرأة الكاتبة وتعرّضها لحيّز ضيّق من الحريّة الإبداعيّة حين تصطدم مباشرة بتقليديّة المجتمع العربيّ التي تصبح عائقًا أمام حريّة الفكر والإبداع. هذه التحدّيات وصعوبة مواجهتها تُعبّر عنها بقولها: “كسرتُ عصا الطّاعة، فلم تسكن العاصفة وتمهلني، بل صفعتني بقسوتها. لامست قدماي الأرض، ولم يُحلّق النّسر الذي أوهمني بالتّحليق معه، فالتّحليق لا يليق بالأرض، بل مكانه السماء.. رفعت عنقي قليلًا، ووجدتني بين سوط وجلاد.. ابتلعتني اللّعنات، صفّق الجبناء حولي، بينما شظايا الانكسارات اخترقت جسدي، والنسر هوى!” (ص 25).
في قصّة “بعد أن كبر الموج” توظّف الكاتبة تقنيّة “الميتا كتابة” أو “الميتا قصّ”. ففي الوقت الذي يُتخيّل للقارئ أنّ الرّاوية تتحدّث إلى الرّجل الذي تُحبّ وتصف شدّة تأثيره عليها وما يُثيره فيها من أحاسيس ومشاعر، وكيف يُحاصرها ويُطوّقها ويصلب ظلّه فوق صدرها، سرعان ما يكتشف، بعد أربع صفحات، أنّها تخاطب الشّعر والكتابة وتتحدّث عنهما. فحبّ الكتابة فاض بها وتملّك أحاسيسها، ولم يعد بإمكانها التخلّص منه ومنعه عن التّدفّق والانسياب: “تلهث أنفاسي، وأدري أنّني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأوّل مرّة، تجوّلتُ، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجوّلتَ معي في شوارع المدينة ]…[ حاولتُ رميك في البحر، كما أرمي حاجيّاتي القديمة، فتصطادني أفكارك، وتحتال كصيّاد ماهر على سمكة البحر. أُقاوم الطُّعم، أرنو من صخرة شهدتْ قراءاتي الأولى، وامتصّت نهدَ الرّمال، وأُقرّر.. أقرّر أن لا أتبعك.. أقرّر أن أدخل غرفتي الصّغيرة المتعمشقة على جدرانها أحلامي الورديّة، ويسكنني ليلي لوحدي.. فلماذا تصلب ظلّك فوق صدري؟ لماذا تحاصر خاصرتي بيديك القويّتين؟ لماذا تُطوّق عنقي بسلسلة النّهايات، وأنا أمقت القيد؟”. “راحتُك تتسلّق أعلى الجبين، تحضن رعشتي، تنقبض بين أصابعك، أشمّ رائحة عطرك المميّز وأُجنّ.. يا من عشقته روحي، وتراخى الانتظار لصهيل حوافره.. يا صاحب العشق المجنون، والسّفر المجنون، والليل المجنون، طيفك يتمطّى في سريري اليتيم.. تهطل فوق مساحة جسدي رغبتك المستفزّة، وماء جنونك، وتُفرغ في كأس مناي عصارةَ لقاحك” (ص 60). وعندما وقعت هذه الأوراق التي دوّنت عليها الكاتبة ما امتلكته الرّوح من متعة وما احتضنتْه من حلم، في يدي أمّها، نهرتْها: “تعالي يا بنت، بدّك تفضحينا في البلد؟ بعد ناقص تحبّي من ورانا”. ولمّا أرادت الدّفاع عن نفسها، صاحت بها: “اصحي بيّك يسمعك. يا خسارة تربيتي فيك”. وبكلمات تفيض بالعاطفة والصّدق تقول لأمّها: “حبّي للكتابة والقراءة ليس بيدي يا أمّي. كيف باستطاعتي أن أترك قطعة منّي، بعد أن كبُر الموجُ بداخلي؟ بعد أن بنت العصافيرُ أعشاشها بين ضلوعي، لتعيش بأمان؟ كيف؟ هل تفهمينني يا أمّي؟” (ص 63).
عن الجانب الجماليّ في هذه المجموعة، كنتُ قد تحدّثتُ في بداية المداخلة، ولكنّي أعود وأُشدّد على أنّ الكاتبة اهتمّت أن تبتعد عن السّرد الجافّ وأن تكتب بلغة شعريّة تتميّز بالكثافة والإيحاء، عبر توظيف تقنيّات مختلفة كالاستعارة والمجاز والاسترجاع والتي من شأنها أن تُضيئ أعماق الشّخصيّة ودواخلها، إذ تتّسم غالبيّة جملها بالتّساؤلات التي تعبّر عن أزمة البطلة، وبخطاب يوحي برفض واقع الأنثى المسحوقة. وتجدر الإشارة في هذا السّياق، إلى أنّ هذه اللّغة المكثّفة، والتي حقيقة أبدعت فيها هيام قبلان، لفّت بعض القصص بالغموض واستدعت قراءتها أكثر من مرّة والوقوف عند كلّ معطى وروابطه مع المعطيات الأخرى للوصول إلى فهم القصّة.
أمثلة مُختَصَرة تُبيّن جمال اللّغة: “تُحملق بجسدها المتكوّر الرّاجف، ترتطم بجسد آخر، تحسّه، يتصاعد شهيقه، تفكّ أزرار خوفها، وتلفّ ثوبها حول جرحه النّازف” (أشتهيك يا موت)، “يلتفّ الحزن حول عنق البحر، يُطوّق الرمال وهمس الموج.. ساكنة هي مدينة الحلم… منذ فجر صارخ، لم يقذف البحر أحشاءه، لا بسمكة ولا بمحارة. كلّ شيء يتخدّر، وصخور تخبّئ سرًّا، ونقشًا، وذكريات”. (ص 68). “ولم ينته الحزن. قد نشلحه على جدار حديقة، تنبت من ضلعه زهرة. قد يورق في نيسان، ويرتدي زرقة البحر وربيع الغيث. قد يسافر بنا إلى حيث كان الوقت يزحف مستجديًا عيون السماء، أن ترفق بنا ولا تنسانا”. (ذاكرة العسل المرّ، ص 70).
ميزة أخرى نجدها في لغتها هي ارتباطها بالجسد. وحول هذه القضيّة في أدب المرأة الكاتبة كُتب ونُظّر الكثير، من مُنطلق أنّ المرأة لا تكتب كما يكتب الرّجل، وإنّما تملك لغة خاصّة مرتبطة بالجسد ومأخوذة من عالمها (تأنيث اللّغة): “لامست عنقها الملتوي، شعرت بوخز ألم بين فخذيها، زحفت إلى الحمام، لتزيل قاذورات لعابه اللّزج فوق حقلها المصفرّ..” (أشتهيك يا موت، ص 30)، “يفرد اللّيل فخذيه متراخيًا على سرير يئنّ…”، “نهداها الهَرَمان المكوّران بلون الكرز يستفزّان شبقه، ساقاها النّاعمتان كعمودَي رخام ثلجيّين و.. كلّ ما فيها يثير ذكورته الذّئبيّة” (خطيئة، ص 110).
وأخيرًا،
إنّ جوهر الإبداع الأدبيّ الفنيّ، هو التّجربة الشّعوريّة التي تدفع الأديب إلى محاولة التّعبير عنها تعبيرًا محسوسًا. وهيام قبلان في مجموعتها هذه نجحت في قدرتها الفائقة على الإحساس بأبطالها والتّعبير عنهم بصدق وبراعة، كما نجحت في استقطاب المتلقّي وشدّه وفي اختراق قلبه وعقله، وجعله متعاطفًا وشريكًا معها في مشاعرها وأفكارها ومواقفها، عبر جماليّات النصّ وملامسته للوجدان. ولعلّ الجماليّة الأبرز والأقوى أثرًا تمثّلت في توظيفها للغة شعريّة مكثّفة، مشحونة بالعاطفيّة، تتميّز بالقوّة والعمق وبغنى الدّلالات وبقدرتها على النّفاذ إلى عمق الوجدان واستهداف البعد الإنسانيّ في الإنسان. وعليه، تبقى اللّغة، في رأينا، سيّدة هذه المجموعة وهي التي خَلَقَت قيمتها الجماليّة الفنيّة. أمّا هيام قبلان، فتبقى الشّاعرة والأديبة المبدعة المتميّزة والمتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة. ورغم ما مرّت به من ظروف صعبة وخيبات وتحدّيات شاركَتْنا بها في هذه المجموعة، إلّا أنّها، كما نراها أمامَنا، ظلّت قويّة ومبتسمة ومُصرّة على أن تلمح الجانب المشرق للحياة، وبقيت متفائلة آملة بغد أفضل سيأتي، ومتمسّكة بحريّتها في القول والكتابة والحياة لأنّها امرأة تمقتُ القيد، كما قالت، وتأبى أن تعرف أحلامُها الحصار.
(الرّامة)