زعم (زكريا القزويني، -682هـ= 1283م) في كتابه “آثار البلاد وأخبار العباد“(1)، خلال حديثه عن بلاد (إفرنجة)، التي قاعدتها (باريس)، (=فرنسا)، أنها:
“بلدةٌ عظيمةٌ، ومملكةٌ عريضة، في بلاد النصارى… ولهم مَلك ذو بأس، وعدد كثير، وقُوَّة مُلك، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام، وهو يحميها من ذلك الجانب، كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها، يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها. وعساكره ذوو بأس شديد؛ لا يَرون الفرار أصلًا عند اللقاء، ويَرون الموت دون ذلك. لا ترى أقذر منهم، وهم أهل غدرٍ ودناءة أخلاق، لا يتنظَّفون ولا يغتسلون في العام إلَّا مرَّة أو مرَّتين بالماء البارد! ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع! ويحلقون لحاهم، وإنَّما تنبت بعد الحلق خشنةً مستكرهة. سُئل واحدٌ عن حلق اللِّحى؟ فقال: الشَّعر فَضْلة، أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟!”
وأقول “زعم”؛ لأنَّ لهذا القزويني خزعبلات لا تخفى، في كتابه هذا وفي غيره، يصعب تصديقها. بل له تخليطات جغرافيَّة، حتى في كلامه حول مواضع معروفة في الجزيرة العَرَبيَّة، عرفها وعرَّف بها معاصروه وسابقوه. وليس هذا بمقام مناقشة هذا الآن. أمَّا ما ذكرَه عن الثقافة الأوربيَّة خلال القرون الوسطى، فله شواهد متواترة من طُرقٍ متعدِّدة، لعلَّ أشهرها ما وصفه (أحمد ابن فضلان)، في رسالته المعروفة، التي صوَّر فيها مجتمعات (أوربا الشرقيَّة)، خلال العصر العباسي الثاني، إبَّان عهد (المقتدر، -320هـ= 932م). والشاهد من هذا أنَّ الحضارة دوَّارة، والحضارة الماديَّة ليست بمقياس التحضُّر الأمثل، مهما بلغ البهرج والعنفوان. وآيات ذلك المعاصرة ليست في حاجة إلى استشهاد أو تفسير. فإذا كان (نزار قباني) قد ناح على بني جلدته:
خلاصةُ القضيةْ
توجز في عبارةْ:
لقد لبسنا قِشرة الحضارةْ
والرُّوح جاهليَّةْ!
فما أروع جاهليَّتنا العَرَبيَّة الأُولى، قياسًا إلى بعض الجاهليَّات المعاصرة، وريثة الجاهليَّات الأوربيَّة المعولمة! وما فضائح الملياردير الأميركي اليهودي- واليهوديَّة نفسها منه براء- (جِفري سيمور جي إبستين Epstein Jeffrey، – 2019)- صاحب (جزيرة القدِّيس يعقوب)، والمدفون في (مقبرة نجمة داود)، بعد أن هلك منتحرًا- ولا فظائع زمرته من شياطين الإنس، منَّا ببعيد! ويا للنفاق، فأنتَ تلحظ هنا الرموز الدِّينية المحيطة بهذا الشيطان الرجيم، حيًّا وميتًا: “القدِّيس.. يعقوب.. نجمة داوود“! ويالها من قداسة، ونجوميَّة، وداووديَّة! وهل تألُّب شياطينهم، من أحفاد أسلاف البدائيَّة الغربيَّة، على مستضعفي (غَزَّة) من النساء والولدان بغريبٍ على جذورهم التاريخيَّة؟! إنَّ الحيَّة لا تَلِد إلَّا الحيَّة، وما أشبه الليلة بالبارحة! على أنَّ التوحش البَشري يزداد ضراوةً وقُبحًا حين يتلبَّس لبوس الدِّين.
هكذا صفعَ وجودَنا (ذو القُروح)، ونحن ما نكاد نستفيق من صفعاته السالفة. فقلت، وقد أوشك أن يخرج عن طوره، لعلِّي أستعيده إلى بعض حواره التاريخي السابق:
– ألا تلحظ في صراع الأديان المعاصرة، وهو صراعٌ مسيَّس، ذلك الجهاد في سبيل الذَّبِّ عن القول بتحريف “الكتاب المقدَّس”، سهوًا أو قصدًا؟!
– بلى ألحظ. وذاك لتنقية صفحات التاريخ ممَّا تستعيد كتابته صفحات المعاصِر. ويحدث ذلك كذلك لأسباب من الاختلافات الأيديولوجيَّة، وهو ما دفع الكنيسة إلى أن تتنصَّل من بعض الكِتاب، فتجعله بين قوسَين، تنبيهًا إلى عدم وجوده في الأصول القديمة، وذلك كقِصَّة (مريم المجدليَّة).(2)
– ألهذا فقط وقع التحريف؟
– له ولغيره من المآرب والأهواء التاريخية، عبر رحلات تلك الأسفار من النُّسخ المخطوطة، المفقودة أصولها، التي كتبها المعاصرون لـ(موسى وعيسى، عليهما السلام).
– كيف؟
– كيف هذه حكاية تطول! ذلك أنَّ ما بقي لا يعدو نُسَخًا منقولة عن نسخٍ ضائعة، مختلفة الروايات، وأَقْدَم مخطوطٍ غير أصليٍّ لـ(العهد الجديد) لا يرقى إلى أقدم من القرن الثاني الميلادي. ثمَّ زاد الطين بِلَّةً ما حدث من تحريفاتٍ، أو من أخطاء إضافيَّة قسريَّة، جرَّاء رحلاتٍ أخرى بين أيدي مترجمي تلك النُّسخ غير الأصليَّة نفسها، من لغات قديمة- كالعبرانيَّة والآراميَّة، فيما يتعلق بـ(العهد القديم)، واليونانيَّة، فيما يتعلق بـ(العهد الجديد)- إلى لغات أحدث، أو إلى لغات أخرى.
– وهل من جديدٍ تحت الشمس؟
– الجديد أنَّ الكتاب الأوَّل قد حوى تراثًا من الأساطير، مقتبسًا عن شعوب شتَّى، ولاسيما الأساطير السومريَّة، والأكديَّة، والبابليَّة، التي يبدو أنَّ القوم استقوا شِقْصًا منها إبَّان السَّبي البابلي.
– شِقْصًا؟
– أعني شِقًّا منها. ولنضرب على هذا نموذجًا واحدًا. وهو (قِصَّة الطوفان). جاءت تلك القِصَّة المثيرة في (سِفر التكوين)(3)، على النحو الآتي:
“ورَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسانِ قَدْ كَثُرَ في الأَرْضِ… فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسانَ في الأَرْضِ، وتَأَسَّفَ في قَلْبِهِ! فَقالَ الرَّبُّ: “أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسانَ مَعَ بَهائِمَ ودَبَّاباتٍ وطُيُورِ السَّماءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ!”… فَقالَ اللهُ لِنُوحٍ:… اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا… فَها أَنا آتٍ بِطُوفانِ الماءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فيهِ رُوحُ حَياةٍ مِنْ تَحْتِ السَّماءِ. كُلُّ ما في الأَرْضِ يَمُوتُ. ولكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الفُلْكَ أَنْتَ وبَنُوكَ وامْرَأَتُكَ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ومِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَى الفُلْكِ لاسْتِبْقائِها مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وأُنْثَى… في سَنَةِ سِتِّ مِئَةٍ مِنْ حَياةِ نُوحٍ، في الشَّهْرِ الثَّانِي، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ في ذلِكَ اليَوْمِ، انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنابِيعِ الغَمْرِ العَظِيمِ، وانْفَتَحَتْ طاقاتُ السَّماءِ. وكانَ المَطَرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً… فَماتَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ… كُلُّ ما في أَنْفِهِ نَسَمَةُ رُوحِ حَياةٍ مِنْ كُلِّ ما في اليابِسَةِ ماتَ. فَمَحا اللهُ كُلَّ قائِمٍ كانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ… ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وكُلَّ الوُحُوشِ وكُلَّ البَهائِمِ الَّتِي مَعَهُ في الفُلْكِ. وأَجازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ المِياهُ. وانْسَدَّتْ يَنابِيعُ الغَمْرِ وطاقاتُ السَّماءِ، فامْتَنَعَ المَطَرُ مِنَ السَّماءِ. ورَجَعَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوالِيًا. وبَعْدَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ المِياهُ، واسْتَقَرَّ الفُلْكُ في الشَّهْرِ السَّابعِ، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبالِ أَراراطَ. وكانَتِ المِياهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوالِيًا… وفي العاشِرِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الجِبالِ. وحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طاقَةَ الفُلْكِ الَّتِي كانَ قَدْ عَمِلَها وأَرْسَلَ الغُرابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ أَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ المِياهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ تَجِدِ الحَمامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِها، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى الفُلْكِ… فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وعادَ فَأَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنَ الفُلْكِ، فَأَتَتْ إِلَيْهِ الحَمامَةُ عِنْدَ المَساءِ، وإِذا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْراءُ في فَمِها. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ المِياهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ… وكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قائِلًا: “اخْرُجْ مِنَ الفُلْكِ… وبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ… وقالَ الرَّبُّ في قَلْبِهِ: “لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسانِ… “وها أَنا مُقِيمٌ مِيثاقِي مَعَكُمْ… هذِهِ عَلاَمَةُ المِيثاقِ الَّذِي أَنا واضِعُهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ… وضَعْتُ قَوْسِي في السَّحابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثاقٍ بَيْنِي وبَيْنَ الأَرْضِ… وكانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الفُلْكِ سامًا وحامًا ويافَثَ. وحامٌ هُوَ أَبُو كَنْعانَ. هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. ومِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ. وابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وغَرَسَ كَرْمًا. وشَرِبَ مِنَ الخَمْرِ فَسَكِرَ وتَعَرَّى داخِلَ خِبائِهِ. فَأَبْصَرَ حامٌ أَبُو كَنْعانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خارِجًا. فَأَخَذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداءَ ووَضَعاهُ عَلَى أَكْتافِهِما ومَشَيا إِلَى الوَراءِ، وسَتَرا عَوْرَةَ أَبِيهِما ووَجْهاهُما إِلَى الوَراءِ. فَلَمْ يُبْصِرا عَوْرَةَ أَبِيهِما. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ ما فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقالَ: “مَلْعُونٌ كَنْعانُ! عَبْدَ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ”. وقالَ: “مُبارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سامٍ. ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيافَثَ فَيَسْكُنَ في مَساكِنِ سامٍ، ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ”. وعاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ.”
وهذه قصَّة لا تخلو تفاصيلها من الخيالات الأُسطورية والعنصريَّة. وقد امتدَّ هذا الخطاب العنصري إلى “العهد الجديد“.
– من هنا، إذن، تدفَّق علينا منبع (الساميَّة المقدَّسة)، التي تحوَّلت إلى شعارٍ إرهابيٍّ عالمي؟
– نعم، حتى لا تكاد تفتح فمك بانتقاد، حتى يَهِرَّ الغرب في وجهك: “أنت ضد الساميَّة!”، وإنْ كنتَ أنت السامِّي والمقول فيه خزري!
– وكذا منبع العنصريَّة القديمة ضدَّ (الكنعانيِّين/ الفلسطينيِّين). لكن كيف امتدَّ ذلك الخطاب ليصبَّ في “العهد الجديد“؟
– إجابة كيف هذه في المساق التالي، إن شاء الله!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (د.ت)، آثار البلاد وأخبار العِباد، (بيروت: دار صادر)، 498. وقارن: 576.
(2) يُنظَر: تفسير العهد الجديد، (جمعية الكراريس البريطانية، 2004)، 235.
(3) الإصحاح 6- 9.