يحل علينا عيد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة هذا العام، وتفكير الناس شارد بعيدا عن بهجة العيد المعتادة، حيث لا بهجة ولا فرح هذا العام، فالكل منشغل بأخبار الحرب اليومية وازدياد عدد الضحايا التي تسقط عبثا ودون فائدة، وعلى هامش عيد هذا العام تجتاحنا أفكار مختلفة وهذه بعضها.
ما لفت نظري أولا في أعياد هذا العام الموقف الصائب والحكيم الذي اتخذه رؤساء الكنائس في مدينة القدس من أساقفة وبطاركة وأعلنوه من خلال بيان واضح عشية الأعياد من إدراكهم “أنّنا نعيش واحدةً من أفظع الكوارث الإنسانيّة في أرض الميلاد، فلقد أدى عنف الحرب خلال الشّهرين والنّصف الماضيين إلى معاناة لا يمكن تصوّرها لملايين الأشخاص في أرضنا المقدّسة، وتسبّبت فظائع الحرب بالبؤس والحزن لعائلات لا تحصى في منطقتنا”. فهل يمكن إقامة الحفلات والعروض واطلاق المفرقعات في أجواء القتل والحزن والمعاناة اليومية؟
لقد كان التجاوب واسعا شاملا مع موقف رؤساء الكنائس، تلاه موقف مشابه من جميع رعاة الكنائس في البلدات التي يخدمون فيها، كما تماثل مع هذا القرار رؤساء وادارات السلطات المحلية العربية، خاصة التي يسكن فيها مسيحيون حيث جرت العادة الاحتفال باضاءة شجرة الميلاد، من قبل السكان مسيحيين مسلمين ودروزا. وأثبت الجميع أنهم جسم واحد يتألم إذا ما تألم أي عضو فيه.
لكن.. ودائما ما يكون لكن. أبت قلة قليلة من الأفراد إلا الخروج عن قرار رؤساء الكنائس، في عدم الالتزام به والتمادي في إقامة احتفالات خرجت عن التواضع المطلوب، مما أحدث حالة من الاستياء والامتعاض المشروعين. لم يدع رؤساء الكنائس إلى الغاء مظاهر العيد وخاصة للأطفال في البيوت والمؤسسات، انما دعوا الى الغاء الاحتفالات الشعبية العامة، التي لم يكن بالامكان اقامتها وكأن شيئا لا يحدث في محيطنا، ومن أصر على الخروج عن الاجماع والصواب انما أثبت أنه هامشي في المجتمع، ومن الأجدر به التراجع عن خطئه والاعتذار عنه.
أثناء تجوالي في صفحة الفيسبوك وجدت أحدهم يثبت لوحة بمناسبة العيد ويقدم تهاني العيد، وهو فعل ذلك من مشاعر وطنية لا أشك بها. لكن ليس كل عمل نقوم به حتى لو كان من منطلقات وطنية يكون صائبا أو موفقا. فاللوحة التي أتحدث عنها تمثل شخصية “بابا نويل” يقود عربة عليها جثث ترمز إلى جثث أبناء غزة، وبابا نويل يبدو في هيئة غير هيئته ووجهه ينضح غضبا. لم أستسغ هذه اللوحة، ليس لأنها تشوه صورة شيخ العيد، المعروف بحب الأطفال له، لأنه يحمل لهم الهدايا في عيد الميلاد بوجهه الطافح بشرا وسرورا ويزرع الفرح حيث يحل، إنما لأنه لا يجوز أن نتلاعب بشكل غير موفق برموز الأعياد – وهناك من تلاعب برموز دينية ليس بهدف الإساءة لكن جاءت رسوماتهم في غير مكانها- ونشوه تلك الرموز بحيث تتحول من رموز إيجابية إلى رموز سلبية، فلا يمكن لبابا نويل أن يحمل الجثث ليوزعها على الناس وخاصة في العيد، وعادة ما يوزع هداياه على الأطفال الصغار.
أدرك أن البعض سيقول لي بأن هذه لوحة رمزية، لكن باختصار وصراحة لم أستسغ تلك اللوحة ولم أقتنع بما حملته من رمز.
مقابل اللوحة التي تحدثت عنها، جاءنا رمز يحمل تعبيرا أفضل وموفقا بشكل مثير، والرمز المقصود ما أنجزته بلدية بيت لحم مع أوساط عديدة، حيث نصبت “مغارة بيت لحم” مكان شجرة الميلاد التي يتم اضاءتها سنويا في ساحة المهد، وذلك يوم السبت 23 كانون الأول، وقد أوضح رئيس بلدية بيت لحم، حنا حنانيا معنى هذه المغارة بالقول “المغارة ليسَت عادية فهي مدّمرة بفعل القصف، بينَ جدرانِها تحتضن العائلة المقدسة من خلال شكلها الذي يماثلُ خارطة غزة، والأطفال الّذين ارتقوا شهداء كالملائكة تنظر من السماء، وضوء المغارةِ هنا خافت جداً بسبب القصف والموت، وفي الوسط تحتضن مريم العذراء الطفل يسوع، مُعلَنةً الحياة الجديدة للبشريةِ جمعاء”.
يمكن القول إن هذا العمل الفني الذي أبدعه الفنان طارق سلسع، أصاب الهدف وجاء معبرا برمزيته عن حقيقة العيد في ظل الحرب التي نعيشها منذ أكثر من شهرين، وتحصد أرواح الألوف من البشر وخاصة من الأطفال، ونحن نحتفل بعيد الأطفال والطفولة، بدءا بميلاد الطفل يسوع.
ونأمل أن يكون ميلاد المخلص مناسبة لميلاد الخلاص لهذا العالم المليء بالشرور، ولهذه المنطقة المنكوبة بالحروب والمآسي. آمين.