إنَّ النصوص لا قيمة لها بلا قراءة، والقراءة مَضِلَّةٌ قُصوى، ما لم تأتِ في ضوء العقل والتدبُّر واصطحاب السياقات والمقارنات، مع التسامي بالنصِّ عن حرفيَّته إلى مقاصديَّته. أمَّا القفز على ذلك كلِّه من أجل توظيف النصوص، سلبًا أو إيجابًا، فذلك هو الإفك المبين.
هكذا افتتح (ذو القُروح) مجلسنا لهذا اليوم، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:
– بالمثال يتَّضح المقال!
– صدقت! مثلًا حينما يَرِد الحديث النبويُّ الصحيح، ويشار فيه إلى عقل المرأة ودِينها…
– ابتدأنا في المناكفة حول المرأة، أيُّها الذُّكوري المعتَّق؟!
– قل ما شئت! بَيْدَ أنَّه كان ينبغي لكلمتي “العقل” و”النقص” هاهنا أن تُفهما على وجهيهما، لا أن يُرفَض النصُّ، أو يثير التشنُّج؛ فهذا هو التعصُّب والتطرُّف الذي يُعمي ويُصِمُّ لدَى كلِّ الأطراف.
– لِـمَ لَـم تُفهَما؟
– لدينا، عادةً في مثل هذا السياق، قراءاتٌ رديئةٌ للنصوص، مع سوء فهم، أو إغراضٍ أحيانًا في التأويل. مثال ذلك أيضًا ما رواه ( مُسْلِم) في “صحيحه“، عن (أبي ذر)، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إذا قام أحدُكم يُصَلِّي، فإنَّه يَسْتُرُهُ إذا كان بين يدَيه مثل آخِرة الرَّحْل، فإذا لم يكُن بين يديه مثل آخِرة الرَّحْل، فإنَّه يَقطع صَلاتَه الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسود“.(1) فيضجُّ الضاجُّون من هذا النصِّ!
– لماذا؟
– الآن- وبقطع النظر عن تأويل الحديث- وبقراءةٍ محايدة، لدينا: “الحمار، والمرأة، والكلب الأسود”، هل قال: إنَّ هذه الثلاثة بمنزلةٍ واحدةٍ في المعنى، أو القيمة، أو الشَّرَف، أو الطهارة؟
– حاشا وكلَّا!
– لكن القراءة المحمومة بذِكر المرأة بين الحمار والكلب تثور، لمجرد ورودها بينهما. ولو قيل: “الغزال، والمرأة، والأسد”، لما وقع ذلك.
– تثور لتصوُّر أنَّ الثلاثة تقطع الصَّلاة للعلَّة عينها.
– وهذا ما لم يَرِد في الحديث أيضًا، وإنَّما هو تحميلٌ للنصِّ بمعانٍ في بال المتلقِّي، ليست بصحيحة بالضرورة.
– ماذا عن الحمار والكلب الأسود؟
– لا يعنينا هنا التعليل وراء القول بقطعهما الصَّلاة. لكن من المؤكَّد أنْ ليست في النصِّ مساواةٌ للمرأة بالحمار والكلب، في أي صفةٍ من صفاتهما، كما قد يحلو تصوير ذلك أحيانًا، ولمآرب أخرى.
– طيِّب، لماذا رُوِي عن (السيِّدة عائشة)، أنها كانت تستنكر الحديث، وتقول: “قد شبَّهتمونا بالحمير والكلاب! والله، لقد رأيتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يُصلِّي وإنِّي على السرير، بينه وبين القِبلة مضطجعة“(2)؟ وقعتَ، يا شاطر، يا ذا القُروح!
– كم تعجبني شخصيَّة عائشة القويَّة! وها هو ذا صوت المرأة الحقيقي والمستقل، قبل دعاوَى النِّسويَّة المعاصرة. لكن ألا ترى أنها إنَّما كانت تستنكر (التشبيه)، غير الوارد في الحديث، لا الحديث نفسه. ولعلَّ هذا الفهم التشبيهي كان قد طرق بعض العقول منذ وقتٍ مبكر، وهو محلُّ اعتراضها.
– ما الفرق؟
– ما يُستنبط من قولها هو أنَّها تفهم أنَّ المرأة التي تقطع الصَّلاة: المرأة الأجنبيَّة فقط، لما في ذلك من إشغال للرجل عن الصَّلاة، وعن الخشوع؛ فالصَّلاة ليست حركات وهمهمات، بل انصراف كلِّي عن كلِّ شاغل.
– لكن ماذا عن مرور الرَّجُل الأجنبي أمام المرأة وهي تُصلِّي؟
– هنا السؤال! إنْ صحَّت العِلَّة في المرأة، صحَّت في الرَّجُل، سواءً بسواء؛ ليدور الحُكم مع العِلَّة وجودًا وعدمًا.
– أم هل يقال إنَّ المرأة تقطع صلاة المرأة أيضًا؟!
– بل كيف يُلتزَم ذلك كلُّه في مكانٍ كالحَرَمَ، أو في الحَج، بحيث يُشترَط أن لا تَـمُرَّ امرأةٌ أمام رَجُلٍ يُصلِّي، إلَّا إنْ كان مِثل آخِرة الرَّحْل بينهما؟!
– عليك نور!
– كان علينا فهم النصوص، إذن، بشموليَّتها، لا بمجتذَّاتها من هنا وهناك، إنْ كُنَّا باحثين عن الحق، لا آخذين بمغالطة (رجُل رَجُل القَش).
– أتفق معك في هذا. لكني أرجو أن أفهم ما يدور في رأسك بشموليَّته، لا بمجتذَّاته من هنا وهناك؛ لأنِّي أزعُم أنِّي من الباحثين عن الحق!
– اختلاف الجنسَين حقيقةٌ لا تُنكَر، ولا مفرَّ منها، وهي ظاهرةٌ واقعيةٌ وعِلميَّةٌ، لا تنفيها المكابرات، ولولا ذلك الاختلاف ما كانت حياة. وإلى جانب ذلك اختلاف بيئة المرأة عن بيئة الرَّجُل، وتفاوت القدرات والخبرات بينهما تبعًا لذلك. ولذا فإنَّ “نقص العقل” المشار إليه لا يعدو وصفًا لما يعتور المرأة من تغيُّرات فسيولوجيَّة وسيكولوجيَّة.
– ما دمتَ قد جئت بمصطلحَي (فسيولوجيَّة) و(سيكولوجيَّة)، فقد أقنعتني!
– عليك من الله ما تستحق فقط، يا ذنَب الخواجات!
– المهم ما تلك التغيُّرات “الفِسيو” و”السيكو”، يا ترى؟
– نتيجة الاضطرابات الهرمونيَّة للحمل والولادة والدَّورة الشهريَّة.
– يا سلام!
– وهي ناقصة دِين؛ لأنها لا تؤدِّي الفرائض الدِّينيَّة كالرَّجُل، للأسباب المشار إليها.
– تخريجاتٌ قديمة!
– فلتُنكِر، إذا شئت، أنَّ المرأة مرأة، وأنها تمرُّ بتلك الحالات!
– لا نستطيع إنكار المقدِّمات، لكننا نستطيع إنكار النتائج!
– هذا تناقض! ومهما يكن من مِراء، فإنَّ ذلك النصَّ لا يعدو وصف واقع الحال. وليس شتيمةً أو تنقُّصًا من قَدْر المرأة. غير أنَّه تحميل النصوص ما لا تحتمل، ولأغراضٍ معروفة. ثم بعد هذا، لو أردنا التوسع في مناقشة مثل هذه المهزلة القرائيَّة المُغْرِضة للنصوص، لأمكن القول: إنَّ الطَّرَفَين، ذُكوريِّين ونِسويِّين، إنَّما يأخذان مفرداتٍ لُغويَّةً قيلت قبل أكثر من 1400 سنة بما دَرَج في شوارعهم وأذهانهم، حول معنى كلمات: “ناقص”، “عقل”، “دِين”. وإلَّا فكلمة “ناقص” قد تأتي صفة ذاتية تارةً، واسم فاعلٍ في غيره تارة؛ أي أنَّ المرأة ناقصةٌ لعقل الرَّجُل ودِينه! وليست تلك بسُبَّةٍ أو انتقاصٍ من شأنها، بل قد تكون بعكس ذلك. والعقل كذلك لا يعني في مواطآت اللِّسان العَرَبيِّ ما يتبادر إلى الذهن أوَّل وهلة، من: الذكاء، والقدرة على التمييز، ومهارات التعلُّم، فحسب، بل معناه أوسع من هذا، متصلٌ بالحكمة، والحِلم، والصبر، ورباطة الجأش، إلى غير ذلك. على أنَّ النقصان في هذا، إنْ صحَّ في المرأة، تقابله لديها بحورٌ من العواطف، لا يملك الرَّجُل إلَّا بعض بعضها. فالرَّجُل ناقص في هذا الجانب أشدَّ النقص، قياسًا إلى المرأة. وما ذلك بمعيبٍ فيه، كما أنَّ نقصانها قياسًا إليه ليس بمعيب؛ فذلك وهذا سبيلا التكامل في الخصائص والوظائف بين الجنسَين. وأمَّا مفهوم “الدِّين”، فعالَم أوسع في معانيه من ذاك كلِّه.
– وعليه؟
– وعليه فإنَّ التحليل اللُّغوي، والفهم الكُلِّيِّ للنصوص، والتحليل النفسي والبيولوجي…
– ما دمتَ قد قلتَ (البيولوجي)، فقد اقتنعتُ!
– ليس من هدفي أن أُقنعك، على كُلِّ حال! غير أنَّ الوعي الموضوعيَّ بطبائع الأشياء ومعطيات الواقع، هي عناصر تنقص قراءاتنا وأحكامنا، غالبًا. فضلًا عن نوازع عاطفيَّة وفئويَّة تتأجَّج نحو المناكفة والمزايدة، وهو ما لا يُنتِج معرفةً ولا عدلًا، بل مزيدًا من الجهل والحَيف والتطرُّف. والجهل جهلان: (جهل المعرفة)، و(جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق). ولذلك فإنَّ العُذر بـ(الجهل المعرفي) في شؤون الدِّين والدُّنيا أمرٌ عقليٌّ وعدليٌّ، لولاه لما كان معنًى لبعث الرُّسل وتعليم الجاهل، على حين أنَّ (جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق) لا عذر به، لا في دُنيا ولا دِين. بَيْدَ أنَّ من لا يُدرِك الفروق اللُّغويَّة يقع في حيص بيص. ولأجل هذا ترى تخليط كثيرٍ من الخائضين في شؤون التُّراث بلا فِقهٍ بأسرار لغته، وعلى ذلك الفِقه مدار الفهم والحُكم.
… … …
وتركتُ صاحبي اللَّدود ذا القُروح في حيص بيص، من احتدامه المعتاد، على أمل عدم اللقاء به، ولكن هيهات!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مُسلِم، (2006)، صحيح مُسلِم، عناية: أبو قتيبة نظر محمَّد الفاريابي، (الرِّياض: دار طيبة)، (الحديث 510)، 1: 232.
(2) م.ن، (الحديث 512)، 1: 233.