بعد مرور أكثر من ستة أشهر على الأزمة الاجتماعية والسياسية الحادة التي تعصف بـ “إسرائيل”، ما زال الباحثون المهتمون يناقشون أصولها وخصائصها وعواقبها المتوقعة على مستوى النظام الإسرائيلي ككل، وفيما يتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي على وجه الخصوص. جزءٌ مُهم من جذور الأزمة هو التباين الفعلي في وجهات النظر المختلفة التي تُفرزُ خلافاتٍ عميقة حول ما يحدث ومعانيه ودلالته.
تتميز “إسرائيل” بعددٍ من الانقسامات العميقة التي تُغذّيها التركيبة المتنوعة لسكانها، فهي دولة غير متجانسة تسكنها مجموعات متعددة الثقافات، فَشِلت لغاية اللحظة في بناء قواسم مشتركة حول هويةٍ وطنية جامعة، رغم المحاولات التي بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي؛ لترسيخ مجتمعٍ يهودي “موحد” عبر مفهوم “بوتقة الصهر”. أدى فشل هذا المفهوم إلى خَلقِ فُسيفساء متنوعة من الانقسامات عبر الأجيال، تعمقت وتأججت في السنوات الأخيرة، وتعمّقت معها صُور التعبير العلنية عنها وأضحت، على ما يبدو، غير قابلةٍ للتوفيق.
والمؤكد أن “إسرائيل” حقيقة دولة منقسمة للغاية منذ سنوات، وليس مع بدء الاحتجاجات على التعديلات القضائية، معروفةٌ ويُقرُ بها حتى كِبار قادتها. ففي خطابه أمام مؤتمر هرتسليا في حزيران 2015، صَرَحَ الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين أن “العمليات الديموغرافية والثقافية تعيد تشكيل وجه المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة، من مجتمع يتكون من أغلبية صهيونية واضحة وأقلية، إلى مجتمعٍ يتكون من أربعة قطاعات أو “قبائل” رئيسية: (العلمانيون، والقوميون المتدينون، والأرثوذكس المتشددون، والعرب)، وهي تقترب من بعضها البعض في الحجم، لكن المسافة الثقافية والسياسية بينها تتزايد يومياً، وتنقسم كل “قبيلة” إلى مجموعاتٍ فرعية عديدة تُميّزها الاختلافات والخلافات أكثرَ من التقارب والقَبول”.
هذا الخطاب يُعبّرُ صراحةً عن أهم سمات المجتمع الإسرائيلي منذ نشأته؛ مجتمعٌ مُتعدد المجموعات منقسمٌ بشدّة تَحكُمه التوترات والخلافات. ولم يساهم لقاء المهاجرين اليهود القادمين من الدول المختلفة في “إسرائيل” بجعلهم “إسرائييلن صَرف” رغم مرور سنوات طويلة على هجرتهم، بل ظل كل طرف يرى نفسه يهودياً عراقياً، أو مغربياً، أو روسياً……إلخ. وعندما يلتقي أيٌ منهم في مكان ما في فلسطين، يسود شعورٌ بفرق المسافات وطرق الحياة المختلفة، بما يصعب معه التداخل والاندماج بسهولة وبسرعة، ولعلّ تجميعهم في فلسطين سرّع في كشف الخلافات والصدوع بينهم. والواقع فعلاً، أن العمليات الديموغرافية التي حدثت فيما بعد الهجرة إلى فلسطين أعادت تشكيل وجه المجتمع الإسرائيلي، وخَلقت “نظاماً إسرائيلياً جديداً”، يتكون فيه المجتمع الإسرائيلي من أربعة قطاعات، أو إن شئتم أربع “قبائل” مركزية، تختلف اختلافاً جوهرياً عن بعضها البعض. ومن المُعتاد الإشارة إليها في “إسرائيل” اليوم بالتالي: الانقسام القومي “يهود-عرب”؛ والديني “ديني- علماني”؛ والطائفي “أشكناز غربيين- سفارديم شرقيين”؛ والأيديولوجي “يمين- يسار”. يضاف إليها في السنوات الأخيرة، وفي ضوء اتساع الهوة الاقتصادية، الانقسام الطبقي بين الأغنياء والفقراء. وتتفاقم حدة الانقسامات بسبب تداخل بعضها مع بعض، أي أن هناك تمثيلاً مهماً لمجموعة معينة في مجموعة أخرى، على سبيل المثال، يتبنى غالبية المتدينين مواقف يمينية؛ وينتمي جمهور واسع من العرب والمتدينين اليهود الشرقيين إلى المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية.
ورغم أن الانقسام بين اليهود والعرب لا يستند فقط إلى أساس الجنسية، بل إلى الدين واللغة والثقافة، يعززه الفصل الجغرافي وأنظمة التعليم المنفصلة، ومسارات الحياة التي لا تكاد توجد فيها مساحاتٍ مشتركة، ينظر المجتمع الإسرائيلي إليه باعتباره الأكثر خطورة، إذ يرتبط هذا الشعور، من ناحية، بتعزيز الهوية الفلسطينية بين المواطنين العرب في “إسرائيل”، وكذلك بالإحباط المتزايد من كونهم مواطنين من الدرجة الثانية فيها، وبمواجهة الخوف الوجودي للجمهور اليهودي من “العدو الداخلي”، من الناحية الأخرى.
أمّا فيما يخص “الانقسام الديني” فقد ظهر حتى قبل قيام “إسرائيل”، وانعكس التوتر الذي يُحيط به في خطاب “الوضع الراهن” الذي أرسله بن غوريون إلى رؤساء حزب “أغودات يسرائل” عام 1947، بشأن حُرمة السبت وقضايا “الكوشر” الحلال، وخدمة المتدينين في “الجيش” وغيرها. وغالباً ما يتربع الانقسام الديني على رأس هرم التوترات داخل المجتمع اليهودي، فقد أصبحت قضية المساواة في العبء، “تجنيد المتدينين في الجيش”، محوراً للجدل السياسي والقانوني منذ تسعينيات القرن الماضي، بل وأصبحت محوراً للتحريض المدني مع تنامي الشعور بأن قلة هم الذين يتحملون العبء، ويخاطرون بحياتهم في القتال، وبدأت تتآكل قيمة الخدمة الاحتياطية في جيش الاحتلال في السنوات الأخيرة. أمّا على المستوى السياسي فقد استمر “التقسيم الديني” في كونه أحد أكثر الخلافات تَفَجُّراً منذ أن كانت الأحزاب الدينية والمتشددة شركاء دائمين، تقريباً، في جميع الائتلافات الحكومية. وظلت قضايا الدين والدولة سبباً رئيسياً لأزمات التحالف، وما زالت سلسلة الأزمات في أمور الدين والدولة حاضرة بقوة في المجتمع الإسرائيلي حتى يومنا هذا.
أنتَجت التصدعات التي حدثت في مفهوم “بوتقة الصهر”، والتي كانت سائدةً في العقدين الأولين من عمر “دولة إسرائيل” الانقسام الطائفي، فقد سعى بن غوريون، في طريقه لإقامة الدولة وإنشاء مؤسساتها، إلى تبني هذا المفهوم الذي كان هدفه تحويل المجموعات المختلفة من المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم وقدامى المهاجرين والاشتراكيين والليبراليين واليمينيين والمتدينين، وصهرهم في “شعبٍ واحد”، لأنه كان يؤمن بأنه “إمّا أننا سنكون واحدا، أو أننا لن نكونَ على الإطلاق”. فَرَضَ هذا المفهوم ثمناً باهظاً في محو هوياتٍ يهودية معينة، لا سيما ذات الأصل الآسيوي والأفريقي، وانتجت الرغبة في التخلص من رموز الشتات و”البدائية” سياسة إقصاءٍ وتمييز ضد المهاجرين الجُدد، الذين لم يندمجوا في قلب المجتمع الإسرائيلي، إذ تمّ توجيه العديد منهم إلى مستوطنات نائية. وأدى تركيزهم في الهوامش الجغرافية والاجتماعية والثقافية “للدولة”، فضلاً عن السياسة الأبوية تجاههم، إلى تشكّل “الانقسام الطائفي” الذي أدى إلى نشوء مجموعتين: الأولى من أصلٍ (آسيوي – أفريقي) مقابل أولئك المنحدرين من أصل (أوروبي – أمريكي)، أو المهاجرين من الدول الإسلامية مقابل المهاجرين من الدول الغربية. كشفت أحداث وادي الصليب عام 1959 عن أول تعبير عن الإحباط والاحتجاج من قبل المهاجرين الجدد، تلاها تأسيس الحركة الاحتجاجية المعروفة بـ “الفهود السود” عام 1971، وأظهرت هذه الاحتجاجات التصدعات العميقة في المجتمع الإسرائيلي والفجوات الموجودة بين المنحدرين من أصول آسيوية وأفريقية وأؤلك من أصل أوروبي. في منتصف الثمانينيات، تشكل “المزراحيم” الشرقيون، وهم أبناء الجيلين الثاني والثالث الذين تلقوا تعليمهم أو ولدوا في “إسرائيل”، وخاصة التقليديين والأرثوذكس المتطرفين بينهم، كقوة سياسية تحت قيادة حزب “شاس” في ردة فعل على “الهيمنة الأشكنازية الغربية” في “إسرائيل”.
في العقدين الأولين من إنشاء “إسرائيل”، كان التقسيم بين اليمين واليسار يتعلق بشكل أساسي بالأيديولوجية الاقتصادية؛ الاقتصاد الاشتراكي مقابل الاقتصاد الليبرالي. أنهت حرب حزيران 1967 هذا التوجه، وانقسم المجتمع إلى طرفٍ يتماهى مع فكرة “أرض إسرائيل الكاملة”، وآخر يؤيد صيغة “الأرض مقابل السلام”. استمر الانقسام في التأجُج مستفيداً من الاستقطاب في قضايا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بين اليمين الأيديولوجي، الذي سعت عناصره الراديكالية من أجل “دولة واحدة”، ويسار الوسط الذي سعى إلى تسوياتٍ على أساس الانفصال، وهكذا تغذّت الانقسامات العميقة بين الجماعات المحافظة والدينية والجمهور الليبرالي. ظل هذا الصدع أرضاً خصبة لتزايد حدة الانقسام وبروز الخلافات إلى السطح، والتي تستمر بفعل تصاعد قوة اليمين الإسرائيلي المتطرف داخل المجتمع الإسرائيلي، وتناحره لاستثمار يمينية المجتمع بما يخدم أجندته وتطلعاته.
تبدو صورة “الوحدة” التي تحاول “إسرائيل” رسمها عن نفسها بزَعمِ أنها “دولة” “يهودية وديمقراطية” بعيدة كل البعد عن تمثيل الواقع الذي تعكسه أجزاء مهمة من الجمهور الإسرائيلي. وحتى في هذه القضية الأيديولوجية المركزية، التي من المفترض أن تُحدد طبيعة وهوية “دولة إسرائيل”، هناك خلاف حول معنى هذه الصيغة؛ فما هي الدولة اليهودية وما هي الدولة الديمقراطية؟، فالصراع على صورة “الدولة اليهودية” بدأ مع بداية تأسيس ونشاط الحركة الصهيونية، بين أولئك الذين يريدون أن يروا “إسرائيل” دولةً يهودية وفقاً للشريعة، وأولئك الذين يريدون رؤيتها دولة يهودية علمانية ذات هوية ثقافية تقدّمية.
هذا الانقسام الاجتماعي القديم العميق تأجج في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة السياسية الحادة التي تجلّت في سلسلة من خمس جولاتٍ انتخابية “للكنيست” على مدار ثلاث سنوات، ممّا أضعف النظام السياسي الإسرائيلي، وقوّض بشكلٍ كبير ثقة الجمهور في المؤسسات السياسية والحكومية. فاقمت الخلافات الشخصية والخطاب الشعبوي الذي ميّز القيادات السياسية، النزاع وتكثّف العداء المتبادل بين وداخل، المعسكرات السياسية المتصارعة، فضلاً عن انتشار خطاب “الهوية الضيق”، الذي غذّته عدوانية الشبكات الاجتماعية إلى حدٍ كبير، على خلفية الاستقطاب الحاد بين مؤيدٍ ومعارضٍ لبنيامين نتنياهو.
تدرك الأطرف المتصارعة في “إسرائيل” وتشعر أن الأزمة الحالية هي أولاً وقبل كل شيء، في جوهرها، أزمة هوية متعددة الأبعاد، فهي في الأساس صراع حول بنية القوة والتأثير في المجتمع الإسرائيلي، ولا يبدو أن هناك نهاية للصراع المُعقّد بين المعسكرات المختلفة. إنها أزمة مستمرة، مدمرة وغير مسبوقة من حيث خطورتها ونطاقها وعواقبها، ويصعب تقدير كيف وأين ستتطور. وحتى لو توصلت الأطراف إلى نوع من التسوية في المجالات القانونية، فمن المشكوك فيه أن تنتهي الأزمة العميقة القائمة على مشاعر الريبة والعداء العميقة، وعلى تصوراتٍ أساسية متجذرة عن هوية “إسرائيل” وطابعها. من الممكن أن تتغير طبيعة الأزمة من حين لآخر، وقد تكون هناك فترات راحة قصيرة أو طويلة أثنائها، ومع ذلك، من المشكوك فيه إمكانية العودة إلى الحياة الطبيعية “المحدودة” التي كانت سائدةً في “إسرائيل” قبل بدء الاحتجاجات. ولا ينبغي استبعاد احتمال تدهور طبيعة المواجهة بين المعسكرات إلى درجة العنف، فإمكانية العنف “الأيديولوجي المنظم” موجودة في المجتمع اليهودي، ومن الممكن افتراض أن الأمور قد تتغير إلى الأسوأ بسرعة ودون سابق إنذار في ظل تعمق الأزمة في المستقبل. وما استخدام لغة “الحرب” و “النضال” إلاّ تعبيرٌ عن الإحساس بالخطر الشديد من نتائج الصدع الاجتماعي الحاد والمزمن بين “الإخوة الأعداء” في “إسرائيل” المُنقسمة.
ولد في ٢١ أيّار ١٩٧٢ في السّواحرة الشّرقيّة-ـ القدس.
ـ حاصل على ماجستير دراسات اقليميّة من جامعة القدس.
ـ اعتقل أمنيّا لمدّة عشر سنوات.
ـ يعمل مديرا للتّخطيط والدّراسات في محافظة القدس.
صدرت له عدة كتب الكتب.