سميح غنادري
الإثم الذي اختاره النائب البرلماني والمحامي أيمن عودة لكتابه الذي صدر مؤخرًا هو(الوطنية والمواطنة). وأضاف للعنوان الرئيسي عنوانًا فرعيًا توضيحيًا للفحوى الرئيسية للكتاب هو (رؤيا لتجديد المشروع السياسي للفلسطينيين في إسرائيل) تمتد هذه الرؤية والرؤيا على كافة صفحات الكتاب الى 181 صفحة.
لا يؤرخ عودة في كتابه للجماهير العربية الفلسطينية ولقضاياها في إسرائيل، ولا لارتباطها العضوي والقومي بشعبها العربي الفلسطيني، ولا لكفاحها المدني داخل اسرائيل، ولا لقضية الاحتلال، ولا لمطلبها بالمساواة القومية والمدنية، ولعلاقتها مع القوى الديموقراطية اليهودية. مع العلم أن كل هذه المواضيع وغيرها تخترق كل صفحات الكتاب بفحواها المركزي الذي هو باختصار مكثّف: رؤية ورؤيا سياسية وتنظيمية وثقافية لواقع شعبنا مع التركيز على المستقبل المنشود من خلال طرح الهمّ السياسي القومي والوطني والأممي والتنظيمي بصفته همًّا ثقافويًا أيضًا. والثقافة المنشودة هي الخيط الذي يخترق كل صفحات الكتاب والعامود الذي ترتكز عليه (خيمته).
يقوم بذلك أيمن عودة من خلال الفصول الأساسية والمحورية للكتاب، وهي (تطور الأزمة وآفاق المشروع”، و”مواصلة تمكين المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل)، و”توسيع الشراكة العربية اليهودية”، و”النيسج الاجتماعي والوحدة الوطنية” ، و”في الشأن الثقافي”.
ما من خطأ في اعتبار الكتاب كتابًا يحتوي على خمسة فصول. هذا عِلْمًا بأني أعتبره كتابًا ذا فصل واحد من خمسة أجزاء، هو الفصل الشمولي وهو الرؤية والرؤيا للتجديد المنشود للمشروع السياسي الوطني، الوحدوي، القومي والأممي.
وفي رؤية عودة لقضايا شعبه يشحننا بتجربة الماضي الغنية بنجاحاتها وببعض فجواتها وأخطائها، ويغمرنا بإستشهادات من أقوال القيادة الرباعية لمسيرتنا – الإميلين: إميل حبيبي وإميل توما، والتوفيقيْن) توفيق طوبي وتوفيق زيّاد. ولاحظت أن أيمن عودة بتقديره الكبير لهؤلاء الأربعة لا يطالبنا بالنسخ والترديد السطحي لأقوالهم ولأفعالهم، بل يطالبنا بتذويت تجربة الماضي والارتكاز عليها ومن ثم تجديدها. وكأنه بهذا يقول لا تنسخوا الماضي ولا ترددوا أجوبته على أسئلة الحاضر. الماضي مضي , والواقع جديد محليًا وشرق أوسطيًا وعالميًا، والمطلوب تنظيميًا وفكريًا وجوب تغليب القواسم المشتركة لشعبنا بكافة أطره السياسة والحزبية والاجتماعية وبانتهاج نهج التعامل الجديد والمتجدّد دون التخلّي عن كل ما هو سليم في ماضينا وما زال يصلح لحاضرنا. هذا الى جانب التأكيد على وجوب تبنّي الرؤية والرؤيا المستقبلة، وعدم تقديم كل أجوبة الماضي على أسئلة الحاضر هو يفعل هذا دون أن ينسي الإشارة بأجوبة ماضوية سليمة وما زال بعضها مناسبًا لعصرنا. أحسنتَ يا أيمن في هذا، وكنت دايلكتيكيًا مبدعًا باعتمادك لا على شكلية الدايلكتيك بل على جوهره الذي هو كل شيء في وحدة وتناقض، وفي ثبات وحركة، وما من شيء ثابت مطلقًا إلا الحركة. لذا تجدّدوا يا رفاق إن كنتم لا تريدون أن تتجمدوا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أدعوكم الى إعادة قراءة فصل في (الوحدة الوطنية) في الصفحات 130-140. وكيفية معالجة أيمن لمسألة الانتخابات المحلية العربية، وأي نهج وحدوي يجب اعتماده فيها من قبل الحزب الشيوعي والجبهة على أساس برنامج وطني وعمراني موحّد يرفض الاذناب للسلطة والحزبية الضيقة والطائفية والعائلية المتعصبة، ويحتوي الجميع تعزيزًا للوحدة الوطنية وضمانًا لتحقيق الإنجازات للجميع رغم الاختلافات الحزبية والعائلية والطائفية يجب تغليب المشترك، هذه هي وصية أيمن عودة التي تتردد على صفحات الكتاب.
أيمن عودة وطني وقومي وأممي عاقل، ولأنه مسكون بقضايا شعبه أولًا، وبذاك الثالوث أيضًا: السلام والمساواة ومواجهة العنصرية، يربط به الوحدة الوطنية لشعبه ولا يقع في وحل العنصرية تجاه الآخر، وبالنسبة له أهلًا وسهلًا في سبيل هذا بكل حليف، بمن فيه اليهودي. ولا يدعو أيمن إلى أن يكون الحليف صورة عنّا أو نكون نحن صورة عنه. هو يدعو الى تحالفات عينية حتى لو كانت على قضايا مشتركة قليلة ومحدّدة. والمطلوب بالنسبة له لا قبلية الأحزاب ولا حزبية القبائل، كما كنت حذرتُ في أحد مقالاتي، بل أوسع عمل وطني وعمراني وحدوي ومشترك. وبهذا كان أيمن في كتابه ليس فقط اليساري الوطني المعروف، بل الداعيّ المملوء والمسكون بالدعوة لأوسع وحدة وطنية ممكنة.
قد يوافق بعض القراء على كل ما ورد في الكتاب، او لا يوافقون على بعض ما ورد فيه. ليس هذا هو الأمر الأكثر أهمية.
المهم والأهم أن كتاب أيمن عودة قد أصاب القراء، بمن فيهم أنا المسكون بالهموم السياسة والفكرية والثقافية منذ أكثر من نصف قرن، بمسّ كهربائي أعاد للقلب نبضه الشبابي ووطّد ما عندي من أفكار وجعلني أفكر جديًا بتغيير وتبديل بعضها.
لقد دعانا الكاتب جميعًا، في يبوسة وجفاف حاضرنا المحلي والشرق أوسطي والعالمي إلى غرس مائة وردة وسنبلة في جفاف صحراء واقعنا، محليًا وشرق أوسطيًا وعالميًا وإحالتها الى مرج من الورود والسنابل أتذكرون ما قاله محمود درويش في شعره؟ عندما كان صديقًا للسنابل تدفق من بين يديه نهر جداول وعندما أصبح صديقًا للعسل حطّ الذباب على شفتي
أيمن عودة يزرع حقولنا بالسنابل ويحثنا على التفكير وعلى اعادة النظر بمواقف لنا قد آن الأوان لإعادة إصلاحها او حتى لتبديلها.
أحسن أيمن عودة حين عدّد الأطر الوطنية الوحدوية التي أقامها شعبنا بدءًا بهيئات الطلاب العرب في المدارس الثانوية والجامعات وصولًا الى لجنة المتابعة العامة التي شملت ممثلي هيئات أحزابنا المختلفة وكافة أطره التنظيمية ويوصينا بأنه على هذه الأطر الجامعة الحرص على القاسم المشترك فيما بينها الذي يتخطى الاغلاق ضمن المبنى الحزبي الضيق والعائلية والطائفية، وهو يكاد يرفع النسيج الاجتماعي والوحدوي والوطني لشعبنا الى حد القداسة.
هذا هو الثالوث السياسي المقدس، الآب والابن والروح القدس – الوحدة الوطنية والكرامة القومية والمشروع الثقافي الديموقراطي والتقدمي والإنساني الجامع. ينهي أيمن عودة كتابه بالإشادة بالتقدم العلمي والأكاديمي والمهني الذي حققته شرائح شعبنا.
لكنه لا يغفل للحظة وجود ربط هذا بالمواطنة المتساوية وبالوطنية الجامعة لشعبنا التي تتعدى إطار المصالح الحزبية الضيقة مهما كانت سليمة.
قد يسأل القارئ: ألا تختلف مع أيمن بخصوص أي موقف من مواقف التي يعرضها كتابه؟ ولماذا لا تتطرّق الى هذا؟ أجيب على هذا بقولي تربطني بأيمن عشرات اللقاءات بمئات ساعتها، وبحثتُ بقارئتي المتكررة للكتاب عن نقاط خلاف تستحق نقدها سلبًا.
فلم أجد والذنب ليس ذنبي. أيمن هو المسؤول (المذنب). لقد ألّف كتابًا عصيًّا عن النقد السلبي له لمن لهم مثل رؤيتي السياسية والاجتماعية.
كتاب جمع فيه تجربة وخبرة عقود متتالية بين عمله الشعبي الوطني والبرلماني بدءًا من عضويته في بلدية حيفا والتفاعل مع الهمّ اليومي للناس، وبسكنه تقريبًا في النقب وطرحه لقضاياه، وصولًا الى الانخراط الميداني بقضايا مدننا وقرانا، وللمنابر والعواصم العربية والعالمية.
بما فيها الوصول الى الأمم المتحدة رافعًا علم السلام العادل والمساواة القومية والمدنية والتقدم الاجتماعي والديموقراطي والهموم الثقافية.
شكرًا لأيمن عودة على هديته لنا، كان مبدعًا في إبداع كتابه.