زياد شليوط – شفاعمرو – الجليل*
تقع رواية “السيرة الحرفوشية آل خوري – إقرث” للكاتب نايف خوري، في 272 صفحة من القطع الوسط، ورسمت لوحة الغلاف الفنانة تغريد حبيب، والتي عكست من خلالها أهم ما جاء في الرواية، حيث تبدو كنيسة اقرث وأهل البلدة يتحلقون حولها، بينما كاهن الكنيسة/ القرية الأب سمعان يسير في الاتجاه الآخر في مقدمة اللوحة.
يخبرنا الدكتور سليم توفيق خوري، ابن اقرث وقريب الكاتب ومقيم في شفاعمرو، في المقدمة التي كتبها بأن الكاتب “يأخذنا في روايته هذه، في رحلة وجدانية تمتد على خمسة قرون وتتنقل بين العراق، سوريا، لبنان وفلسطين، مضيئا حقبة في التاريخ بشخصيات يلتبس فيها الحقيقي مع المتخيّل بما يلائم الحاجة لخلق عالم روائي، وبكثير من تفاصيل الحياة اليومية والحوارات، التي وإن لم تحمل أي تأثير على سير الأحداث في النص إلا أنها تمنحه حميمية ومصداقية” (ص 15).
يجعل الكاتب راوي القصة “سراج”، وهو ليس اسم شخصية إنسانية كما يتوهم القارىء للوهلة الأولى، بل سرعان ما يكتشف بأن المقصود هو سراج قنديل الزيت، الذي ينير خيمة “الشيخ نايف”، في ساعات المساء، وهو الجد الأول لعائلة حرفوش وزوجته “ستي الشيخة” وأولادهما الثلاثة فؤاد، توفيق وسعيد. ويعرفنا القنديل على نفسه قائلا “أنا على أتم الاستعداد دائما كي أخدمهم شرط أن يشبعوني زيتا، ويمدوا خيط القطن المثبت في رأسي حتى يبقى نظيفا ومشتعلا”. (ص 20). ويخرج الراوي أحيانا عن سرد أحداث القصة، ليحكي لنا قصصا جانبية تهدف الى الإصلاح الاجتماعي، وأظن أن الكاتب وقف وراء ذلك ليوصل رسالة للمجتمع مثلما فعل في فصل “أسرار من الخباء”، عن حادثة اغتصاب ارتكبها راعي الغنم بحق فتاة صغيرة، فيخرج الراوي/ الكاتب عن السرد ليطرح العديد من الأسئلة التي تناقش الحادثة من كافة جوانبها ومنها ما ينسحب على أيامنا، وتدخل وجهات النظر العلمية والتربوية والنفسية في الموضوع الى جانب الآراء التقليدية ويختمها بالوعظ والإرشاد، حتى يكاد ينسينا القصة الأساس، وما أن ينتهي من هذه الحادثة حتى يروي لنا حادثة أخرى تتعلق أيضا بالأخلاق وهي السرقة.
في انتقال العائلة من العراق الى مدينة تدمر السورية، ينقطع الراوي عن إخبارنا بأي شأن لعائلة الجد نايف، هل تم زواج ابنه سعيد كما خطط له، كيف قضوا حياتهم هناك؟ بل ان الراوي يتبدل هنا، حيث انتهى دور السراج وأصبح الراوي يسرد القصة بالضمير الغائب، ونجده ينتقل بنا الى عصر جديد لجيل جديد من العائلة، ونتعرف على زعيم العائلة ويدعى “الأمير موسى حرفوش”، وهو من الأثرياء في تدمر بل يعتبر حاكما عليها، وعائلته باتت كبيرة حتى أنه لا يعرف أفرادها، لهذا عزم على عقد اجتماع للعائلة ليتعرف اليهم، والى جانبه مطران تدمر وهو ابن العائلة أيضا ويدعى أنطون حرفوش، لكن اجتماع التعارف ينقطع بسبب هجوم مفاجئ على المدينة زرع الخراب والدمار فيها، وهذا يذكرنا بأسلوب تنظيم “داعش” وسواه الذين عاثوا دمارا وخرابا في سوريا قبل نحو عشر سنوات، نراهم في الرواية يسلبون وينهبون ويحطمون ويتعرضون للأعراض ويعتدون على المقدسات زارعين الرعب والخوف في قلوب الناس. ويتحالف الأمير موسى المسيحي مع جاره الشيخ محمد العبد الله الذي يهب مع رجاله للدفاع عن المدينة، ويثمر تعاونهما وتحالفهما في التصدي للغزاة وقطاع الطرق، وفي الاجتماع الذي عقدوه بعد النصر قال الشيخ محمد: “نحن نقف كلنا صفا واحدا في وجه كل من يعتدي عليك سيدنا المطران، ونعتبر ذلك اعتداء علينا شخصيا”. (ص 114).
يتعرض المطران لحادثة اعتداء عليه داخل الكنيسة من قبل قطاع طرق وبأعجوبة ينجو منهم، وبعدها مباشرة يصله خبر شنق بطريرك القسطنطينية غريغوريوس الخامس في إسطنبول على يد السلطة العثمانية الغاشمة. ولا تنتهي المصائب هنا وإذ بخطر جديد يهدد المدينة وأهلها وزرعها، وهو هجوم الجراد الصحراوي على تدمر، فيستعد الأهالي وبوحدة صف للذود عن وطنهم أمام العدو الجديد المختلف نوعا وعتادا، وتنجح خطة القضاء على الجراد نتيجة تضافر الجهود والتعاون بين الأهالي، وما أن يخرجوا من هذه الجولة حتى تأتيهم مأساة جديدة، وهي وقوع زلزال كبير شق الأرض وأتى على المدينة بغالبيتها، وكأن الأحداث تعود على نفسها حيث شهدت سوريا زلزالا كبيرا في شهر شباط الماضي، والزلزال في الرواية يؤدي إلى انهاء إقامة عائلة حرفوش في سوريا، فيقرر من تبقى منهم وفي مقدمتهم الأمير الذي فقد كل أمواله وعقاره وأصبح فقيرا، التوجه الى الجنوب الى بلاد فلسطين.
في الطريق الى فلسطين تقيم العائلة أولا في القرية السورية خبب التي تقع جنوب سوريا في سهل حوران، ويلتقي المطران أنطون مع مطران خبب جورج ويتفقان بوجود الشيخ موسى على الإقامة في البلدة وإيجاد عمل للوافدين اليها وهذا ما تم. وتواجد بين أفراد العائلة سمعان الذي عمل في الطبابة، وكان لديه طفل يدعى بولس وولدت زوجته ابنة أسمياها “جميلة”، مع أنها ولدت قبيحة الوجه. وبعدها بأيام يطوّق الجيش التركي البلدة ويجمع الشباب والرجال لأخذهم عنوة للخدمة في الجيش وحروب الإمبراطورية العثمانية، ومن بين من خطفوهم بولس الابن الوحيد لوالديه دون أن يعلما ما جرى له. ويخضع بولس للأعمال الشاقة والعذاب، لكن قريبا له يتعرف عليه في المعسكر، وينقذه من ذاك الجحيم بالهرب معا بالاتفاق مع بدو من المنطقة، ويعود بولس سالما لوالديه، ويقرر سمعان نذر نفسه للكنيسة لقاء سلامة ابنه ويتوجه للمطران مستأذنا إياه، ويتشاور المطرانان معا ويقرران اعداد سمعان للخدمة الكهنوتية نظرا للنقص في الكهنة، وفعلا يتعاونان على تأهيله لهذه المهمة. وبعد رسامة الأب سمعان بأيام تصل رسالة من مطران صور تطلب تعيين كاهن في قرية إقرث في شمال فلسطين، فيقع الاختيار على الأب سمعان الذي وبموجب أمر الطاعة للكنيسة يوافق، ويتوجه مع عائلته الى إقرث فيستقبله أهلها بترحاب ويصبح واحدا منهم.
ويهتم الأب سمعان بالقرية ويجمع الأهل من حوله لتوسيع بناء الكنيسة واضافة أجنحة جديدة لها، ويعيش في القرية مع زوجته حتى وفاته عام 1886، ويدفن جثمانه في الكنيسة وهو أمر لم يكن مألوفا. وكان قد أنجب بنينا وبنات، ويقدم لنا الكاتب قائمة بأسمائهم وأسماء أولادهم وأحفادهم وصولا الى أبناء عائلة الخوري اليوم.
يصعب – بناء على قراءتي للرواية – تحديد هوية الكتاب، رغم أن الكاتب أطلق عليه صفة “الرواية”، إلّا أنه لا يخضع لقالب الرواية المتعارف عليه، فقصة آل حرفوش تجمع بين الرواية والتأريخ كما ذكرت في عنوان المقالة، كذلك الأحداث في جانب كبير منها حقيقية والشخصيات حقيقية وذكرت أسماؤها الواقعية، وهي تروي لنا سيرة عائلة الكاتب نفسه، الذي نجح في سردها بقالب قصصي واضح، حيث يمكن اعتبارها رواية تاريخية كروايات جورجي زيدان، التي نقل من خلالها تاريخ العرب بقالب قصصي جميل. وختاما أهنيء الكاتب نايف خوري على روايته الجديدة، التي جمعت بين الفائدة والمتعة، وهما شرطان أساسيان للعمل الأدبي الناجح.
* الكاتب – سكرتير الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين – الكرمل 48