يعتبر موضوع تذويت القيم لدى الطلاب من أهم المواضيع التي تشغلني كمربية، تعمل في سلك التعليم وكمطّلعة عن كثب على وضع الطلاب العامّ، وأنّي لأرى وأسمع العجب العجاب من زملائي المعلمين في مدارس عدة عن تراجع الطلاب عن الالتزام بالقيم والمعايير التربوية، وإن أردت أن تدرس وتكتب بشفافية وصدق عن هذا الموضوع، فما عليك إلّا أن تتواجد في الغرف التدريسية وأن تتجول في المدارس وأن تلتقي بمعلمين وتحاور طلابًا، وأن لا تكتفي بالجلوس من وراء مكتبك وتكتب عن هذا الموضوع بالذات من برج عاجيّ، لأننا بحالة تسارع وتغيير مجتمعيّ. فنحن نتكلم عن فترة حاسمة من حياة الفرد، فيها تتشكّل شخصيته وتُصقل ويتبنّى عاداته وتقاليده من مصادر كثيرة ومختلفة كالأهل والحارة وجماعة الأصدقاء والمعلمين، وغالبًا ما يقتدي بهم. كما أنّ هنالك دورًا وتأثيرًا للمدرسة والمجتمع عامة، فهذه الثقافة المتلقاة تجعلنا ندرك أنّ التربية للقيم بجميع أشكالها هي التي تدفع الصغير لاحقا ليكون إنسانًا صالحًا، يحافظ على نفسه ويهتم بتراثه ومجتمعه ويعمل على إثبات قدراته وتحقيق طموحاته الذاتية التي لا تقلّ أهمية عن النمو والتطور الجسديّ. وبما أنّ هنالك تنوعًا في مصادر الثقافة المقدَّمة للطالب فإنّه من المهم الوقوف والاهتمام بالمعارف القيمية التي يتم تدريسها، تكرارها، مناقشتها والعمل على تذويتها للطالب من خلال المنهاج وبرنامج الخدمات الاجتماعية (شيفي שפ”י שירות פסיכולוגי) وغيرها من البرامج المقدمة من وزارة التربية والتعليم، التي اهتمت بتزويد المعلم بموادّها وفعالياتها الّتي تساعده على تذويت القيم في طلابه ومن هذه القيم:
- قيم اجتماعية: كالتعاون، العطاء، الصداقة، المحبة، احترام الناس والاهل وأيضا المساعدة.
- قيم أخلاقية: آداب الحديث، التسامح، الصدق الأمانة، الإخلاص، التواضع وغيرها.
- قيم صحية: النظافة، الحفاظ على الجسم، البيئة والوقاية عامة.
- قيم معرفية: العلم وأهميته الابداع والابتكار وإتقان العمل والمعارف الطبيعية وغيرها. نحن المعلمين والأهل نحتاج إلى العمل بجدية ومثابرة لتذويت هذه القيم بنفوس أولادنا، ولا سيما ونحن نعيش في وسط أصبحت فيه مظاهر التقليد منتشرة وسائدة في حياتنا وأن تطور المجتمع ونجاحه مبنيّ على تنشئة أولادنا، وهم النواة لجيل مستقبليّ، وأيّ خلل ما بين طالب التّربية والمربي والبيئة حتمًا سيؤدي إلى خلل في النتيجة.
ووفق النظرية الاجتماعية لباندورا فإنّ الفرد يكتسب اللغة والمفاهيم المختلفة والقيم الاجتماعية والدينية والسلوكية والإنسانية عن طريق المحاكاة، النمذجة والتقليد، وعن طريق التفاعل المباشر مع الأفراد المحيطين، أو غير المباشر، حيث يقوم الفرد بتقليد الدائرة الأولى في العائلة ليكتسب القيم السلوكية والأخلاقية، وكلما زادت محبة الأفراد للنموذج كلما زاد تأثير هذا النموذج بشكل كبير علي الأفراد، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، كالسينما والتلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة لمنهاج القصص والشخصيات الخيالية والأسطورية أيضا.
القدوة مهمّة في التربية، وبدونها تصبح العملية التربوية ناقصة ومبتورة، إذ لا تكفي الكلمات والمواعظ لصلاح الإنسان، فلا بدّ للشخص من أن يرى تلك الكلمات سلوكًا متجسدًا في الحياة، لذا عندما وصفت السّيّدة عائشة – رضي الله عنها – النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت: “كان خلقه القرآن”، فقد تحوّلت تعاليم القرآن إلى خلق نتخلّق به من قدوتنا الكبرى وسلوك نسلكه.
القدوة حاجة إنسانية وضرورة تربوية، وغيابها في عملية التربية أزمة وفراغ لا يُسدّ، كما أن وجود قدوة ذات تناقض بين قولها ما فعلها، يعد أزمة أشد في عملية التربية، وربما هذا ما أشار إليه عالم التربية الأمريكي “جون هولت، John Holt” في كتابه “كيف يفشل الأطفال، How Children Fail” بقوله: “ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء، فقد ولدوا أذكياء، كل ما علينا فعله هو التوقف عن فعل الأشياء التي جعلتهم أغبياء”، فالقدوة هي التي تنفخ الروح في الكلمات والمواعظ وتجعلها حية متفاعلة مع النّفوس الاجتماعيّة.
وقد أوصانا سيدنا عيسى المسيح – عليه الصلاة والسلام – أن نعلم أبناءنا ما صنعه الله من أجلهم. كان يريد أن تستمر الأجيال التالية في الحفاظ على كل وصاياه. وفي حالة فشل أحد الأجيال في تعليم الجيل الذي يليه فإنّ المجتمع يصبح عرضة للانهيار السريع. لذا ليس على الوالدين مسؤولية تجاه أولادهم فقط، بل هو تكليف من الله بتعليمهم قيمه وحقه.
لذلك نحن الكبار مرآة الأجيال القادمة والمسؤولية تقع علينا جميعًا.
فمن هذا المنطلق ومن المنطلقات السّابقة فإنّ الأخلاقيات الـتي يتم تمريرها وتعليمها للطلاب في المدارس، ومما ذكر عن أهمية العائلة في تذويت القيم، فإني أكاد أحصر المسؤوليّة في المدرسة والأهل، فهما المسؤولان الأساسيّان عن تنشئة الأجيال في المجتمع.
لذلك، وقبل أن نقدم النصائح والتوجيهات لأبنائنا وطلابنا يجب أن نكون خير قدوة لهم. لقد سئم الأولاد من توجيه النصائح لهم من المعلّمين، من الأهل والمجتمع، فنحن موجودون أمام إشكالية كبيرة في عملية تذويت القيم في وجدان أبنائنا وطلّابنا، فالكثير من القيم التي يتلقّاها الطالب والابن من خلال تقليد تصرّفات الكبار. أنا لا أنكر العبء والصعوبة الكبرى في عملية التربية في ظل وجود النوافذ المغلوطة والكثيرة كمصادر سلبيّة للمعلومات في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأنّ الأهل والمعلّمين يقعون في دوامة، ما هو الصحيح وما هو المغلوط في عملية التربية.
يبدأ التغيير عند الصغار بالاعتماد على أعمال الكبار وليس فقط بالكلام، فخير درس هو الذي يبدأ بطرق الإيضاح أو التجربة العملية التي من خلالها يلمس الطالب التجربة بيديه ويراها بعينيه وعندها يبدأ بالتقليد والتنفيذ بعد أن رأى، سمع وفكّر. كيف لنا أن نطلب من الأبناء أن يلتزموا ويحترموا القيم والعادات ونحن الكبار لا نفعل ذلك. وتبقى الأسرة الركيزة الأولى للقدوة والمحاكاة. فللقدوة في المجال الأسري تأثيرها العظيم، ومن يطالع سير العظماء سيجد أن جزءا كبيرا من القدوة والأخلاق تحصلوا عليها من أسرهم، بفعل الاقتداء بالأب أو الأم، وهناك من نصح الأب قائلا: “لا تدع لقمة العيش تمنعك من صنع الحياة”، فالابتعاد الكثير للأب عن البيت قد يُوجد فراغا في القدوة، وقد يكون أحد مسببات الأزمات التي تشهدها الأسرة المعاصرة في العالم، فالجميع مشغول، وهو ما يجعل الأطفال والصغار يبحثون عن أي قدوة للسير خلفها، دون أن يمتلكوا أيّ معايير لتحديد القدوة الجيدة وتمييزها عن السيئة، ولهذا كان “جون وودن، John Wooden” أحد الشخصيات ذات التأثير في المجتمع الأمريكي يقول: “أن تكون نموذجًا يحتذى به هو أقوى أشكال التعليم”، وكان “فرانسيس بيكون” وهو أحد الشخصيات المؤثرة في الفكر الغربي يقول: “من يعطِ النصيحة يبنِ بيد واحدة، ومن يعطِ المشورة والمثال الجيد يبنِ بكليهما، لكن الذي يعطي عتابًا جيدًا ومثالًا سيئًا، يبنِ بيدٍ ويهدم باليد الأخرى”.
نأخذ قيمة الحفاظ على نظافة المكان والبيئة العامة كمثال. هذه القيمة يتعلّمها الطالب نظريًا من البيت والمدرسة من خلال التوجيهات ومن خلال المواد التعليمية ومن خلال وجوده في بيئة نظيفة في البيت، في الشارع وفي المدرسة. عندها يدرك الطالب أهمية المحافظة على بيئة نظيفة في مدارسنا، شوارعنا وحاراتنا. فحريّ بنا أن نزيل أكوام القمامة من جنبات الطرقات وتنظيف الشوارع وألّا نلقي علب السجائر من نوافذ السيارات قبل أن نطالب الطلاب بتنظيف غرفهم وصفوفهم وحاجاتهم.
كيف لي كمعلّمة أن أعلّم عن قيمة النظافة وحاويات القمامة ملقاة على الأرصفة بطريق الطلاب وأحيانًا لا يجدون ممرًّا للعبور ويضطرون إلى النزول من الرصيف إلى الشارع حتى يستطيعوا الوصول لمدرستهم وملابسهم نظيفة.
كيف يمكن أن أعلّم عن قيمة النظافة ومواقف السيارات وملاعب الأولاد تملؤها حاويات القمامة. والأدهى والأمرّ أن مدارسنا ليس عن هذا الوضع ببعيدة بأيّ حال. فالساحات، الملاعب، الحمّامات، الممرّات، الزوايا، الجدران الداخلية، الأسوار الخارجية، الطاولات، الشبابيك وغيرها بحاجة إلى عمليات تنظيف جذريّ.
أهلنا الكرام! هل موضوع النظافة له تأثير على مدى تركيز الطالب؟ ناهيك عن أنّ عدم النظافة تؤدي إلى انتشار الجراثيم وتكاثر العدوى وازدياد الأمراض. كما أن عدم نظافة المدرسة له تأثير سلبي على الصحة النفسية للطالب، وربما يكون سببا في تشتت تفكيره وعدم تركيزه على المدى البعيد وتحدّ من مهاراته الذهنية.